‘تَنَفُّس صِناعيٌّ’ تبحث عن عدالة غائبة وحلم يستحيل حضوره

حجم الخط
0

لا أنكر أنّ رواية ‘تَنَفّس صناعي’ للشاعر عمرو حسني والتي صدرتْ عن (الدار) للنشر والتوزيع قد غيّرتْ وجهة نظري ـ (وسأُبيّن لاحقاً الأسباب) ـ التي رسختْ داخلي فيما يخص الروايات التي يُطلِق عليها أصحابها مُسمّى (سيرة ذاتية) خاصةً وأنَّ معظم ما وقع تحت عينيّ في السنوات الأخيرة من روايات من هذا النوع لمْ يكن سوى سَرْدٍ أجوف لوقائع عادية تحدث غالباً في اليوم الواحد مئات المرات لآلاف الأفراد، وبهذا فقد انتفت عنها الخصوصية أو التفرد أو حتى الاختلاف على أقل تقدير..سرد يفتقر ويفتقد إلى الدراية الفنية بالرواية وبمفرداتها««إنه سرد يعتمد وحسب على رَصِّ جُملٍ بجوار بعضها وربما دونما رابط فيما بينها..سرد ابتعدتْ عنه السلاسة والانسيابية التي لا غنى عنهما في أي جنسٍ كتابيّ..باختصارٍ هو سرد يخلو من جماليات الرواية /الكتابة إضافةً إلى أن صاحبه لمْ يستطعْ أنْ يُدْخِلَ القارىء /المتلقي إلى عالم الرواية المدهش والممتع بالطبع في آن.
(1)
من قراءةٍ واعية ومتأنية لتنفس صناعي يمكن القول إنها مهمومة ـ بدايةً ـ بأشياء ثلاثة فيما تجيء أشياء أخرى على هامشها..أولها العدالة غير الموجودة والتي تحتاج إلى معجزة ربما لكي تعود مرة أخرى: (رجال الأعمال الشرفاء على ندرتهم يعيشون على الأمنيات كغيرهم من المواطنين..يجاهدون لأجل تحقيقها في عالم تنقصه العدالة التي لا تتحقق من تلقاء نفسها.. فالعدالة تحتاج إلى سيف مسنون أكثر ألف مرة من احتياجها لضمير).
أما ثانيها فهو غياب الضمير /الرادع الداخلي الذي يحول بين الفرد وبين الخطأ /الفساد…:
(ما أتعس مَنْ يعيشون في مجتمعات ثَلُمَتْ سيوفُها وغابت ضمائر مَنْ يتولون أمورها).
وثالث هذه الأشياء هو تلك العلاقة الآثمة التي’تنشأ بين أفراد ضد أفراد آخرين..إنه علاقة تبادل المنفعة /المصلحة:
(كيف يمحو كل صابون العالم رائحة الزفارة التي تَعْلُقُ بصداقةٍ نشأتْ على ضفة بحرِ تبادلِ المصالح؟).. وهذا هو السؤال الذي ردده الراوي مع شكسبير.بعد أن انتهى من مراسم زيارة صيانة قام بها مع فريق من الشركة التي يعمل بها إلى إحدى المستشفيات وبعدما أغدق عليهم صاحبها بغداء تفوق تكلفته تكلفة قطع الغيار التي ركبوها في الأجهزة.
(2)
تروي رواية (تنفس صناعي) جانباً من السيرة الذاتية لنِصْفِ شخص (بطلا الرواية شاعر وباشمهندس والاثنان يعيشان في جسد واحد وتُسيِّرْهما روح واحدة)..هذا النصْف قَتَلَ في ميدان أولى صفحات الرواية نصْفه الآخرالذي يظهر ويختفي على استحياء من حين لآخر. وعلى الرغم من انتمائها إلى هذا الجنس الأدبي/السيرة الذاتية إلا إنها تحمل كمَّاً هائلاً من المتعة غير المجانية وغير المُفتعَلة..متعة رصينة لا ينقصها المضمون الفكري وهذا لما تحتوي عليه بين سطورها من براعة أسلوب وحبكة روائية تنمو وتتحرك في سلاسة. إنه أسلوب الشاعر / القاتل الذي مثلما أجاد في تنفيذ عملية القتل هذه أجاد كذلك في تطويع مفرداته الخيالية /الواقعية وأعاد تكوينها وتشكيلها من جديد بفنية مُحْكَمة يحسده عليها الكثيرون ليُخْرج لنا مُنمْنمات /أو هكذا أراها تقوم بدور (الكالابش) التي يُوثق القاريء ويُقيّده برغبةٍ منه ولا يُفْلته حتى ينتهي من قراءتها.. (أعترف أنني للمرة الأولى امتلكت القدرة على الإنتهاء من قراءة رواية تتجاوز صفحاتها المائتين والستين صفحة في وقت قياسي دونما ملل).
إنها رواية مُحْزنة مُؤلمة مُمتعة مُبكية..فيها قليل من التفاؤل /قليلُ الملح الذي بدونه يفسد الطبيخ..ترصد خبايا وأسرار وتفاصيل عالم الأجهزة الطبية من داخله لا من خلال عين تتلصص عليه من الخارج..لا سيما وأن الراوي’كان يعمل مهندساً لأجهزة التنفس الصناعي وقضى سنوات عديدة يتعامل معها ومع مستخدميها ومستورديها بل ومحتكريها.وفيها أثبت الشاعر/ الباشمهندس الذي يتعامل من جهةٍ بآليات هندسية ويُفكر من الناحية الأخرى ويكتب بأسلوب الشاعر الأدبي مهارته ولنقُلْ (شطارة) الباشمهندس القابع في أحشائه ـ على الرغم من قتله له ـ في كيفية تناول سيرته الذاتية وكيفية الدخول إليها مُستخدماً تكنيك حَكْي لا يُصيب متلقيه بالسأم بل يُشعره بأنه يحتسي كأس متعة حقيقية مع كل صفحةٍ يقرؤها.
كذلك يمكن أن نُطلق على تنفس صناعي أنها الرواية الخلطة/الكوكتيل (ليس بالمعنى السييء للكلمة) ..فهي تحتوي على الأمل الذي يولد من رحم اليأس والإحباط..على الملهاة /الكوميديا التي تتفجر من بئر المأساة/ التراجيديا..تحتوي على كم فظيع من الفساد الذي استشرى في كل مكان وزمان حتى لحق بأجهزة التنفس الصناعي والتي يُوضَع المريض عليها وهو في مرحلة انتقالية ما بين الموت والموت أقصد الحياة التي ربما لا تعود إليه وأي خلل ولو بسيط في مثل هذه الأجهزة لهو كفيلٌ بمحو حيوات عديدة لمئات المرضى..مروراً بفساد كبرى الشركات التي تبتلع الشركات الوليدة حتى لا تنافسها في السوق ولو وصل الأمر إلى اغتيالها بكل من وما فيها (الشركات كالأسماك..كبيرها يبتلع صغيرها. الكائنات الحية تلتهم بعضها البعض تلبية لحاجة بيولوجية تخلقها’رغبتها في البقاء والشركات تلتهم بعضها البعض تلبية لحاجات تكنولوجية لا تخلقها رغبتها في البقاء فحسب بل أيضاً شهيتها المفتوحة للربح)..مروراً بفساد الأشخاص العاديين خداعاً ونصْباً (الإنسان كائن مبدع ولكنه شرير تلك هي المشكلة باختصار.أحياناً ما يستخدم ذلك الكائن الخلاق أقصى درجات الإبداع لممارسة أحط أنواع الشر).. وليس انتهاءً بفساد الرؤوس الرئيسة التي تجثم على كراسيّها في الهيئات والمؤسسات المختلفة.
(3)
البطل في تنفس صناعي ليس بطلاً تقليدياً بل هو بطل مزدوج يعيش حياتين مختلفتين على الرغم من كونه كيان واحد .إنهما توأمان ملتصقان يعيشان معاً ..أحدهما شاعر قام بتنفيذ جريمة قتل في نصفه الآخر /الباشمهندس لكي يتخلّص من كل تبعاته وارتباطاته التي يعتقد أنها ـ من وجهة نظرالشاعر ـ قد أضاعتْ عمره سدًى..لقد أجْهز الشاعر على الباشمهندس لكي يخلو له الجو مع شِعره وإبداعه.
نعم قُتل الباشمهندس على قارعة الصفحة الأولى من الرواية لكنه ظلَّ حياً يُرزق طوال مائتي واثنتين وستين صفحة. لقد أضاع الباشمهندس عمر الشاعر في المستشفيات وبين أجهزة التنفس الصناعي ومع بشرٍ لم يكن يرغب في الاحتكاك بهم أو حتى رؤيتهم.
(يقولون إن السفن تصطدم بجبال الجليد الغارقة التي تختفي تحت سطح البحر لكنني أعترف أن سفينتي كثيراً ما كانت ترتطم بجبال تظهر بأكملها طافية على صفحة الماء. ومن السهل على أي قبطان أن يتجنبها مهما تواضعت مهارته).
(4)

في مقدمته التي كتبها الباشمهندس مُستخدماً تقنيات الشاعر وأسلوبه يقول: ما يعنيني الآن على وجه الخصوص هو أنك يجب أن تتوخى الحذر خلال القراءة كما يُفضّل أن تُفسح مجالاً للشك في بعض مما ستقع عليه عيناك..فقد تكون هناك إضافات أو (تحابيش) من صنع خيال قاتلي..شاعري الذي تركتُ له مهمة نشر هذا الكتاب بمحض إرادتي.
هنا يتجلى الفرق بين تنفس صناعي وهي تمثل سيرة ذاتية وبين روايات أخرى لم تتعد كونها سرداً لوقائع وأحداث حقيقية جافة لا تحمل بين طياتها أي قدر من الخيال الخصب الذي يُضفي على العمل الأدبي مسحة دهشة وإمتاع.
فيما يميل الشاعر في إهدائه إلى رومانسيته المعهودة فعلى الرغم من قيامه بجريمة قتل إلا أن خافقه لم يطاوعه فرأى أن ينصح أصحاب المواهب الآخرين الذين يمتهنون حِرَفاً يظنون أنها تحرمهم من ممارسة الإبداع فيقول:رُبَّ ضارة نافعة..لكنني أهمس في آذانهم: كلٌّ يُهاجر إلى ليلاه ولستُ ضامناً لفردوس..ولا مُحرضاً لأحد.إنه يخشى هنا أن يقوم آخرون بالفعل نفسه فيموتون جوعاً وتتشرد أُسرهم لأننا ببساطة في أوطان لا تعترف بقيمة المبدع ولا حتى بوجوده أصلاً.
هذه هي رومانسية الشاعر الذي رغمها تورط في القتل (اللذيذ)..لكن تُرى ما الذي كان يحمله الباشمهندس في داخله تجاه هذا الشاعر/ نصفه الآخر؟
لقد مارس هو بالفعل فعْلَ القتل معه مِن قبل وهو يحرمه ـ لانهماكه في عمله ـ من ممارسة طقوسه الإبداعية التي يحبها..لقد أهدر سنين عمره في عالم لم يكن ليحبذه.. لكنها قسوة الحياة ومتطلباتها التي تفرض قانونها الخاص / اللا بشريّ على الآخرين دون أن تصغي إلى آلامهم أو تعطي لهم أي اعتبار.وبهذه تصير عملية قتل الشاعر للباشمهندس ما هي إلا عملية ثأر أواسترداد حق!
(5)
في تعقيب الشاعر على ما كتبه الباشمهندس يحاول أن يُكذّبه في بعض المواقف وكأنه لم يكن حاضراً بشحمه وبلحمه معه..إنه يلومه ـ ويوبخه أحياناً ـ في الوقت الذي لم يلتفت هذا الشاعر لأخطائه هو..ألم يكن شريكاً معه في كل ما حدث تدبيراً وتنفيذاً؟
ثم ألم يخطيء الشاعر حينما قتل المهندس وتسبب بذلك في دخوله وأسرته إلى ضوائق مالية شديدة؟
ألم يخطىء الشاعر حينما ترك الحبل على الغارب للباشمهندس ولم يتدخل لأقصائه عما يفعل؟
لقد قتل الشاعرُ ولهذا يختتم روايته قائلاً:
لن يوقفني أي شيء عن استكمال مشاريعي المؤجلة.. حتى وإن أنفقت ما يتبقى لي من العمر..حبيساً في زنزانتي.
(6)
وبعد..هذه هي رواية تنفس صناعي لصاحبها الباشمهندس القتيل /الضحية يرحمه الله والشاعر القاتل أمد الله في عمره والتي صاغها في أسلوب تفوح منه رائحة السخرية وقتما يتطلب الأمر ذلك ويفوح جدةً ساعة أن يكون الدافع إلى هذا موجودا..لقد استخدم الشاعر تقنيات المهندس في بناء العبارات بشكل فني فاتن يشي بمقدرة فائقة في التعامل مع فن السرد الروائي..ويبرهن أخيراً على أنه كان بالفعل باشمهندساً.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية