المغرب ذو البعد الواحد

حجم الخط
0

عرف العالم العربي في نهايات سنة 2010 وعلى امتداد أشهر2011 ثورات وحراكا شعبيا لم يشهد له تاريخ الدول العربية المعاصر مثيلا، وكان من نتائجه حتى تاريخ كتابة هذه السطور سقوط ثلاثة رؤساء كانت التقديرات السياسية تضعهم في مأمن من كل المفاجآت، وكان سقوطهم علامة أخرى على استحالة حشر حركية المجتمعات في قوالب التحسيب ‘العلمي’ الهادف لتفسير ظواهر الاجتماع البشري والتنبؤ بمساراتها وحساب مواقع أفلاكها، كما كان علامة على عدم قدرة الناظر على الإمساك بالمنظور في كليته متى كان الناظر هو المنظور والطالب هو المطلوب.
كل الذي في الإمكان خطه بخصوص هذه الثورات أنها أنهت صفحات سوداء من تاريخ هذه الدول كانت أسطرها ملأى بالاستبداد في الحكم والحرية الكاملة في التصرف في حريات هذه الشعوب، ففي الدول العربية لا وجود لغير الحاكم، والشعوب بما هي، كذلك وظيفتها الأساس هي إشعار الحاكم بحاكميته، ولو وجد هذا الأخير إلى هذه الصفة سبيلا يُغنيه عن وجود الشعب لربما استغنى عنه. وقد رأينا حجم الفساد الذي كان يسبح فيه الحكام المخلوعون وهو آية على ما يتبدَّى في مجال النظر عندهم، والذي لم يكن فيه مكان لشعب أو إنسان أو حق.
الشعوب العربية في دول الاستبداد هي ‘موضوعات’ لممارسة الحكم والثورات العربية هي في معتقدي محاولة للخروج من حال ‘الموضوع’ المنفعل لحال ‘الذات’ الفاعلة.
أطلَّت هذه الثورات العربية على بلادنا في زمن سياسي يُعرف عند أهله بالتناوب التوافقي وهي عبارة لا تحيل بمنطوقها على ما قد يُخالف نظرة الأنظمة الاستبدادية للشعوب بما هي موضوعات لممارسة الحكم، لأنها تُحيل على تناوب نُخبة على حكم الشعب لا على اختيار الأخير لمن يحكمه ، ودلالتُها السياسية تكمن في استشعار النظام للعجز عن الاستمرار في الحكم بنفس طرائق الماضي وبنياته وقواعده، فالعود الأبدي لتزوير الانتخابات وتنصيب وإعادة تنصيب نفس الحكومات والحفاظ في البرلمان على نفس المعارضين والموالين، أفرغ اللعبة السياسية من كل إثارة يُفترض وجودها في أي ‘لعبة’، كما أن الأحزاب التي قرر النظام استبعادها من الحكم بدت عليها امارات الهزال السياسي مما قد يُهدد بانفلات قد يطال الشعب المحكوم بنظام ذي بنيتين: ‘بنية سطحية’ تتظاهر بتسيير شؤون الدولة و’بنية عميقة’ تمارس الحكم فعليا.
جاء التناوب إذن، ليس فقط تيسيرا لظروف انتقال الحكم من الملك الراحل إلى ولي عهده، ولكن وبالأساس لبعث الروح في نظام مترهل دخلت مسألة زواله لدائرة الإمكان. ولكن أحزاب التناوب وبقبولها اللعب وفق قواعد الماضي والقاضية بتزوير الانتخابات وبتشكيل الخارطة السياسية وفق إرادة النظام أحلَّت نفسها في موقع ‘المؤلفة قلوبهم’، وذلك ما جعلها لا تهدف لتغيير التقليد السياسي في البلاد ولكن إلى العمل على تكريس النظام النظامي.
ولكن أخطر نتائج التناوب هي أنه انتهى إلى بروز حقل سياسي ذي بُعد واحد لا مكان فيه لمعارضة بالمعنى السياسي أي لقطب سياسي يخلق التوازن في المجتمع ويسمح بتحَول ممكن من الاستبداد إلى التداول، ولعل إدراك النظام لخطورة هذه البنية الأحادية على مستقبله، بما هي حملة تعبئة مفتوحة لخصومه، جعله يصطنع حزبا تنبني شرعيته على امتلاك مؤسسه صفة صديق الملك، وكانت غاية هذه الالتفافة السياسية هي الرغبة في ‘تلَقُّف’ أي معارضة حقيقية ممكنة للوضع السائد وإعادة دمجها في النظام النظامي.
ظهرت حركة العشرين من فبراير في سياقٍ عربي شهد ربيعا للشعوب العربية وخريفا لأنظمة الاستبداد وسياقا مغربيا عرف بداية النهاية للتناوب الذي لم يعد في جعبته ما يعد به، وفاتحة عهد يتسلم فيها النظام مفاتيح الحكم أجمعها عبر حزب صديق الملك، وكأن النظام أراد أن يقوم بما عجزت عنه أحزاب الكتلة وهي كبح جماح النزعات الاحتجاجية، كما الحدُّ من الشعبية المتزايدة للإسلاميين سواء من منهم ينشط ضمن ‘الشرعية’ أو من هم ‘خارجها’.
وقد كان على هذه الحركة الوليدة أن تفرض قواعد جديدة في حقل السياسة وذلك ما فعلته بحيويتها وسرعة انتشارها على رقعة البلاد وكذلك بعامل الثورات العربية الذي جعل النظام يتخذ المسافة اللازمة للهروب إلى الأمام حتى لا يلقى مصير نظرائه في تونس ومصر وليبيا. وقد كان من نتائج هذا الهروب التخلي عن فكرة الحزب الحاكم وتعديل بعض بنود الدستور بالقدر الذي يُبقي الحال على ما هو عليه بنيويا ولكن بتوسيع قاعدة حلفاء التناوب لتشمل العدو غير الموثوق للمخزن: الإسلاميون ممثلون في حزب العدالة والتنمية ومخزونه التصويتي: حركة الإصلاح والتوحيد.
استطاعت هذه الحركة الشابة أن تفرض على النظام ‘تمكين’ حزب ‘العدالة والتنمية’ من الحكومة كما استطاعت ضمان نزاهة الانتخابات الأخيرة، بالقدر الذي يستطيعه النظام، ولذلك دلالته على قوة هذه الحركة كما أن له وجهه البشع الذي يجعل من الحركة بطاقة ائتمان يسحب بها البعض من ‘بنك’ النظام مكاسب عابرة، وذلك السبب الرئيس الكامن وراء تراجع الحركة بل موتها الاكلينيكي (المتمثل في انسحاب ‘العدل والإحسان’)، وفشل حزب ‘العدالة والتنمية’ في التفاوض على سُلطة حقيقية للحكم واستعجاله الكراسي والحقائب واكتفاؤه بالعضوية في نادي ‘التناوب’، كانت نتيجته الطبيعية هي العودة إلى الوضع الحالك السابق وهو الغياب المطلق لأي معارضة وبقاء حكم ذي بُعد واحد وما نراه اليوم من صراع بين ‘البام’ و’العدالة والتنمية’، مثلا، ليس صراع أحزاب وبرامج وخيارات على الحقيقة، ولكن مناكفة ضرائر كل منهما يريد أن يفوز برضا الملك.
وبعد أن أمسى شبح ‘الربيع العربي’ بعيدا، وبعد ما لقِيت دوله من عنت في تعديل دفة الحكم وبسط الاستقرار، يبدو أن الحاكمين بأمرهم في المغرب يشدهم الحنين لمغرب الأمس الذي لا مكان فيه لإسلامي في الحكم حتى ولو على سبيل ذر الرماد في العيون، والحديث الذي يصم الاذان هذه الأيام عن الأزمة الاقتصادية الخانقة والهاوية وغيرها من مفردات التهويل، ما هي إلا مقدمات لازمة لتيسير العودة إلى مغرب ما قبل ‘الربيع العربي’ ولِم لا استئناف المسار الذي كان يحث السير فيه.
ولا يبدو أن ما أنجزته هذه الحكومة سيشفع لها عند هؤلاء، وهل من إنجاز أكبر من أن يُصرح وزير بأن تخفيض أجور الموظفين أمر مستحيل، لقد تحول الحفاظ على الأجور مكسبا في ظل هذه الحكومة وعلى الجميع تقديم الشكر لها على ذلك، أما تحسين الأوضاع وطلب الزيادة فسيكون في الأفق الجديد الذي انفتح مع السياسة الجديدة بطرا وجشعا وقلة حياء. ساسة الأمس أغراهم هذا المنجز وغيره من المنجزات السهلة الممتنعة كنشر اللوائح وتسريب الوثائق وتحويل المكاسب مَطالبا والواقع مُنجزا، فحنوا للأمس القريب الذي كان عليهم فيه تحقيق بعضٍ من الجديد عوض ‘إعادة تدوير’ القديم، الحكم اليوم أضحى أسهل من الأمس، وما على ‘الإسلاميين’ سوى العودة بعد أن أعطوا للسياسة معنى جديدا.
لا يعني هذا الكلام أن المغرب ليس في أزمة ولا أنه ليس على شفير الهاوية لأن الحقيقة أن المغرب كان دائما في أزمة وعلى شفير الهاوية وكان دائما يجد طريقة ما تُمكنه من الابتعاد عنها بضعة أمتار للاقتراب منها مرة أخرى في عود أبدي يجعلنا كما نحن أذكياء لا يظهر على حالنا تغيير مهما استفزنا الزمن.
وكما ينصح نيتشه دائما بالنظر إلى المتكلم قبل سماع مقاله ما عليك سوى أن تنظر في وجوه من يتحدثون عن الأزمة والهاوية لتتأكد مما ذكرتُ أعلاه…

‘ كاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية