الشجرة الأم

حجم الخط
0

يظن البعض أن فشل المشروع القومي في بلادنا العربية قاد على نحو طبيعي شبه آلي الى صعود المشروع الإسلاموي. وهناك من يعتبر ذلك الصعود إعادة اعتبار للتاريخ منطلقين من فرضية تقوم على رؤية للمنطقة منذ احتكاكها بالغرب المتطور القوي يتمثل بصراع ثنائي بين رؤيتين ومشروعين للرد : مشروع قومي حديث علماني ومشروع ديني، سلفي وغير سلفي. في لعبة الثنائية هذه كل هبوط لطرف في المعادلة هو صعود للطرف الآخر والعكس بالعكس، سيما وأن التيار الاسلامي قد اكتسب شرعية ومصداقية بعد أن عانى ما عاناه من قهر وقمع واضطهاد.
تطور الأحداث على الأرض ووصول ‘الإخوان المسلمون’ الى السلطة في أكثر من بلد عربي، ربيعي وغير ربيعي، منح هذه السردية مصداقية بمعنى من المعاني. فلقد تبين أن هذا التيار هو الوحيد المؤهل لأن يكون بديلاً عن التيارات القومية التي حكمت البلاد في المرحلة السابقة.
حالياً يرى أصحاب هذه المدارس الفكرية في التخبط السياسي الجاري تحت أعيننا تأكيداً بالطبع لفرضياتهم الأساس بالرغم من شعورهم ببعض التناقضات بينها وبين الوقائع على الأرض.
الحكام الجدد لا يملكون الخبرة الكافية بشؤون الحكم أو لا يملكون أفكاراً نظرية وتطبيقية كافية وعملية. ‘على الشعوب العربية أن تنتظر قليلا لكي يتعلم الحاكم الجديد الحكم فيحكمهم’. ورانا أي؟ على حد الردة الشعبية المصرية الجميلة. غير أن الأمور لا تجري بهذه السلاسة التي يظنها بعضنا. فالوضع، الذي لتفجرّه ألف سبب وسبب من الصراع الخارجي على مواردنا الى الصراع الإقليمي على ادارة المنطقة بعد الأفول العربي، المصري على وجه الخصوص، الى صراعات الداخل المتنوعة المشارب والأهواء والاهداف والقوى ،لا يمكنه، هو، أن ينتظر بل يتابع سيره الطبيعي الذي من طبيعته، وطبعه أيضاً، أن يزيد الأمور تأزما وحماوة.
كانت الرهانات لعقود عدة خلت تنعقد في منطقتنا حول فكرة الدولة والوحدة والتحرر من التبعية والإستقلال وكانت الأفكار تتصارع حول أفضل السبل للوصول الى الهدف المبتغى. كانت الإنقسامات السياسية المقموعة أو نصف المقموعة لا تدور إلا حول هذه الإشكالية السياسية الواضحة.وبمكن القول بأن المشروع هذا قد سجلّ نجاحات أكيدة بحيث ترافق مع انحسار أكيد للبنى الإجتماعية ما قبل الدولة. اما اليوم فالملاحظ أن موضوع الصراع الرئيسي في منطقتنا قد انزلق من الدولة الى هلالين شيعي وسني. ومن صدف الدهر اللغوية أن يكون الصراع هذا موسوما بالهلالين. كأننا صرنا بين هلالين.
في بداية الربيع العربي ظن الكثيرون بأن الإنتفاض حصل من أجل كسر الجانب السيىء في مشروع دولتنا، الجانب الاستبدادي الذي يمنع المجتمع من الاستفادة من كامل طاقاته وموارده المادية والبشرية. الجانب الذي لا يتيح الاستفادة على نحو عقلاني من كافة إمكانيات الدولة. ظننا لوهلة أن ‘الإسلام السياسي’، كما يقال عامة، جاء ليكمل ما ينقص الدولة عندنا، الديمقراطية. لكن سرعان ما انوجدنا، محلياً، في قلب صراع أهلي – ما قبل الدولة- بين هويات قرابية دينية.
وإذ بنا نعود الى ‘إسلام سياسي’ سني يريد أن يبعد شبح ‘إسلام سياسي’، آخر لكنه شيعي. والمفارقة الأكبر في هذا المجال أنه كلما زاد الكلام على الطوائف والإسلام والشيعة والسنة والسلفيين والتكفيريين كلما ضمر الطرح الاسلاموي العقائدي والديني على صعيد السلطة. فلا الإسلام التونسي طرح برنامجا سياسياً أو إقتصادياً إسلامياً يخرج عن المألوف السابق ولا الإسلام المصري ولا الليبي ولا غيرهم. كل ما حكي عنه حتى الآن لا يخرج عن الإطار القطري للدولة ولا يخرج عن ليبرالية الإقتصاد واحترام حرية السوق. النتيجة أن الإسلامويين ليس فقط لم يأتوا بالديمقراطية الموعودة بل لم يأتوا بما وعدوا به انصارهم من حلول إسلامية صرفة. ما عدا اللهم ميدان الأحوال الشخصية والزواج والطلاق والملبس وما اليها.
التغيير كما حصل لم يطور الدولة ويردفها بما كان ينقصها ولم يأت بالنخب والخبرات العلمية التي كانت مهمشة ، بل أوهن أساساتها وخلق فراغاً مواطنياً أخاف الناس ودفعها من رعبها الى العودة الى أحضان العمران البشري بأشكاله العصبية الأولية.
وربما تكون الحقيقة أن الذي صعد فعلا في حالة الفراغ هذه هو التفتت المجتعي وليس الإسلام السياسي كما يُظنّ. فبعد اصطدام مشروع بناء الدولة الحديثة بحائط منظومة النهب الدولي وانكسار التيار القومي الذي حمله عاد الناس الى نسيجهم الإجتماعي الطبيعي الأولي، الى قبائلهم وعشائرهم وطوائفهم نظراً لغياب بديل سياسي يحمل مشروع الدولة الأمة. عادوا الى القوقعة، الى الرحم، خوفا لا رجاء ولا أملا. العودة لم تكن الى وجهة سياسية أخرى، إسلاموية، كما بدا لاول وهلة، بل الى الصراعات الأهلية الأولية. وهذا التقوقع في ظل انحدار مشروع الدولة ليس إلا رد فعل طبيعي تلقائي لمواطن شعر بالعري نتيجة فقدانه للانتماء المواطني للدولة.
عاد الناس الى التشظي والتفتت والحروب الصغيرة. عاد الناس الى الانقسام على أساس القرابة البسيطة والجماعة البدائية.
الخيار اليوم اذن ليس بين المشروع القومي المنتهية صلاحيته وبين المشروع الاسلامي الصاعد. وليس بين العلمانية والدين، بل بين الموت والحياة بين التفتيت والأمل.
فبين الدولة وبين الإنقسام الأولي الأهلي لا يوجد حل وسط إما المستقبل، الدولة، وإما الحروب الأهلية.
قبل الدولة لا ديمقراطية ممكنة ولا مدنية ولا علمانية ولا حقوق فردية ولا جماعية لأن هذه المصطلحات هي من ثمار الشجرة الام: الدولة الحديثة، دولة المواطن. فإذا غابت الدولة أو سقط المشروع الأساس لا يمكن بلوغ الثمار. كل ما يمكن توقعه لا يتعدى كما نرى وضعها بين الهلالين وحسب.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية