الحرية على قائمة الانتظار

حجم الخط
1

انتفضت الشعوب بالمنطقة من المحيط إلى الخليج منذ واقعة محمد البوعزيزي، ضد حكامها. طموحهم غذ أفضل، أبرز مطالبهم الديمقراطية وكل ما قرب إليها، وهكذا انطلق الحراك مفاجئا للجميع، وتسربت المطالب إلى كل الأقطار بالمشرق والمغرب؛ فمن ضيق التسلط إلى رحاب التغيير والحرية كان اختيار الشعوب واضحا، قبل أن تتحطم الآمال. مرت ثلاث سنوات على الحدث فيما وسم إعلاميا ‘الربيع العربي’، وتجاوزا نعتبره متميزا، إذ تشكلت ماهيته واكتسب شرعيته بتحلُق طبقات الشعب حول الحمولة التاريخية التي اكتساها تراوحت النتائج بين إسقاط الرؤساء على سدة الحكم؛ بسلطة الأمر الواقع أو بقوة السلاح أو عبر إصلاحات وصلت حِدتها حَد إعداد دساتير جديدة وخريطة سياسية مستجَدة من القديم، وفي بعضها ظل الواقع كما هو.
انحصر النقاش في تحديد ماهية ما وقع وما يقع، فكانت التفسيرات تتقاطع فتعرف كثورات لم توفق العلوم الاجتماعية في التنبؤ بها، والبعض يعدها أحداثا مفتعلة من قبل من ‘يصنع الشمس والشتاء بالمنطقة’، وفي الغالب تحسب كأنها تحصيل حاصل لغياب أسس حياة كريمة أي بالمحصلة غياب الحرية بكافة تجلياتها، كأي نقاش مغلوط في أساسه انتهى مضيعا فرصة سانحة للتصحيح أو للانطلاقة نحو المستقبل.
كان وحده شعار الحرية يحلق وكانت المفردة -الحرية- حاضرة في الوجدان بقوة في كل الميادين وكانت أنيسة الحناجر، وكان المحللون يفتتحون تحليلاتهم بتمجيدها ويختتمون كلماتهم بالتبشير أو التخويف منها، بعد الأحداث تغير الواقع -الذي نعيشه- بصورة بنيوية وبشكل متسارع. بالتدقيق عن قرب وبنظرة أفقية له؛ بقي كما هو، بالمحصلة لا تغيير وقد خيل للجميع أنه كالعودة إلى نقطة الصفر. ولان الأمر كذلك، يبقى شعار الحرية خالدا لا يغيب في كل المجالات والميادين نقاشا ومطالبة وتظل هي غائبة عن الواقع!
يجب التأكيد أولا، أن الدعوة إليها ليست وليدة هذه الأحداث؛ لأنها كانت ملازمة للبشر، لأنها أم البدايات وسيدة النهايات! وثانيا، إن المشرق وكما بالمغرب فمعركة الحرية قطعت أشواطا مهمة على مر الزمن، سجلت ملحمتها الكبرى في فترة الاستعمار، ففي سبيلها الحرية – دفعت شعوب المنطقتين أرواحا وقدمت تضحيات من اجل استعادتها، ولا تزال تقدمها في سبيل التحرر والكرامة. و إن كانت المقاربة مختلفة حسب خصوصيات كل ثقافة على حدة، ودون الخوض في الإشكالات خاصة التحرر سابق على الحرية، ومسألة الحرية الفردية (…) تبين أن جدار الخوف قد سقط بعد الحراك، فتحركت الشعارات هنا وهناك إلى حد أضحت معه معركة الحرية واقعا يوميا؛ فباسمها تبرر السلوكيات والتصرفات اليومية بشكل جعل هذه الكلمة حاضرة بقوة في الوجدان الشعبي وفي الشارع.
بالعودة إلى المدى القصير في تجربة الحراك وما بعده، يتأكد أن التغيرات والتحركات الإقليمية زكت سلسلة من التراجعات ولمحدودية ما تحقق من المطالب، بالإضافة إلى تحديات ما بعد انحسار ‘الموجة الثورية’، وتتلخص هواجسه في ثلاثة عوامل:
أولا، فشل الحراك في تنزيل المطالب بعد التأسيس لمشروعيتها عبر الشارع، فبعد تجربة الحرية والحراك على محدوديتهما، برزت تخوفات من المستقبل، لاسيما أن اغلب دول الحراك سقطت في تحدي المرحلة الانتقالية؛ وبعضا منها في شراك الحرب الأهلية ونعرات الطائفية، هذه الأوضاع تظهر بجلاء محدودية ما تحقق من جهة وفشلا في تنزيل المطالب مصير يستغل إعلاميا وسياسيا من قبل باقي الأنظمة سعيا لتجاوز تحدي تنزيل المطالب، فيتم توظيف ضبابية ما بعد الحراك والصراع السياسي الذي انزلقت إليه للإجهاز على المطالب، بل و التخيير بين استمرارية الأنظمة وبين السقوط في المجهول؛ أي التضحية بالحرية وبقية المطالب ، أمام هذا الخيار يكون الاختيار بديهيا للاستقرار، وتنجح الحيلة المتجددة !
ثانيا، فشل في كسب المعركة ضد الأنظمة، أي أن المطالب – على بساطتها و قوتها – سقطت بالالتفاف عليها، فرغم النجاح الجزئي في إسقاط الرؤساء لم تستطع الشعوب بعد تجاوز ‘إرث الأنظمة السلطوية’ وبالأساس القضاء على ‘فلسفة الأنظمة’ القائمة على الاستبداد وثقافة الريع والتجويع (…)، ببساطة تُغيَّب قيم الحرية والديمقراطية، بالمقابل استطاعت الأنظمة أن تعيد تركيب ميكانيزمات اشتغالها بعد تعطيل محدود، عبر قدرتها على إفشال أو الركوب عليها-مطالب الشعوب- أو الانقلاب على انجازاتها. خطورة الأمر تتعدى ما سبق إلى الإساءة لروح المطالب وتحويرها والتخويف منها باسم ‘درء الفتنة’، ‘الإصلاح التدريجي’، ‘مكسب الاستقرار’ وغيرها من المصطلحات والسياسات و الإجراءات الهادفة إلى تهدئة المحتجين، أو على الأصح التضحية بالحرية وكل المطالب باسمها المصطلحات والسياسات- كي تنجح في كسب الرهان بأقل الخسائر؛ وتعيد انتاج سياستها وتقوي نفوذها.
ثالثا، في الحاجة إلى ثورة ثقافية ووعي سياسي مصاحب للمطالب، ذلك أن الحراك لم يستطع بعدُ أن يضع نصب عينيه مكمن الخلل؛ وهو إعادة الاعتبار للمعرفة وللعلم وعبرهما للرأسمال البشري والنهوض به من خلال ثورة ثقافية تشكل قطيعة مع الماضي، ثورة لعلها تُلحقنا بركب مجتمع المعرفة؛ في عالم أضحى يعيش انفجارا معرفيا جعل امتلاك المعرفة قوة تضاهي القوة العسكرية والاقتصادية، بل هي المصدر الحقيقي للقوة. فتغيير الحكومات والأنظمة يبقى خيارا سهلا ويبقى تحدي تغيير العقليات أمراً مستعصيا، ولان الحرية تبدأ حينما ينتهي الجهل، سيبقى الخيار الصعب نهضة وثورة ثقافية.
إجمالا، لابد من الإشارة أولا؛ إلى انه بالرغم من كل العوائق والهواجس التي رافقت الحراك وما بعده استطاعت الاحتجاجات التأسيس لواقع جديد رغم محدودية ما تحقق بهذه البلدان. وثانيا؛ إن الحرية ظلت على رأس المطالب بالرغم من أولوية ‘المطالب الخبزية’ في مفارقة حقيقية بواقع يوصف بالجديد.
يبقى من المصادفات، أن الشعوب تحركت باسم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وعلى نشيديهما تتابعت الأحداث بالمنطقة بل وتجاوزت حدودها، ومن مفارقتها أن محصلتها تراوحت منقسمة على شعاراته؛ فكان للبعض الحرية المؤقتة وللبعض الأخر جزءا من الكرامة وحظ الأخرى بعضا من العدالة الاجتماعية، قبل أن تنتهي بتراجعات مع اتضاح أن أمواج المرحلة هدأت؛ فعادت المنطقة إلى الهدوء الذي يسبق العاصفة.
أخيرا، ستظل الحرية مطلبا دائما ولن يتحقق الإشباع منها، وستبقى على رأس المطالب، بل إن مصادرتها مستحيلة لأن معركتها محكوم عليها أن تستمر إلى ما لانهاية. نعم، التضييق عليها ممكن، لكن بالتضحيات تعود إلى مسارها الصحيح ولو بعد حين. لأننا محكومون بالأمل نسجل أن المعركة من اجلها لم تنتهي ولن تنهي، لكل ذلك ستظل .

‘ طالب باحث بسلك الدكتوراه وحدة الدراسات الدولية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد ابوبكارن:

    بارك الله في سيادتكم ووفقكم الى كل ما فيه الخير ونتمنى أن تسود العدالة مجتمعاتنا العربية بعيد ا عن كل التطاحنات التي لاتخذم الا مصلحة العدو

إشترك في قائمتنا البريدية