حوارات الربيع العربي المفخخة بنزعة إقصاء الآخر

حجم الخط
0

اتجهت مآلات الربيع العربي في نسخه المتعددة لأكثر من منحنى في البلدان التي شهدت تحولات وتغييرا بعد عقود من التسلط المطلق، وباستثناء الأزمة السورية وأحداث مصر، قبل بضعة أشهر، فان بقية البلدان ارتأت وسيلة الحوار مخرجا من ازماتها ومدخلا لعهد جديد، وهو سلوك لا شك راق وحضاري يزين الربيع العربي ويعكس حالة من النضج بتحكيم العقل ونبذ العنف، ولكنه يبدو ذلك فقط في حال الرؤية البانورامية السطحية، بينما واقع الحال يظهر انه لازالت تلك البلدان تراوح في وهم الحوار والجدل العقيم، في أجواء متوترة وبروح إقصائية، وكأنــــهم يعيدون استنساخ الأنظمة التي أطاحوا بها، ابتداء من الحوار الوطني في اليمـــن، والحوار الذي لم يتم بين أطراف العملية السياسية في العراق، مرورا بليبيا التي تتجاذبها الرغبات الانفصالية في بنغـــازي وشرق ليبيا عموما، وانتهاء بتونس التي تنوي النخب السياسية فيه اجراء حوار.
وفي الوقت الذي فشل فيه اليمن لأكثر من نصف عام من الحوار المتواصل، الذي ما أن اشرف على نهايته حتى اكتشـــف المتحاورون بأنهم عادوا للمربع الذي بدأوا منه، وقد يفرز الحوار صيغ فيدرالية تكون بمثابة بذور لانفصال ناعم في سنوات لاحقة، أسوة بتجربة جنوب السودان، مع أن الفارق الاجتماعي في الحالة اليمنية أنهم يمنيون وعرب ومسلمون، والغريــــب في هذا الحـــوار أن المتحاورين يتهافتون لما بعد الحوار، ويتسابقون لاقتسام كعكة السلطة، ولا ضير في ذلك إذا لم تكن قسمة ضيزى، في اطار يمن قوي واحد ديمقراطي ودولة مدنية، وما عدا ذلك فهو تقاسم للمغانم تحت مسميات أخرى.
معلوما أن أطراف السلطة في يمن اليوم، هي غيرها بالأمس، وبداهة غدا سيكون مختلفا تماما شكلا ومضمونا، فالمرحلة أفرزت قوى قد تساهم في التغيير والتحولات المفترضة التي هي استحقاقات المرحلة، والعبرة بالنتيجة، فلو أفضى الحوار الى استيعاب كل إشكالات اليمن، أو على الأقل الخروج بتوافق وتناغم، ففي هذه الحالة فان المواطن البسيط لا تهمه تفاصل من يحكم وكيف، فغاية السلطة في أي مجتمع هي تحقيق ابسط مقومات حياة الشعب في المواطنة المتساوية والحرية والعدالة وتوفير ابسط مقومات العيش الكريم.
وفي مقارنة أجواء الحوار الوطني في اليمن مع بلدان أخرى اهتمت بتجربة كهذه، نجد ان العراق اخفق حتى في مجرد عقد مثل تلك الحوارات بين الأطياف السياسية المتباينة، وظلوا يتغنون بالحوار والديمقرطية منذ نحو عقد، لدرجة تعيين وزير للحوار والمصالحة، ورغم ذلك لم يلتئم حوارهم ولم تتم مصالحة حقيقة، بل قوانين اجتثاث وروح انتقامية لأنها ببساطة لم تتم بين المختلفين الحقيقيين الذين أفرزهم التغيير، انما كان المراد الحوار بين أطراف السلطة فحسب، فالتحولات التي فرضت المشهد العراقي الحالي ليست فقط بإيعاز ودعم خارجي، بل بأدوات العامل الخارجي عندما أتى المتنفذون في العراق على ظهر دبابة المحتل، الذي جثم فيه لمدة ثماني سنوات، وانعكس الامر في الحالة العراقية على تفاصيل متلاحقة، كالدستور والفيدرالية التي زادت الأوضاع تعقيدا يوما بعد يوم، بينما اليمن يختلف في ظروفه الذاتية والموضوعية تماما عن العراق.
في اليمن المشهد يكاد يختلف تماما بالنظر’لارتباك المرحلة القصيرة التي تلت رحيل رأس النظام السابق، فقد كان البناء الديمقراطي خلال الفترة القصيرة، وهي ما بين تسليم السلطة السابقة وبداية استحقاق الفترة ما بعد الانتقالية وما تبعها، كمن وضع العربة أمام الحصان وطالبه بالركض، فان ركض الحصان اصطدم مع أول حركة بالعربة الثقيلة التي تنوء بحمل تركة ثلث قرن من الفساد المطلق لنظام الرئيس اليمني السابق.
وتراكمت المطالب والاستحقاقات المفترضة، من انتخاب رئيس انتقالي وتشكيل حكومة مسخ نصفها يحكم والنصف الآخر يعارض نصفه وشريكه المفترض ويرمي كل الأخطاء عليه، فضلا عن تعثر مراحل الحوار التي رافقتها جملة تعثرات وإحباطات اغلبها مفتعلة للأسف، ويراد للتجربة أن تنجح، في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ الحركة الوطنية اليمنية التي يمكن أن نسميها مجازا حياة البرزخ، وهي الفترة الفاصلة ما بين قطع رأس النظام واستمرار الجسد، وما بين الفترة المنشودة، ولعلها أدق واخطر مراحل اليمنيين في تاريخهم السياسي الحديث.
الإشكال الجوهري في مآلات الحوار الوطني الشامل في اليمن، الذي انطلق منذ اذار/مارس الماضي وما يزال يراوح بين اليأس والرجاء، هو أن المتحاورين وصلوا إلى طريق مسدود في أهم مفاصل الحوار، وهو القضية الجنوبية، والى حد ما قضية شمال الشمال، في ما يعرف بالحوثيين، ويتركز الجدل تحديدا في الشكل المستقبلي للدولة القادمة، الذي يسير في التوجه نحو الفيدرالية، ولكن أية فيدرالية، هل فيدرالية من إقليمين ام متعددة الأقاليم، ويجزم البعض بأن النوايا هنا تخفي الأهداف، فكل له أجندته، فكما دخلت أطراف الوحدة برؤية إقصائية، ها هم ينهون حوارهم بأحاسيس متوترة وحسابات خاطئة، غير مدركين أن إشكال تعثر اليمن هو غياب الدولة المدنية، بغض النظر عن شكل النظام والدولة، فالعبرة بالنتيجة وحسن النوايا والتحاور بروح وطنية خالصة«
ولعل من مفارقات الربيع العربي في أكثر من مشهد هو ذلك الإصرار من قبل القوى الإسلامية على القبول بالصناديق كحكم في العملية السياسية، وهذا لا جدال فيه، طالما قبل الجميع بهذه القيم، مقابل رفضها من قبل قوىً أخرى، بعضها يدعي العلمانية والليبرالية، وبعضها الآخر يتبنى نهجا قوميا او يسارياً، ويجمعهم التطلع للسلطة بعقلية الإقصاء، وها هي قد تتكرر أحداث مصر في تونس، ولكن بصيغة ناعمة ديمقراطية.
ومن هنا لا يعول البعض على مخرجات الحوار اليمني، التي هي قاب قوسين أو أدنى من أن تفرز نتائج ذات أهداف مرحلية وليس لها بعد استراتيجي وبمولود مسخ، فقد يتمخض الحوار فيلد انفصالا ناعما.
ويمكن إسقاط الحالة على اليمن، فأكثر من نصف السلطة لازال بيد حزب المؤتمر، الذي يرأسه الرئيس السابق، بينما نصف السلطة المحاربة بالإقصاء وتصيد أخطائها تنازعها نسيج غير متجانس بالمطلق من عدة أحزاب’وقوى، ومع ذلك لم يسلموا من كيل التهم لهذه الحكومة المؤقتة الضعيفة الموكل إليها حل معضلات متراكمة لأكثر من ثلث قرن من الفساد المطلق، وأن تأتي بالتحولات المطلوبة بعصا سحرية لحل كل مشاكل اليمن المتراكمة منذ عقود، فكما قال سياسي يمني بارز هو الأستاذ يس سعيد نعمان ‘عجبي لحصانة تمنح مقابل نقل السلطة التي لم تنتقل بعد، حقا أنها أكذوبة كبيرة).

‘ كاتب وسياسي يمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية