ليت الشباب يعود يوما!

حجم الخط
0

أكثر ما أنزعج منه أن أرى رجلا في السبعين وقد صبغ شعره الأبيض بالأسود رغبة منه في ان يبدو أصغر سنا.. مع ان حتى الطفل ينتبه الى ان هذا الرجل ليس طبيعيا. لا في رأسه، ولا في حاجبيه،او في شاربه،بل اسوأ ما في الأمر ان يصبغ حتى حاجبيه.
ان العمر له حقه وزمانه.. ولا يستطيع الواحد منا ان يأخذ عمر غيره.
أفهم ان تصبغ المرأة شعرها، هذه طبيعتها دائما ان تجمّل وجهها وجسدها.. طبيعة الانثى حبها ان تظهر دائما أنها اصغر من عمرها الحقيقي، كي تُلفت النظر في المجتمع بأنها فتاة حسناء وإن كانت في الستين.. هذا ليس عيبا في المرأة. لكنه العيب كل العيب في الرجل. خصوصا عندما ينكشف هذا العيب في بروز الشيب مجددا.
لي أخت أصغر مني زارتني في بيروت قبل فترة فعابت عليّ شعري الابيض.. وعندما تأملتني طويلا وكنت لم أرها منذ سنوات قالت لي: يا أخي هذه الكبكوبة القطنية البيضاء في رأسك (وهي تقصد كتلة الخيطان الصوفية التي تصنع منها كنزتها)؟.. قلت لها هكذا يا أختي.. لقد اصبحت عجوزا فماذا بها؟ قالت: لا.. بعدك شب تقبرني.. قلت لها: شب وفي السبعين! ماذا تخربطين.. وصارت طوال زيارتها تنقّ دون توقف لكي تصبغ لي شعري، لأنني برأيها اذا صبغت شعري تقف النساء بالدور أمام بيتي يطلبن ودي.. وبالحاحها ان أصبغ كي تجد لي عروسا أقضي معها بقية عمري.. فكنت أرفض.. اولا لانني لا اريد ان اصبغ شعري، وثانيا لا بديل لزوجتي المرحومة الشاعرة أمل جرّاح التي فارقتني قبل سنوات وتركت في قلبي جرحا لا يندمل.. ولست على استعداد ان أُدخل على بيتها، أي بيتنا، أي امرأة اخرى مهما كان جمالها.
وذات يوم ذهبت أختي الى السوق وعادت ومعها عدة الصبغ وشدتني من يدي واجلستني قربها وراحت تقنعني بأن أرضخ لإرادتها: يا أخي بدياك ترجع شب.. بتصغر وبتصغرني معك (مع أنها أصغر مني بعشرين سنة) وبغفلة من الزمن رضخت لأوامرها.. وأخذت تشتغل بشعري على كيفها.. وما ان ذهب الليل واتى النهار حتى اكتشفت الفضيحة. وكرهت أختي وكرهت نفسي وغضبت عليها غضبا شديداً. ورفعت يدي عليها وكدت أصفعها على وجهها.. هربت من البيت ثم عادت ومعها وليد جارنا حلاق النساء الشهير.. فنظر إليّ وضحك حتى كاد ينقلب على قفاه وضاحكني: شو عامل بحالك استاذ ياسين.. متل الكبّة باللبنية، فأشرت نحو أختي.. فقالت له أختي: اما من حل؟ قال: لا.. اما ان تحلق شعرك على الصفر او تختبئ حتى ينبت لك شعر جديد. سألته: أما من حل آخر.. دواء مثلا يزيل الصبغة.. قال: أبدا.. وقد تزيد نفسك بهدلة على بهدلة.
شعرت أختي أنني لم أعد أطيق حضورها، فجمعت ملابسها في حقيبتها وسافرت، وقلت لها غاضبا: احملي معك علب الحلو التي جلبتها لي.. لا أريدها.. با أخت كذا وكذا.. فخرجت باكية دون ان تودعني.
عندما اصبحت وحيداً في البيت، ونظرت الى نفسي عدة مرات في المرايا الموزعة فيه، حيث ـ الله يرحمها ـ كانت هاوية مرايا، ولم تترك زاوية الا ووضعت فيها مرآة.. وحيثما أتلّفت صرت أرى نفسي بهذا السواد الداكن الغليظ فوق رأسي.
والله انعزلت عن الناس. وكل من دق الباب مضطرا أن أراه كان يصيح بي ضاحكاً: لك شو عامل بحالك.. بهالعمر كمان.. يا عيب الشوم.
وفي عزلتي التي استمرت أشهرا، كنت أقرأ كل شيء عن المشيب، فقرأت في الأساطير أن اول من شاب النبي ابراهيم الخليل، وفي الخبر: ‘أن الله تعالى يقول الشيب نوري وأنا أستحي ان أحرقه بناري’ فاطمئن قلبي ان ادخل الى الجنة شائب الشعر.
قال الشاعر:
يا عامر الدنيا على شيبه فيك أعاجيب لمن يعجب
ما عذر من يعمر بنيانه وعمره متهدم يخرب
وقال الفرزدق:
ويقول كيف يميل مثلك للظبا
وعليك من عظم المشيب عذار
والشيب ينقص في الشباب كأنه
ليل يصبح بعارضيه نهار
وأجمل ما قرأت ان رجلا اشمط وهو في الطريق مرّ بأمرأة جميلة عجيبة الجمال فقال: يا هذه ان كان لك زوج فبارك الله لك فيه، والا فاعلمينا، قالت: كأنك تخطبني. قال: نعم. قالت: إن فيّ عيبا، قال: وما هو؟ قالت: شيب في رأسي، فثنى عنان دابته.
فقالت على رسلك فلا والله ما بلغتُ العشرين سنة، ولا رأيت في رأسي شعرة بيضاء، ولكنني أحببت أن اعلمك أني اكره منك مثل ما تكره مني، فأنشد
ويقال لابن المعتز الشاعر:
رأيت الغواني الشيب لاح بمفرقي
فأعرضن عني بالخدود النواضر
وأختم بشعر مشهور نردده على الدوام، ويقول الشاعر:
عريت من الشباب وكنت غصنا كما يعرى من الورق القضيب
ونحت على الشباب بدمع عيني فما نفع البكاء ولا النحيب
فيا ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل المشيب
وعندما استعدت شيبي، سافرت الى دمشق ونزلت ضيفا على أختي نفسها، قبلتها وصالحتها واعتذرت منها، فضمتني الى صدرها: معليش أخي نحنا اخوات.

‘ كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية