التحرش الجنسي في مصر.. ظاهرة مرضية آن الأوان للتصدي لها بجدية

التحرش الجنسي ظاهرة كونية لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات، بغض النظر عن مكوناته الثقافية والحضارية والدينية. ومع تقدم التشريعات وآليات تطبيق العدالة وضعت معظم الدول قوانين تتعلق بالحماية من التحرش، بشقيه الجسدي واللفظي أولا، ومعاقبة مرتكب جريمة التحرش ثانيا، والتعويض على الضحايا ثالثا. والظاهرة الأكثر انتشارا في المجتمعات الغربية تتلخص في التحرش الفردي في أماكن العمل، حيث يحاول الشخص المتنفذ أن يستعمل صلاحياته وإمكانياته وموقعه في إجبار شخص ما (ذكرا أو أنثى) على الانصياع لرغباته الجنسية تحت طائلة العقوبات، كالفصل وتأخير الترقية والنقل ومضاعفة حجم العمل اليومي، فيما لو رُفضت تلك التحركات، أو الحصول على رزمة من الجوائز أو الامتيازات فيما لو قـبلت. وكم من مسؤول سقط من موقعه الرفيع لأن سيدة ما قررت ألا تصمت على تحرشاته غير المقبولة وأعلنت على الملأ قصة ذلك المسؤول.
التحرش في العالم العربي، خاصة في مصر وبلاد الشام كان إلى وقت قريب مقتصرا إلى حد كبير على إطلاق الألفاظ والتعليقات وجمل الغزل غير المباشر، التي لا تؤذي أحدا ولا تنتهك عرضا ولا تجرح كرامة. لكن الأمور تغيرت كثيرا في السنوات الأخيرة. وأود في هذا المقال أن أتعرض لظاهرة التحرش في مصر بعد ثورة 25 كانون الثاني/يناير في محاولة لسبر أغوار هذه الظاهرة الغريبة غير المألوفة وغير المقبولة والأقرب إلى التصرف البوهيمي، التي قد توحي بأنها مدبرة ومتعمدة ومسيسة، لدرجة أن السيدة نافي بيلاي، المفوضة السامية لحقوق الإنسان، طلبت من الرئيس المصري محمد مرسي التدخل لايجاد حل للاعتداءات الجنسية التي تتعرض لها المرأة، والتي زادت عن الحد لدرجة أن التسترعليها إنما يفاقم المشكلة.
التحرش بعد ثورة 25 يناير
فيما مضى كانت التعليقات الطائشة في مصر بريئة تعبر عن روح مرحة تحب الحياة وتتذوق الجمال وتنبئ عن حالة حرمان وقهر وتكشف عن مخزون كبير من الأمنيات المقموعة، التي تبحث عن متنفس لها فلا تجد إلا هذه الزفرات المعبرة عن قهر الفئات المهمشة وما يعتمل في داخلها، أكثر مما تكشف عن هوس مرضي بالأنثى.
لم يكن أحد يقترب من الفتاة أو يحاول لمسها أو يتمادي باستعمال كلمات نابية.. كلمات تـُـطلق تستحضرالقمر والنجوم والقشطة والعسل والورد بأنواعه وينتهي الأمر عند ذلك.
ظاهرة التحرش بشكلها الحالي الخطير انطلقت من عقالها في مصر بعد انتصار ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011 وإسقاط الطاغية وما صاحب ذلك من انفلات أمني. الحالات الموثقة لا يمكن السكوت عليها أو تصنيفها تحت بند البراءة والفهلوة وخفة الدم، بل انتقلت لتصبح مرضا عضالا بحاجة إلى عمليات جراحية لاستئصال الجزء المعطوب من الجسم واتباع العملية الجراحية بمجموعة من الأدوية لعلاج آثارها، ثم وضع برامج إعادة تأهيل للقضاء عليها نهائيا.
مصر الآن تحتل المرتبة الثانية في العالم في مسألة التحرش الجنسي، ولم يتفوق عليها إلا بلاد الملالي في أفغانستان، التي فازت بالمرتبة الأولى – على الأقل دولتان إسلاميتان تحتلان المرتبة الأولى والثانية ‘ليس مهما في ماذا’. أصبحت الظاهرة الآن تستوجب إجراء دراسة موضوعية تربطها بالظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية وتطرح حلولا عقلانية رادعة ومؤثرة.
تتسم حالات التحرش الموثقة في مصر بأربع مواصفات غريبة قد لا توجد في أي بلد في العالم: أولا التحرش يكون جماعيا وقد يصل العدد إلى مئة رجل أو أكثر، يلتفون حول فتاة ويتزاحمون للوصول إلى جسدها بطريقة همجية، وثانيا تتم العملية في وضح النهار وفي الميادين العامة أمام مرأى ومسمع من الناس، ومن تبقى من شرطة لا تتدخل ولا تستطيع تقديم الحماية حتى لو أرادت، وثالثا تشمل عمليات التحرش السافرات والمحجبات والمنقبات، وهذا يعني أن الأنثى هي الضحية كونها أنثى وقد تكون المنقبة أختا أو أما أو جدة لأحد المتحرشين، وأخيرا يقع اللوم في هذه العمليات الوحشية على المرأة نفسها، كما أفتى بذلك أحد شيوخ السلفية عادل عبد المقصود الذي وضع اللوم بنسبة 100′ على عاتق الفتاة. يبدو أن ذنب الأنثى لدى هؤلاء في كونها أنثى، وهو اعتراض على ما صنع الخالق في قوله ‘صنع الله الذي أتقن كل شيء’.
تفاقم المشكلة
جاء في التقرير السنوي للمجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر أن 64′ من النساء في مصر يتعرضن للتحرش الجنسي بشقيه اللغوي والجسدي. كما وثق التقرير السنوي الثاني الصادر عن مبادرة ‘إمسك متحرش’ في مصر 269 حالة تم الإبلاغ عنها بين تشرين الأول (أكتوبر) 2012 إلى آذار/مارس 2013. ويقول التقرير إن 46′ من المتحرشين دون سن الثامنة عشرة وأن 63′ من حالات التحرش وقعت في الشوارع العامة والميادين والمواصلات العامة وأن 52′ من حالات التحرش تشمل اللمس باليد. الحقيقة أن عدد حالات التحرش العنيفة أكبر بكثير من هذا الرقم، لأن عدد اللواتي يفضلن عدم الإبلاغ والتستر على الأمر خوفا من الفضحية أكبر بكثير من اللواتي يتحدين العادات البالية ويقررن الإبلاغ عن الحادثة. قلة ممن تجرأن بالحديث عن التجرية المريرة التي مررن بها كما فعلت الصحفية الشجاعة والمحترمة هانيا مهيب وبصحبة زوجها، بالحديث على شاشة التلفاز حول العصابة التي تحرشت بها وبطريقة ‘أكدت أنها مدبرة وتم التدرب عليها سلفا’. وقد أصدرت وزارة الداخلية المصرية تقريرا بعد أيام عيد الأضحى الأخير يشمل إحصائية بـ165 محضرا لأشخاص وجهت لهم تهمة التحرش، بما في ذلك سبع حالات هتك عرض ست حالات في القاهرة وواحدة في الإسكندرية.
كما شملت حالات التحرش الكثير من السيدات الأجنبيات، من بينهن طالبات ومدرسات في الجامعة الأمريكية بالقاهرة وسائحات وعدد من الصحافيات أشهرهن الصحافية لارا لوغان مراسلة محطة سي بي إس (SBC) الأمريكية التي حركت حكايتها الرأي العام الأمريكي وهي تصف كيف أن جمهورا يصل إلى نحو 200 شخص هاجمها في ميدان التحرير يوم سقوط مبارك لمدة تزيد عن الأربعين دقيقة ومزق ملابسها واغتصبها بالأيدي والتقط صورا تذكارية لجسدها.
الأبعاد الحقيقية للمشكلة
انطلقت ظاهرة التحرش المرضية بشكلها الأبشع مع نهاية المظاهرات المليونية وفي ظل أجواء الفوضى التي أعقبت نجاح الثورة المصرية في مرحلتها الأولى بإسقاط الديناصور مبارك وزبانيته، وانفلات جهاز الأمن وانتشار حالات السطو والسرقات والمداهمات، وبشكل شبه متعمد كإجراء فلولي لمعاقبة الملايين الذين أطاحوا بـ’كبيرهم الذي علمهم السحر’. ولكن علينا أن نحاول تفسير الظاهرة تفسيرا موضوعيا ونؤكد أن للمشكلة أكثر من بعد وأكثر من تفسير:
-1 البعد الاقتصادي – ما من شك أن تراجع القدرة الإنتاجية في مصر وتراجع قيمة الجنية وزيادة البطالة وانتشار الكساد بسبب انخفاض القدرة الشرائية، دفع بالملايين من العاطلين إلى حالات من اليأس والإحباط واللامبالاة والالتحاق بمجموعات طائشة تمارس البلطجة والتحرش والتمرد المنفلت، الذي يلحق الأذى بالفتيات والتجار والفئات المثقفة والملتزمة بحب وطنها، نساء ورجالا.
2- البعد الديني- إن انتشار التيارات الدينية والسلفية خاصة، قد تركت ثقافة شعبوية تقوم أساسا على شيطنة المرأة واعتبارها إنسانا ناقصا ومصدرا للشر والفتنة والمصائب ومنبعا للعورات. ويعمل هذا التيار من خلال منابره الأسبوعية في المساجد واليومية في فضائياته الخاصة به ومواقعه الالكترونية على تخويف المرأة مرتين مرة من جهنم التي ستكون مملوءة بالنساء، ومرة في الدنيا على أساس أنها سبب البلاوي ولا مكان لها إلا في بيت أبيها وعليها ألا تخرج منه إلا إلى بيت زوجها. لقد انتشرت ثقافة الفتاوى الجنسية المتعلقة بأنواع الزواج وإعادة الاعتبار ‘لما ملكت أيمانكم’ ونكاح المجاهدة حتى أصيب الشباب الصغار من غير القادرين على ‘الباءة’ لارتفاع أسعار السكن والمهور والأثاث، بالإحباط والشعور بالغلب واليأس فأصبحت الأنثى تحتل جزءا مهما من خيال هذا الجيل فلا يستطيع الانضباط أمام وجود جسد الأنثى أمامه سافرة كانت أم محجبة، صغيرة أم كهلة، جميلة أم غير جميلة.
-3 البعد الإعلامي – من يراقب الفضائيات البترودولارية يستطيع بكل سهولة أن يقسمها إلى فئتين: فئة دينية دعوية وفئة غنائية ماجنة. فالشباب إما أن يبتلع كل يوم جرعات من الدروس الدينية، التي تشيطن المرأة وتعزز ذكورية المجتمع، أو يطلع على تلك القنوات ‘الروتانية’ التي تعرض المرأة راقصة بقليل من الثياب تتلوى بجسدها المياس على إيقاع صوت قبيح لا أحد يسمع ما يقول ويبقى ‘يبحلق’ في الجسد الباحث عن اللذة. كلا الاتجاهين يلحق بالشباب أكبر ضرر في عملية تربيته السوية المتزنة التي تصور المرأة أما وأختا وزوجة وبنتا وزميلة ومديرة وفنانة وقائدة وعالمة وربة بيت وممرضة وطبيبة ووزيرة ورائدة فضاء ورئيسة دولة.
-4 البعد التآمري – في الاحتفال بالذكرى الثانية للثورة يوم 25 كانون الثاني/يناير 2013 نظمت القوى المناهضة لسلطة الإخوان المسلمين مظاهرة حاشدة في ميدان التحرير، رافقتها في نفس اليوم موجة من التحرشات الجنسية العنيفة طالت 18 حالة مؤكدة من قبل منظمات حقوق الإنسان، بينما يؤكد المجلس الأعلى للمرأة أن العدد أكبر بكثير. فهل كانت صدفة؟ ثم لماذا انتشرت هذه الظاهرة في السنتين الأخيرتين في مصر وتونس وليبيا والآن سورية – تحرش واغتصاب وزواج قاصرات والتطوع لإرضاء رغبات ‘المجاهدين’ وشراء الصغيرات من مخيمات اللاجئين السوريين بحجة ‘سترة البنت’- لماذا تزيد نسبة التحرش أيام المظاهرات التي تعارض تفرد الإخوان بالسلطة’؟ كيف يمكن أن تتم هذه الحوادث أمام عيون الشرطة ولا يتحرك أحد؟ لماذا لا يتم جمع المعتدين ومعظم صورهم موثقة ومنتشرة حتى على اليوتيوب وزجهم في السجون؟ ألا تثير هذه التحركات الشكوك في أن هناك من يخطط لها ويشجعها ويمولها ويريد أن يخوف المرأة ويدفعها إلى الانسحاب من ميدان العمل والشارع والحياة العامة كي’يقرن في بيوتهن’ وينزل مستواهن إلى مستوى وضعية المرأة في بعض الدول التي لا تسمح لها حتى قيادة السيارة.
وأخيرا نريد أن نطلق صرخة تحذير، فالوقت يداهمنا، على رأي فيصل القاسم، فإما أن تقوم البرلمانات بإصدار تشريعات صارمة تتضمن النقاط الثلاث: الحماية والردع والتعويض وإلا فسنجد مجتمعاتنا العربية تتخلى طوعا عن منجزات سنوات طويلة من النضال على طريق تمكين المرأة ومساواتها بالرجل وزجها في معترك الحياة وميادين العمل والإبداع، وسنعود إلى عقلية الجاهلية الأولى عقلية ‘الوأد’ من دون ذنب واسوداد الوجه وكظم الغيظ والتواري من القوم إذا بشر أحدنا بالأنثى.

‘ أستاذ جامعي وكاتب عربي مقيم في نيويورك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية