لعبة الفتنة

حجم الخط
8

دائما كانت تتم المصائب هكذا.
ينفجر الصدام الطائفي فجأة، ومن دون سابق إنذار، ولأسباب تافهة، قد تكون قصة حب بريئة أو غير بريئة بين طرفين من دينين مختلفين، أو عبث أطفال بشعارات أو إشارات دينية، أو هجمات بلطجة بقصد سرقة كنيسة أو إيذاء مسجد، ثم تشتعل الحرائق وتسيل الدماء، ولا يكون بعدها إلا الحزن وتراكم الغيظ في النفوس، والدأب على الترديد الببغائي لشعارات الوحدة الوطنية، وعقد الجلسات العرفية البدائية، وتبويس اللحى بين مشايخ وقساوسة، ومن دون محاكمات عادلة تفصل، ولا عقاب يلحق بالقاتلين.
سمها ما شئت، احتقانا طائفيا، أو مفاصلة طائفية، أو صداما طائفيا، لكنها ـ بالتأكيد ـ ليست حربا طائفية ولا أهلية، فمصر ليست وطنا لحروب أهلية، وليس فيها جغرافيا الحرب الأهلية، ولا ثقافة الحرب الأهلية، ولا تواريخ الحرب الأهلية، بل هي حالة انسداد عام، وتربص لا ينكر، وتصريف طائفي لاحتقان اجتماعي تراكم عقودا، ففي زمن المشروع الناصري، لم يحدث صدام طائفي واحد، كانت الدولة قوية وقادرة، وكان قانونها يسري بلا تثريب ولا تعقيب، وكانت الغالبية الشعبية مندمجة في تعبئة وطنية عامة، لا تنتهك حرمة مسجد، ولا تؤذي كنيسة، بل يتسع نطاق التعليم الأزهري، وتتطور مناهجه، ويتحول الأزهر إلى جامعة مرجعية لعموم العالم الإسلامي، وتقام كاتدرائية الأقباط العامة على نفقة الدولة، ويضيف نفوذها الروحي إلى وزن مصر في العالمين، وتتآكل الفروق حتى في أسماء الأولاد والبنات بين المسلمين والمسيحيين، وتتسع رقعة أسماء مشتركة مثل جمال وإبراهيم وسامي وحنان ونادية وسهير وكمال ورمزي وماجدة.. إلخ بين المصريين جميعا، ثم يحدث الشرخ العظيم مع الانقلاب على المشروع القومى بعد حرب 1973، وذهاب السادات إلى القدس المحتلة، وعقد معاهدة العار المعروفة باسم معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وبدء انفتاح ‘السداح مداح’، وتفكيك مشاريع التصنيع والاختراق التكنولوجي والتنمية المستقلة، ووضع اقتصاد مصر تحت وصاية صندوق النقد والبنك الدوليين، وشفط السلطة والثروة إلى أعلى، ووقوع مصر في القيد الاستعماري من جديد، وتحول السفارة الأمريكية إلى دار جديدة للمندوب السامي، وتعميم البؤس بين غالبية المصريين، وتضخم نفوذ تيارات التعصب الديني، ومضاعفة سطوة أجهزة الأمن على الحياة العامة، وسقوط معنى الدولة الراعية اجتماعيا واقتصاديا، وانقسام البلد إلى أغنى طبقة وأفقر شعب، وهو ما حول حياة غالبية المصريين إلى جحيم يومي، وتراجع بالوعي الوطني العام، وأحل وعيا طائفيا انعزاليا، ظهر حتى في اتساع الفجوة بين الأسماء في سجل المواليد، وصار لأسماء المسيحيين نكهة قبطية كنسية أو أفرنجية صريحة، وحتى لو كانوا من أفقر فقراء البلد وسكان أحيائه العشوائية، ولم يكن ذلك فقط تحولا في عادة التسميات، بل جزءا من عملية تحول إلى تفكيك المجتمع نفسه، والمفاصلة في السكن والعمل، ونشر الكراهية المفتعلة، وتزوير الاحساس بالظلم الواقع، وتحويل المظالم الاجتماعية إلى مظالم دينية، وإشعال الفتن الطائفية بين صفوف الفقراء، وهم غالبية المصريين، وهو ما يفسر تداعي حوادث العنف الطائفي في أطواق البؤس، وربما لا تكون مفارقة أن تجاور الحدث الأول مع الحدث الأخير، فقد وقعت واحدة من أوائل حوادث العنف الطائفي في مدينة ‘الخانكة’، وهي المجاورة جغرافيا تماما لمدينة ‘الخصوص’، التي وقع بها الحادث الأخير قبل العدوان على الكاتدرائية، ولا يخدعنك وصف هذه المناطق بالمدن، فهو مجرد وصف إداري مفارق للحقيقة الاجتماعية، فكلها مناطق بؤس عشوائي، ومثلها عشرات المناطق و’المدن’ من حول القاهرة المزدحمة بأحيائها الفقيرة الغالبة على نسيجها، وكلها مناطق عنف اجتماعي مكبوت يجري تصريفه طائفيا أحيانا، ومثلها مناطق بؤس من حول مدينة الجيزة، وفي قلبها ـ أحيانا ـ كمنطقة إمبابة مثلا، وكذا من حول العواصم الكبرى كالإسكندرية وغيرها، وتكوينها السكاني نازح من خزان البؤس الأعظم في جنوب مصر، وحيث تصل معدلات الفقر والأمية إلى أعلى درجاتها، وتنتشر خرائط العنف الطائفي، وتختلط دواعي التعصب العائلي مع دواعى التعصب الديني، وتصل عملية التصريف الطائفي للاحتقان الاجتماعي إلى ذروتها، وتتوالى الأحزان والأكفان، وتجري عملية تضليل الناس عن الصناع الحقيقيين للمحنة، وصرف انتباههم إلى أعداء وهميين، وتصوير المسلم عدوا للمسيحي، والعكس بالعكس، ولفت الانتباه عن الفئات والطبقات الحاكمة والصانعة لبؤس المسلمين والمسيحيين معا.
كانت تلك لعبة جماعة مبارك، وهي ـ من بعدها ـ لعبة جماعة الإخوان، فالجماعتان لهما نفس اختيارات السياسة والاقتصاد، ولهما نفس الانتماء بالمصالح إلى ‘جماعة البيزنس’ والنهب العام، كانت جماعة مبارك سعيدة بحوادث العنف الطائفي، فهي تصرف النظر عن الفشل والفساد السياسي والاقتصادي للجماعة الحاكمة، وهي نفس الصورة التي تبدو عليها جماعة الإخوان الحاكمة الآن ‘افتراضيا’، والتي تعاني من فشلها السريع المذهل، وتلجأ لاقتصاد التسول ومضاعفة الديون، وتنخفض شعبيتها باطراد، وتتصور أن قسمة الناس إلى مسلمين مقابل مسيحيين قد تفيد، وأن تزوير حقيقة الصراع الاجتماعي والسياسي الجاري حول مصير الثورة، وإحلال صراع ديني مزور، قد يفيد في خلق وعي زائف، وفي افتعال شعبية جديدة على أساس ديني، وقد أتقنت جماعة مبارك ـ في الماضي ـ لعبتها، وكانت تستفيد من حوادث العنف الطائفي كفزاعة تنفير من جماعة الإخوان وأخواتها، لكن لعبة الإخوان ـ هذه المرة ـ لا تبدو متقنة، ولا مؤدية إلى النتائج المرغوبة، فلم يعد أحد ينظر بجدية إلى الإخوان كتيار ديني، ولا كجماعة تنتسب إلى معنى الشريعة وصحيح الإسلام، بل كجماعة تخدم المليارديرات والأمريكان، وتتعامل مع السلطة كإعارة أو كإغارة، وتمكن ‘الأهل والعشيرة’ ـ بتعبيرات مرسي ـ من مفاتيح السلطة والثروة، ومن دون مقدرة على إحراز نجاح عام على أي صعيد، ومع رغبة دفينة وظاهرة في تحطيم الدولة وتفكيك المجتمع، والعدوان على المقدسات الإسلامية بذات حماسة الاعتداء على المقدسات المسيحية، ولم تكن مصادفة أن جرى الاعتداء على مشيخة الأزهر قبل الاعتداء على الكاتدرائية القبطية، ومن قبل اعتداء الإخوان على مشيخة الأزهر، جرى اعتداء الإخوان على مسجد بلال بن رباح في حي ‘المقطم’، وفي الحالتين كانت مسؤولية الإخوان ظاهرة جنائيا، وموثقة بشرائط الفيديو، بينما تبدو المسؤولية الجنائية ملتبسة في حادث العدوان على الكاتدرائية، وإن كانت وزارة داخلية مرسي قد اختصرت الطريق الجنائي، وأصدرت بيانا قالت فيه ‘نأسف لأي أذى لحق بالكاتدرائية’، والأسف مخفف ومموه بالطبع، وعلى طريقة ‘يكاد المريب يقول خذوني’ فقد ارتكبت قوات مرسي جريمة غير مسبوقة في التاريخ المصري، وانتهت إلى العار الذي يستحقه ‘الرئيس’.

‘ كاتب مصري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمود سالم:

    مقال رائع
    للأسف قد خاب أملنا جميعا بالإخوان لقد كان الكثير يعتقدوا ان الاخوان الأفضل لمصر. لي صديق مصري كان ينوي انتخاب الاخوان وبصفتي أني من غزة واعرف ما وصلت له غزة كنت أقول له وأنصحهه بان لا ينتخب الاخوان ومن مبرراتي أني اعرف ان الاخوان وطبعا حماس يقومون في البداية بتقوية انفسهم ماديا عسكريا اقتصاديا دستوريا حتي يصبحوا القوة الأكبر وللأسف ينسوا ان يقوموا بتقوية الأوطان والدولة وطبعا هذا اسميه قصر الأفق السياسي فلو جرت انتخابات اخر فسوف يخسروا فالجميع شاهد هذا في غزة عند احتفالات انطلاقة فتح .
    لنر جع الي مصر ، هنا ما يحدث في مصر بالضبط مثل ما حدث في غزة فمنذ ان جاء الاخوان بدوا بتكوين شبكة اعلام وبتشكيل جماعات و تغير قوانين ووضع رجالاتهم في الأماكن الحساسة،،
    والآن صديقي المصري ندم علي انتخابهم ،
    الحل هنا في مصر استقلالية مرسي عن الاخوان وتشكيل حكومة تضم جميع الطوائف السياسية عدم الانتقام من أعوان النظام السابق أو تأجيل ملاحقتهم لان بناء مصر الجديدة يحتاج ذراع كل مصري

  2. يقول سالم عواد:

    وهل كان بامكان الجبهة المعارضة بكل اطيافها انقاذ المصريين من هذا الواقع المرير لو فازت في الانتخابات ؟! نشك في ذلك كثيرا!! لايمكن لأحد ان يحل المشاكل المتراكمة مرة واحدة والتي لم يكن للأسلاميين دورا في نشوئها . ان اتهام الاسلاميين بكل هذه التهم الباطلة لايمكن ان يقبله عقل سليم! كان على الفئات الثورية المعارضة ان تعمل على التفاهم مع التيار الاسلامي وان تتفهم ضرورة التعاون مع السلطة الحاكمة لحل المشاكل واحدة تلو الأخرى بدلا من كيل الاتهامات ونشر الأضاليل وعرقلة مسار الثوره املا منها باطاحة واقصاء الاسلاميين.ان كان الاستاذ قنديل يتصور بأن انصار التيار الاسلامي قد انفضّوا عنه فلما ذا الخوف والتردد من انتخابات برلمانية قادمه؟!! ان السعي لاقصاء السلطة الحاكمة يعني السعي الحثيث الى السقوط في هاوية لاقرار لها. أما آن للجميع ان يتنازلوا عن رغباتهم الجامحة والمتطرفة من اجل وطنهم المهدد بالدمار والخراب؟ لاقيمة لدستور ولا لقانون ما لم تتغير الأخلاق !! ولا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بانفسهم من مساوئ.

  3. يقول Hassan:

    في الأحياء القديمة لكل بلد عربي كان هناك بين كل
    مسجد ومسجد تجد مسجدا وبين كل جامع وجامع تجد جامعا. اليوم وقد اتخذ كل له عمامة وأطلق لحية
    وصار خطيبا من على منابر شاشات الفضائيات.
    لقد بات من الضروري إطلاق حملة في الوطن العربي
    مسجد لكل حي وجامع لحيين أو ثلاثة. ثقافة التعايش
    تنمو مع من يدرس منذ نعومة أظافره القران والحديث
    النبوي. المسجد في الحي تقام فيه الصلوات الخمس وهو
    مكان يجتمع فيه سكان الحي الواحد شيبا وشبابا.
    المسجد فيه يلتقي العبد بربه وبخلقه وفيه ذكره.
    أما أن تجد مقهى بين كل مقهى ومقهى آخر فماذا ستنتج تلك الأماكن في مصر أو في غيرها غير ما يدعو إلى الفتنة بين كل أطياف المجتمع الواحد. الطغاة لم يؤسسوا لمجتمع نقي بل آثروا المال على الإنسان وتكوينه وبناءه. لقد آن الأوان لإعادة الإعتبار
    للمسجد حتى لا ترى فتنا.

  4. يقول مصطفى مراد:

    تحليل هش وضعيف وكلام فارغ. يؤسفني ان اكتب ذلك يا استاذ قنديل.

  5. يقول الشريف الحسني النمساوي:

    ” وذهاب السادات إلى القدس المحتلة، وعقد معاهدة العار المعروفة باسم معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية ” , وهنا مربط الفرس , لن تتحرك مصر يا استاذ قنديل مالم تلغى معاهده العار هذه , اذ انها تجعل مصر مقيدة بلا وزن سياسي في المنطقة

  6. يقول د.زبيدي:

    عبد الناصر تسلم مملكة مصر والسودان وحكما ذاتيا لغزة وخرج بانفصال السودان وخسارة ثلث مصر (سيناء) واحتلال غزة و٦٠ الف قتيل في اليمن وتدمير الجيش المصري ومنع حرية الاعلام وقفل الصحف وسجن المعارضين وقتلهم وتعذيبهم وديون بالمليارات. هل كان يجرأ احد بانتقاد عبد الناصر ناهيك عن شتمه

  7. يقول رمزي مهيوب:

    هذا المقال المطول..!!لم يمنح مرسي وجماعته مثله من الوقت حتى ليجلسوا على كراسي الحكم فمن أول يوم مظاهرت بالشارع لم توقف لحظة خاصة بعد الهدنة التي أشرف عليها مرسي بين حماس والصهاينة وكانت بدون تدخل دول الخليخ كما كان يفعل اللأمبارك فدعمت هذه الوجوه الشاحبة من كثرة عمالتها للهم بهذه الفوضى اللأخلاقة يمنح الشخص وقته حتى يكمل فترته القانونية فقد أختاره الشعب المصري العظيم
    أما أن تهدموا هذا البلاد بأيديكم فهذه حماقة بكم تلبسوها مرسي لهوانكم والسلام

  8. يقول الأفندي:

    مقدمة المقال جيده ولكنها تمهيد للهجوم على الرئيس وجماعة الاخوان كما هو الحال في جميع مقالات الكاتب منّذ تسلم الاخوان للحكم. الإشتباك بين المسلمين والمسيحيين ليس جديدا بل حصل في عهود مختلفه بصرف النظر عن الأسباب واتهام الاخوان بالمسئوليه عن أي مشاجره قد تحصل في أحدى الحواري او قيام فئه من المواطنين بقطع الطريق للمطالبه بمنافع شخصيه وغير ذلك من الأحداث اليوميه فهذا ظلم وتجني ومخالف للحقيقه. والمنطق يقول ان ان من مصلحة النظام الحاكم أن يحافظ على استتباب الأمن ليتفرغ لادارة البلاد. وان كان من أحد او جهه متهمه في تخريب البلد ووصولها الى الفوضى التي نشهدها وتحدي القانون والتجرؤ على الرئاسه وأماكن السياده ….والى غير ذللك مما نشهده ويصعب حصره فهم الذين يسمون أنفسهم بالمعارضه. فالواضح ان الهدف افشال الرئيس الحالي بأي وسيله وارباك الرئاسه والحكومه عن اداء عملها والتقليل من انجازاتها . فهم يطالبون بمحاكم وقرارات ثوريه لتحقيق اهداف الثوره ومحاكمة الرموز الفديمه وعندما يصدر الرئيس مرسوما لتحقيق بعض مطالب الثوره قامت الدنيا ولم تقعد حتى الآن!؟ انا مللت من متابعة اخبار مصر واصابني الاحباط والأمراض النفسيه بجميع اشكالها. أسأل الله تعالى ان يحمي بلاد العرب من ابناءها وأعدائها على السواء.

إشترك في قائمتنا البريدية