تباشير سقوط أبو مازن

حجم الخط
0

‘حجر وورقة ومقصان، فائزان بين الاثنين ـ واحد اثنان ثلاثة!’، هذه هي كلمات المقدمة للعبة الحسم في عالم الاولاد، بتلويح بقبضة وبيد مفتوحة وباصبعين على هيئة ‘V’ استُلت بصورة مفاجئة من وراء الظهر، كسر الحجر المقصين، ولفت الورقة الحجر، لكن المقصين قصاها بسهولة. وبصورة تختلف عن العاب الاولاد الساذجة حاولت منظمات الارهاب الفلسطينية طول سنين (ومنها حماس والجهاد الاسلامي) أن تستعمل هذه الادوات الثلاث في سلسلة عمليات قاتلة لتهزم اسرائيل دون نجاح.
‘حجارة الانتفاضة’ التي رميت بها رؤوس الصهاينة، و’مقصا المعدن’ اللذان غرزا في ظهور اليهود من المارة، وصواريخ القسام ورصاص بنادق الكلاشينكوف وكريات الشحنات الناسفة التي قتلت سكان اسرائيل في الحافلات والمطاعم والشوارع كل ذلك لم يهزم ‘العدو اليهودي’.
في المدة الاخيرة حينما انهارت محادثات السلام مع السلطة الفلسطينية تبين أنه فشلت ايضا محاولات لف اليهود في ‘ورقة خداع’ باتفاقات بلا مضمون وبلا قيمة والتزام. منذ أن كانت خلية الاخوان المسلمين الفلسطينية التي كان عرفات عضوا فيها وتطورت منها في مطلع ستينيات القرن الماضي منظمة فتح، نشأت طائفة متنوعة من منظمات القتل الفلسطينية التي عملت بحسب ايديولوجيات متناقضة: علمانية وشعبية وديمقراطية وعربية أو اسلامية تنافست بينها في السيطرة بواسطة ارقام قتل قياسية.
إن كل واحدة من هذه المنظمات اعطاها حكام الدول العربية ميزانيات ضخمة وسلاحا وكان ذلك طريقا الى توحيد صفوف مواطنيهم الخاضعين للاضطهاد.
تذكرون أن الزعماء العرب استعملوا هذه المنظمات ايضا مثل مقاولين ثانويين في اعمال قذرة. وبهذه الطريقة دفعوا ضريبة كلامية عن مشكلة اللاجئين الذين تجمعوا في بلدانهم وامتنعوا عن حلها. إن حكام العرب صادروا في الحقيقة الاملاك الضخمة التي خلفها مئات آلاف المواطنين اليهود الذين هربوا الى فلسطين، لكن بدل استيعاب اخوتهم في العقيدة واللغة والتاريخ والدم باعتبارهم مواطنين مساوين في الحقوق في بلدانهم عرضوا الفلسطينيين لـ ‘فصل عنصري’، وسلبوهم حقوق المواطنة والجنسية والعمل.
منذ كان انشاء منظمة فتح نجح عرفات ورجاله في جمع المنظمات الارهابية الفلسطينية المشتركة في الهدف تحت سقف ‘منظمة التحرير الفلسطينية’. والحديث في الحقيقة كما يقول المثل العربي عن ‘طيزين في لباس’ ونجح عرفات في أن يصرف الامور في تعقيد البواعث الشخصية لقادة المنظمات الارهابية بطريق الاغتيالات والتهديدات والابتزازات، ووحدهم تحت راية القضاء على اسرائيل و’تحرير فلسطين’. وقد أجرت اسرائيل تفاوضا مع منظمة هدفها المعلن الذي ترفع رايته وهذا صحيح الى الآن تحرير فلسطين (من اسرائيل).

ابتلاع الضفدع

بيد أن سلسلة تفجيرات جغرافية سياسية احرقت اوراق لعب من خطط للمدى البعيد في الشرق الاوسط. فقد رفع الاسلام السياسي وهو الاسم الذي اعطي لايديولوجية ارهاب وقتل الجموع باسم الاسلام رفع رأسه. وأثبتت الثورة الايرانية في 1979 أن حلم سيطرة الاسلام على العالم ممكن، وأنه بالعودة الى الاسلام ‘الحقيقي’ وباتباع سنة محمد مجددا ستنشأ خلافة تحكم العالم وتخضع اليهود والمسيحيين لسلطتها الى أن يختفي هذان الدينان ‘غير ذوي الصلة بالواقع’.
إن انجازات حزب الله ونجاحات القاعدة وجيوب سيطرة اسلامية رسخت في نجاح في دول المنطقة عززت الحركة التي تؤيدها اليوم في الاساس امارة قطر.
إن الانتفاضة الاولى أنبتت نشطاء منظمة المجمع الاسلامي في غزة بصفة مركب عسكري جديد ونشيط في القيادة الموحدة، بعد أن كانوا يعملون حتى ذلك الحين في عنف موجه خاصة على ممثلي اليسار العلماني في منظمة التحرير الفلسطينية. وفي خلال الانتفاضة الاولى والثانية تحول ناس المجمع الى حركة ارهاب قاتلة معروفة باسم حركة المقاومة الاسلامية حماس. وإن انتقال المنظمة الهامشية الى منزلة شريكة في كفاح م.ت.ف وباعتبارها عدوا لها بعد ذلك يُذكر بتلك الضفدع التي ارادت أن تشاهد العالم من فوق صلعة عبد الله لكنها رفضت أن تنزل عن رأسه. وبمحاولته ازالتها بتدخل الجراحة، اشتكت الضفدع قائلة: ‘أنظر أيها الطبيب الى ما نما في مؤخرتي…’.
أجل مكنت الانتفاضتان حماس من تبني دور متقدم في الساحة الفلسطينية. والكراهية المشتركة لليهود عقدت جسرا على الفوارق الايديولوجية بين المعسكرين وتجاهل قادتهما الاختلاف في الرسائل السلطوية والاجتماعية والدينية والسياسية، ورفضوا ارضاءات فيما يتعلق بتقاسم ملذات الحكم وشكل المجتمع (دولة شريعة) وادارة اجهزة الامن. وحيد الطرفان مؤقتا البواعث والتوجهات المختلفة فيما يتعلق ايضا باستراتيجية التقدم نحو تحرير فلسطين، بل استطاع عرفات أن يستعمل عن عمد عمليات حماس بموازاة ‘محادثات السلام’ مع اسرائيل ليبتز تنازلات بضغط الارهاب.
إن الهزائم التي مني بها الفلسطينيون في كفاحهم المسلح لاسرائيل ولا سيما في الانتفاضة الثانية، كشفت عن تصدعات في الاجندة المشتركة التي تتناول مبدأ القضاء عليها واقامت المرحلية في مقابل الفورية الشاملة. والفساد الذي زاد في اجهزة م.ت.ف في المناطق افضى الى فوز حماس في انتخابات 2006، وكانت المنظمة في طريقها الى جعل السلطة الفلسطينية ‘امارة اسلامية’. وعلى إثر عزل أبو مازن لرئيس الحكومة الاسلامي المنتخب اسماعيل هنية، في 2007، نفذت حماس عمل تنكيل وحطمت قوة السلطة الفلسطينية في غزة، ومنذ ذلك الحين اصبحت حماس التي تطمح علنا الى القضاء على اسرائيل بالكفاح المسلح، اصبحت تهديدا لمؤسسة السلطة الفلسطينية في يهودا والسامرة ايضا.
يقول المثل العربي: ‘علمناهم الشحدة سبقونا على الابواب’. إن ‘الضفادع’ التي وضعتها حماس على رأس السلطة الفلسطينية في غزة منذ ايام المشاركة في القيادة الموحدة، افضت الى فرار رجال فتح بمساعدة اسرائيل الى يهودا والسامرة. ومات عدد منهم باطلاق النار عليه وطُرح آخرون فماتوا من أسطح مبان متعددة الطوابق، ومنذ تلك الفترة اضطرت منظمة م.ت.ف وفي مقدمتها فتح الى ابتلاع الكثير من الضفادع من حماس التي تبني بلا توقف بنى تحتية وتدبر للحلول محلها في تولي مقود الحكم.

حماس تتربص بفتح

منذ كان عمل التنكيل اصبح رجال م.ت.ف متنبهين لحقيقة أن حماس تتربص بفتح وتخطط للقضاء عليهم، وهو شيء سيحدث بيقين كبير اذا أجريت انتخابات ديمقراطية في المناطق أو اذا توقف التعاون الامني بين اسرائيل والسلطة ورفعت حماس رأسها. وترى حماس أن السلطة الفلسطينية هي مجموعة كفار وخونة ليست لهم شرعية سلطوية وهم يتعاونون مع اسرائيل ومن الواجب القضاء عليهم. إن هذه المنظمة التي زادت قوة بدعم مصري في فترة حكم الرئيس مرسي من الاخوان المسلمين، أصيبت بنشوة ورفضت كل تسوية مع م.ت.ف.
بيد أن مسار تحطيم قدرات حماس الذي تم باعتباره جزءا من زلزال الربيع العربي غير المتوقع افضى الى فقدان الدعم التقليدي الذي كان يأتي من سوريا وايران وحزب الله ومن دول كالسعودية والبحرين، وانتهى هذا المسار بالضربة القاضية المصرية بقيادة السيسي التي دمرت انفاق الاقتصاد والتسليح لحماس. وأعاد هذا الوضع اسماعيل هنية الى حجمه الطبيعي ووجد قادة الحركة المضروبة المفلسة الآن لغة مشتركة مع رجال السلطة الفلسطينية وهم مهزومون ايضا بعد أن فشلوا في محاولتهم ‘اختطاف’ دولة فلسطينية من طرف واحد باعتبار ذلك جزءا من خطة المراحل للقضاء على اسرائيل. يقول المثل العربي: ‘المبلبل مبلبل وما يخاف من المطر’. وقد خلص أبو مازن كما يبدو الى استنتاج أن صيغة السلام التي شملت دولة فلسطينية الى جانب اسرائيل وتبادل اراض والغاء عودة نسل الفلسطينيين الى داخل اسرائيل ما كان ليقبلها الشعب الفلسطيني وأن هذا الاتفاق لو حدث لافضى الى القضاء عليه وعلى رجاله. اجل، لو وقع على هذا الاتفاق لغرقت السلطة الفلسطينية في بحر العائدين وفي فوضى يحدثها نشاط مستوردي الارهاب الجدد من رافضي الاتفاق.

ثمن الابحار الى جهنم

في الظروف التي نشأت اختارت السلطة الفلسطينية خيار ‘عدم السلام’. ويرتبط هذا الخيار ارتباطا جيدا باجندة حماس الشاملة الموجودة في ‘التهدئة’ مع اسرائيل، وتريد الآن أن تسيطر على يهودا والسامرة.
ربما يستطيع هذا الخيار أن يطيل مؤقتا فترة حكم أبو مازن وشرعيته عند الفلسطينيين، وعند الامم التي ستحاول ‘تعويضه’ وأن تثنيه عن هذا الاجراء. وسيان عند أبو مازن أن يكون سلام في الظروف التي اقترحت عليه وأن يقضى على حكمه. اذا لم يحرز السلام فستسيطر حماس على المناطق اصلا مع انتخابات أو بغيرها. وقد تؤخر النهاية الآن وقد تعرض عليه اغراءات اخرى تصبح خط البداية في التفاوض القادم، وهكذا دواليك. فما السيء في هذا؟.
انقضى زمان أبو مازن وتخلى عن السلطة لحماس طامحا الى مسار مراقب والى اقل قدر من الاضرار. ويتبين انه يرى تفضيل التخلي عن الحكم بتجديد القيادة الموحدة وألا يستمر على مسيرة السلام التي تنذر بضياعه. إن من يعتقد أن أبو مازن زعيم لمرة واحدة وأنه فرصة اخيرة للسلام اخطأ. وبالجملة، متى يصنع سلام مع زعيم لمرة واحدة يمثل في زعمه لتخليه عن العودة نفسه فقط لا الشعب الفلسطيني؟.
في ختام لقاء المصالحة الفلسطينية في الشاطيء أكد اسماعيل هنية ‘حق العودة الى فلسطين كلها وانشاء فلسطين على كل اراضيها’. وعرّف ممثل السلطة الفلسطينية عزام الاحمد المصالحة على النحو التالي: ‘وافقنا على اجراء لتغييرات في الحكومة والرئاسة ومؤسسات م.ت.ف، وسنصوغ معا المواضعات والحقائق الفلسطينية الايديولوجية للمستقبل. ونحن نعلن أننا لن نعترف باسرائيل دولة يهودية، ولم نتخل عن حق العودة الى داخل فلسطين ولم نتخل عن القدس عاصمة لفلسطين… ونستطيع الاتفاق على عدا ذلك فيما بعد’، اشار بنظرة متعددة المعاني نحو ضيوفه، وما كان أحد في حماس ليعرف اجندة المنظمة بشكل افضل.
ليست عودة أبو مازن الى حضن القيادة الموحدة دراماتيكية، فقد سجل التاريخ محاولة عاطفية اخرى لخداع اليهود والأمم. فاليهود هم اليهود والبحر هو البحر حتى عند مرسى القوارب في الشاطيء .
ليس تسليم أبو مازن السلطة بصورة تدريجية الى حماس مفاجئا. وتعلمون أنه حتى الملحد العربي المتشدد ينطق ‘الشهادة’ قبل موته. إن أبو مازن مسلم وكل ما فعله بانضمامه الى خالد مشعل واسماعيل هنية هو أنه دفع ‘رسوم انتقال’ أي رسوم استقالة منظمة ورقابة اضرار بالنفوس والممتلكات التي سلبها هو ورجاله.
يُذكر هذا الوضع بالاسطورة اليونانية عن حارون الذي يبحر بقارب موت هادس الى الجحيم. إن ‘الرئيس’ وضع في واقع الامر قطعة نقد في فم مشعل وهنية، ويفترض أن يبحرا به بسلام الى خارج قيادة السلطة الفلسطينية.
وقد وضع على عينيه قطعتي نقد كي لا يرى ما سيحدث بعده. إن الاربع قطع النقدية هذه من اموال المساعدة الامريكية دفعت الى حماس في مقابل الحياة والاملاك التي صرفها رجال السلطة الفلسطينية. اجل هذا ثمن ابحار رابح الى جهنم.

اسرائيل اليوم 9/5/2014

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية