الثورات العربية انهزام قمعية الدولة وانتصار إرادة الشعب

حجم الخط
0

يصعب التكهن او التحديد مسبقاً بكافة النتائج التي سوف تتمخض عنها الثورات التي اندلعت بالعالم العربي خلال السنوات الماضية. لكن من المؤكد أن هذه الثورات، مثل تلك التي حدثت عبر التاريخ، سيكون لها لاحقاً مردود إيجابي على المواطن والمواطنة. من الممكن ألا يستوعب أو أن يلمس الجميع فوائدها في القريب العاجل، لكن وهكذا حال جميع الثورات، يشعلها جيل معين لتنال ثمارها الأجيال التي تليها. التجارب الثــــورية السابقة أثبتت نوعاً ما صحة وحقيقة هذا الاستنتاج. على كل الأحوال، كيفية إدارة هذه الثورة ومقدرات القائمين عليها في تحديد الأهداف والعمل حسبها هو ما يحسم في النهاية إن كانت ثورة ما قد اتت أُكلها خيراً أم لا.
في حال بلادنا وبحكم سرعة عنصر الزمن وتوالي الأحداث وكون من أشعل وهيج الثورات هم جيل الشباب، فمن المحتمل أن يعيش هذا الجيل تحت تأثيراتها السلبية حيناً والإيجابية في ما بعد. لكن المؤكد هو أن الأجيال التي سوف تليها سوف تعيش فعلياً النتائج القيمة التي على اساسها أشعلت، وبالتحديد تلك المتعلقة بالكرامة، العدالة والحريات. نفس هذه الأجيال سوف تشعر بالامتنان لكل ما قدمه السلف للخلف من تضحيات. وسوف تلعن كل من ساهم بشكل ما في عرقلة مسيرة الشعب نحو الأفضل. المشكلة تكمن في أن هنالك نسبه لا بأس بها تحتاج لعملية تثقيف عميقة، ونسبة أخرى لعملية صياغة جديدة لأفكارها وطريقة نظرتها وتحليلها لما يحدث من حولها، لتصبح هذه أكثر عقلانية وتوازنا في أحكامها.
رغم كل ما يصرح به ويشاهد من تأثيرات سلبية ناتجة عن اندلاع الثورات العربية القائمة، فان انطلاقة شرارتها في حد ذاته، خاصة في المجتمعات التي تعاني من حالة ركود دائم وغياب رؤية مستقبلية واضحة، هو عمل صحي لما تحدثه من حلحلة وانتفاضة داخلية تزيل الشوائب المتراكمة على مر الزمان، بل ومثل هذه الثورات ضرورية لانها تكشف خفايا النفوس، عيوبها وزيف حججها ومواقفها، لذا، يجب عدم الخوف من أي ثورة مهما كانت، وإنما التبصر في طريقة إدارتها والمساهمة في تقويتها والعمل على تكليف القادرين على قيادتها ومراقبة من يعملون ضدها بشكل دائم. وعالمنا العربي بحاجة لمثل هذه الثورات، لأنه منذ عقود طويلة يعاني من حالة شلل داخلي شبه تام.
كل من كان يراقب ويحلل ما كان يحدث سابقاً من تحركات تتعلق بالتغيير السياسي بالمنطقة كان على دراية بأن تلك كانت تحركات شكلية، تتم ضمن حلقة مفرغة، بهدف اعطاء انطباع بأن شيئا ما يتجدد. وفي الواقع كل شيء كان يتحرك ليبقى الحال على ما هو عليه. في الفقه والعمل السياسي، الإيحاء الكاذب بالحركة في حد ذاته مضر بالإنسان والمجتمع، خاصة أن الجميع قادر، عاجلاً أم آجلاً، على اكتشاف الحقيقة وزيف النوايا، مما يخلف في ما بعد عواقب وخيمة.
حالياً ومع توالي الاحداث السلبية، خاصة المتعلقة بالقلاقل السياسية وما ينتج عنها من عمليات قتل ودمار مؤلم، يبدو كما لو أن الثورات فشلت في الوصول إلى اهدافها. هذا بالتحديد ما يريد الرافضون لها اقناع العامة به. تراهم يشككون فيها وفيمن خلفها، بهدف غرس روح اليأس، الاحباط والرعب العام. يتصرفون بهذا الشكل لكونهم على يقين بأنهم الخاسر الأساسي من جراء انطلاقتها، ولعلمهم بأن هذه الثورات أشعلت من أجل قلب المعادلة وإزاحة ثقل الظلم والاستبداد الجاثم فوق الصدور وداخل العقول. تراهم كذلك يكررون مقولة ان الثورات القائمة أمر محبوك ومدبر. هذا القول بعيد عن الصحة ويدخل ضمن نظرية التشكيك الدائم والمؤامرة الأزلية التي على اساسها يفكر ويحاول البعض اقناع الغالبية، مثل ذلك بعيد عن الصحة لان تحليل الواقع والمعطيات التاريخية للمنطقة كان ينذر، بل ويفرض، قرب حدوث شيء مفاجئ في لحظة ما.
مشكلة أخرى لا تقل أهمية عن السابقة تكمن في أن من أشعل الثورات بعالمنا العربي هو إنسان متلهف للتغيير الجذري ويريد بسرعة فائقة قطف ثمارها. ومثل هذا امر غير ممكن في عالم تعود على القنوط ويرتاب دائماً من المجهول، المختلف والجديد. هنا يجب الاشارة الى ضرورة التريث والانتظار. مع ذلك يجب أن يفهم مثل هذا السلوك ويجب اعتباره سلوكا طبيعيا، خاصة أن المواطن العربي سئم الطغيان وقد أضناه امتداد حقب الاضطهاد والظلم، ويريد أن يشاهد بأم عينيه وبأسرع وقت ممكن كيف يندحر الطغاة وبطانة السوء التي سلبت خيرات البلاد وأزهقت أرواح العباد. القضية هي أن الشعب الثائر الكادح لا يضع دائماً بالحسبان أن أمثال هؤلاء سيقفون لثوراتهم بالمرصاد وسيحاولون قدر المستطاع منعهم من نيل مطالبهم وتعكير نشوة عزتهم وفرحتهم.
أحد أهم ما ترتبت عليه الثورات العربية من نتائج هو كسر حاجز الخوف. بدون أدنى شك، الخائف أصبح الحاكم ومن حوله. جميعهم أصبح ينتابه الشك ويشعر بأن ما حصل لغيره يمكن أن يحصل لهم يوماً ما. وهذا الامر ليس بالهين، ونتائجه ستكون ذات قيمة فائقة يوماً ما. كسر هذا الحاجز هو انتصار لهذا المواطن وعزيمته في معركته ضد المؤسسات القمعية التي حاولت بكل الوسائل ترويضه ومنعه بكل الوسائل من تحديها، انتقادها أو الخروج عن طاعتها. خلال فترة طويلة تمكنت هذه المؤسسات من فرض وحشيتها واعتقدت بأن مثل هذا الحال سوف يدوم لها أبد الدهر. لم تضع بالاعتبار إرادة المواطن الدفينة في تجاوز حدود التسلط الواقع والمفروض.
في الوقت التي ركنت الدول إلى قوتها وإبراز عضلاتها باستمرار، كان هذا المواطن يحاكي مثيله في أماكن عدة من العالم. ينظر لحريته وكرامته فيجدها تتقلص مقارنة بما ينالها ويحصل عليها من حوله. كان يراكم بداخلة كافة معايير القوة، وأهمها الرغبة الدفينة في التغيير والحصول على ما هو أفضل. حين جاء وقت ذلك، أبرز هذا المواطن جم غضبة وقوته، في حين أن الدول أبرزت ضعفها وأكذوبة عظمتها وجبروتها.
أمام حالة الارتباك التي أحدثتها الثورات انهارت بعض هذه الدول في حيز زمني مذهل وانهار معها الكثير من مفاهيمها ورموزها القهرية، كما حدث بتونس ومصر. ومن أراد البقاء بالحكم افرط في استخدام وسائل القوة، ليفرض نفسه ويمنع حدوث انهيار لدولته، كما حدث مع حكام ليبيا وسوريا. لم يأخذ أمثال هؤلاء بالاعتبار أنهم وبسلوكهم ينهكون الدولة كمفهوم وطني، وأن ذلك سيكون له مردود سلبي عليهم وإيجابي على من دائماً اعتبروهم اعداء لبلادهم. الحقيقة أن هؤلاء لم تكن تهمهم الدولة في حد ذاتها، وإنما كيف تخدم هذه مصالحهم الخاصة. ولم يضعوا بالحسبان أنه رغم كل ما يمكن أن يستخدموه من عنف، في النهاية سوف تتنصر ارادة الشعب وتنهزم إرادة الحاكم ودولته المستبدة. تلك سنة من سنن السياسة. ولن تجد لها من تغيير أو تبديل.
غباء بعض من القيادات العربية وعدم قدرتها على قراءة الواقع بشكل معمق وصحيح واستخدامها أبشع وسائل القهر لن يغير من الامر شيئا. البديهي هو أن تقلع جذور الاستبداد والاضطهاد مهما طالت المواجهة وتوحشت آلياتها، لان وجودهم أمر غير طبيعي.
عاجلاً أم أجلاً، الثورات العربية القائمة والمقبلة ستغير معايير المعادلة والعلاقة الجدلية بين الحاكم والمحكوم، وسوف تضع الأمور في نصابها السليم لصالح الثاني على حساب الأول. بمعنى أن الأمور ستكون في النهاية لصالح الشعب على حساب عجرفة وعناد الحاكم ودولته الظالمة. فعلاً جاء وقت الحسم، الشعب الواعي والواثق من نفسه هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، لأنه يملك بداخله الإرادة والعزيمة القادرة على قلب موازين القوى بدون سابق إنذار. تم ذلك في تونس، مصر، ليبيا وسوريا، ومن غير المستبعد أن يأتي الدور على دول أخرى إن لم تستخلص قيادتها الدروس والعبر مما يدور حولها.

‘ كاتب فلسطيني- إسبانيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية