سنودن ـ نافخ الصافرة التي لم يسمعها العرب بعد

يبدي مراقبون أوروبيون استغرابهم الشديد من أن تصح الادعاءات المتكررة بتجسس الولايات المتحدة على قادة دول أوروبا وحلفائها، ممن لديهم اتصال مباشر بالبيت الأبيض الأمريكي. هذا استغراب يثير الاستغراب، فالأدلة التي سرب العديدَ منها إدوارد سنودن ـ العميل السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكية – تبدو أعمق من أن تدحض.
لافت جداً ما كشفته صحيفة ‘لوموند’ الفرنسية حديثاً من أن الموساد بدوره كان يتجسس على الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، ومصدر الخبر كان أيضا وثائق سربها سنودن. وبقليل من الربط، يبدو أن عملية التجسس التي تستهدف قادة دول الحلفاء كانت تهدف أكثر شيء لاحتواء ملفات الشرق الأوسط، وضمان حماية مصالح الولايات المتحدة ومن ورائها إسرائيل، أو على الأقل استباق أي تبدل في المواقف من شأنه عرقلة تلك المصالح، حتى لو أخذ هذا الاستباق صورة ابتزاز فضائحي كـ’مونيكا – غيت’ التي تعرض لها الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون فور طرحه لحلول غير مسبوقة للأزمة في فلسطين عام 1998.
ويدل على ذلك الربط أن الوثائق نفسها كشفت رصد الموساد ستة أقمار صناعية للتجسس على الدول العربية بشكل حصري، سمتها ‘عاموس’ تستطيع التقاط (طنة الذبابة وغمزة الأعور). والابتزاز عبر الجنس ليس غريبــــا على ممارسات الموساد تحديداً، والدليل ما أقرت به سابقاً تسيبي ليفني ـ وزيرة خارجية إسرائيل- عن تقديمها ‘خدمات جنسية’ مع عدد من القــــادة الفلســطينيين والعرب بهدف ابتزازهم وتوريطهم في فضائح، خدمةً لمصالح بلادها العليا.
ومنذ أيام، كانت صحيفة ‘الغارديان’ البريطانية قد نشرت وثيقة أخرى سربها سنودن، تؤكد أن وكالة الأمن القومي الأمريكية وضعت ‘خمسة وثلاثين قائداً’ حول العالم من بين مئتي مسؤول ـ خارج أمريكا – هم على اتصال مباشر بمكاتب البيت الأبيض، تم وضعهم تحت التجسس الدائم، وأنها شجعت مسؤولين كباراً على إمدادها بأرقام هواتف قادة ومسؤولين آخرين حول العالم، لضمهم لبرنامج التجسس واسع النطاق هذا، مما يدل على أن الحكومة الأمريكية كانت على علم وثيق ببرنامج التجسس، ما يعني أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما كذب عندما نفى قيام بلاده بالتجسس على رؤساء الدول الصديقة، بعد سلسلة من الاتهامات دفعتها تسريبات عدة لسنودن، كان آخرها الشكوى التي تقدمت بها المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل من أن هاتفها خاضع للتجسس منذ 2002 وأن أوباما كان قد علم بالأمر عام 2010 لكنه أمر بالاستمرار في العملية.
من الجائز أن تكون خطوط قصور الرئاسة في منطقة الشرق الأوسط هي بدورها تحت مجهر جواسيس أمريكا وإسرائيل، الذين يعملون على الأرجح بتنسيق مشترك شديد الدقة، بل ان ذلك يبدو تحصيل حاصل ولم يبق سوى أن يكشف سنودن أو ‘ويكيليكس’ وثيقة تفيد به حرفياً. هو احتمال حتى لو كشف عنه فلم يكن ليهتم باكتشافه أحد منا، لأسباب عدة، من بينها أن عدداً من القصور لا تمانع أصلا أن تكون أمريكا وإسرائيل في الصورة وتحت الرادار، سواء كان عدم الممانعة بادرة ود، أو عدم اكتراث، أو نتيجة ابتزاز سبق ذلك وفرضه، كما أن الصحافة المحلية في المنطقة لا تملك حق التساؤل أو حتى التلميح لأي اتهام من هذا النوع، والدليل ما كشفته ‘ويكيليكس’ قبل سنوات من حقائق تغير صورة التاريخ حول أمور كثيرة جرت وتجري في المنطقة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، مجريات حرب أكتوبر عام 1973 وقصة قطع النفط، ثم دور إحدى مملكات الخليج لاحتواء أي ضرر قد يتسبب به على الولايات المتحدة، وتعهدها بتعويض نقص الإمداد ‘بأثر رجعي’.
المثير للسخرية أن الملابسات التي كشفتها وثائق ويكيليكس لم تهز شعرة عربي واحد، ولا يبدو أنها ستغير قصة ‘نصر أكتوبر’ التي حفظناها ونتغنى بها عن ظهر غيب، بل ان صحيفة عربية واحدة لم تعرج على ملايين الوثائق التي تعلقت بقضايا أخرى شديدة الأهمية لحاضر الأمة وتاريخها القريب، واكتفت غالبا بنقل التسريبات عن وكالات أنباء عالمية.
إن دراية أمريكا وإسرائيل الكاملة بما يجري في قصور المنطقة ومراكز قياداتها العسكرية كما أشار لذلك التقرير المسرب – يجب أن تغير فهمنا لكثير مما حدث ويحدث، فذلك يعني أن كثيرا من السيناريوهات التي شهدناها بدءاً من الربيع العربي وانتهاء بالثورات المضادة على الربيع كانت لإسرائيل وأمريكا يد مباشرة فيها أو عليها، بل اننا لو أطلقنا العنان لارتيابنا المؤامراتي الذي نشتهر به، فإننا سنعود بعجلة المؤامرة إلى انهيار برج التجارة العالمي عام 2001 وحرب الإرهاب، وأن ما حدث لعقود لم يكن سوى مجموعة مراحل لتجزئة وإعادة رسم خارطة منطقة لم تحقق السلام، كما تريده أمريكا وإسرائيل، أو أنها لم تصنع أي مواجهة منذ 1973 من شأنها حسم النتيجة بشكل نهائي لصالح إسرائيل، فكان لابد من إعادة صياغة مفاجئة للجميع تطرح حلولا جديدة.
الجدير بالذكر أن التسريبات لم تقف بعد، وأنها تتجدد ويضاف إليها كل يوم، بينما يتمتع سنودن باللجوء المؤقت الذي منحه إياه الرئيس الروسي بوتين، ويعد بكشف المزيد حول برنامج ‘بريسم’ الذي كان يقوده عندما كان ‘مسؤول نظام’ في وكالة الأمن القومي الأمريكية، خاصة أنه أكد أنه سلم جميع الوثائق التي تمكن من تسريبها لصحافيين دوليين في هونغ كونغ، قبل اتجاهه لروسيا قبل أكثر من شهرين، ما يعني أن المزيد في طريقه إلينا حتماً.
وحتى موعد إسكات سنودن ‘نافخ الصافرة’ بأي طريقة كانت أو تدمير كل الوثائق التي سربها قبل أن تصل الصحف، فإننا سنبقى على موعد مع سيناريو مثير يفوق أي خيال جاد به عظماء هوليوود حول عالم التجسس والمؤامرة.
ومن المهم أن نلتفت المرة القادمة للأحداث التي تدور في ساحاتنا الخلفية ضمن هذا السيناريو، على الأقل من باب الفضول، ولأن تسريبات سنودن ستشبع – بعكس كل كتب المؤامرة التي سبقتها- خيالنا المغتبط بقصص تآمرية تخترق جدار المنطق وتجعل ما نراه أبعد بكثير مما كنا نخاف أن نتخيله.

‘ كاتب واعلامي اماراتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد عبد الرحمن - السودان:

    في هكذا مواقف كان لجدتي قول اقتبسه عنها ( مين يقرأ و مين يفهم ؟؟) .

  2. يقول ريما كمال:

    رغم كل ما يشعر به جيلي الذي تعدى الستين من احباط،
    فان مثل هذه المقالات تجدد فينا الأمل بأن للشباب العربي
    غدا أفضل انشاء الله.

إشترك في قائمتنا البريدية