للخلف دُر!: هجمة الثورة المضادة والحماقة التي أعيت من يداويها

في مقالاتٍ سابقة رأيت في حراك 25 يناير الثوري وما تبعه من اختلاجاتٍ بلغت أوجها في 30 يونيو عودتين: عودة الشعب المصري وسائر شعوب المنطقة إلى التاريخ وإعادة الاعتبار للواقع، لكن يبدو لي في هذه الأيام أن هناك محاولاتٍ شرسة دؤوب للارتداد والعودة إلى الوراء خروجاً من التاريخ، فمن ناحية لم تثُبت الدولة العميقة وتتمكن من محاولة إعادة إنتاج نفسها بدرجةٍ عاليةٍ من النجاح فحسب، وإنما تجدن قطاعاتٍ متسعة من الجمهور تفاخر باستعصاء (بعضهم يذهب إلى حد استحالة) الدولة المصرية على التغيير ومقدرتها المدهشة على لعق جراحها وترميم أدواتها، ومن ناحيةٍ أخرى ها هو ذا البلد الذي شارف على الوثبة النوعية، التي كنا نأمل أن يقطع بها خط اللارجعة مع مواضي التخلف والاستبداد والقهر، ينزلق إلى صراعٍ غبي خارج التاريخ، والحقيقة أنني وإن كنت أشارك جماهير الشعب المصري حالة السأم والإحباط ونفاد الصبر من ‘الفترة الانتقالية’ التي لا تنتقل ولا يبدو لها أية بوادر رسو على بر، ناهيك عن التشكيك، بل والتخوف من المستقبل، وإن كنت أستعر غضباً من الطريقة التي جرت بها أكبر عملية سطو في التاريخ البشري، حيث سرق النظام والإخوان ثورة الشعب المصري واختلفوا ومن ثم احتربوا في القسمة، إن كنت أشعر بالحزن على الدماء البريئة التي تسيل ويذوب معها الكثير من معاني الانتماء والتجانس وقدسية الحياة والرحمة والإنسانية، فإن أكثر ما يتسلط علي الآن بمنتهى الصراحة، هو الشعور بالغيظ! أجل الغيظ من السلطة والإخوان، ومن يفجرون ويقتلون وانعدام مقدرتهم على الفهم.
إن الثورات لا تقوم بسبب تغيراتٍ مزاجية أو بدافعٍ من الملل، فالشعب المصري لم تكن جموعه تعيش في رفاهيةٍ مفرطة وترفل في حلل النعيم، ثم تملك منها الضجر فاندفعت إلى الشوارع بالملايين طلباً للإثارة، وإنما فعلت ما فعلت لأنها فاض بها من الجوع الذي ينهش والمستقبل المنغلق تماماً ومن الإهانات المتكررة والمجانية من الشرطة وسائر المتنفذين من ذوي النفوذ والسلطان، لقد ثارت لأن الوضع لم يعد يقبل الاستمرار ولم يعد يرجى من الصبر أمل، ثارت لأسبابٍ من صلب الواقع ومن طين الشوارع وعرق الحياة، وقد دهشت من قوتها ومقدرتها على إسقاط ما صور لها حتى حينه نظاماً منيعاً، ولم يقصر إعلاميوها والعالم الأوسع من ترسيخ إدراكهم ذاك بأنهم قاموا بعملٍ عظيم غير مسبوق، لذا فليس من عجب أنهم ينتظرون المكافأة، أو بالأدق استعادة حقوقهم التي أدركوا على ضوء حجم السرقات التي تكشفت كم كانت مسلوبة، والكل، وعلى رأسهم إعلاميو مبارك الذين غيروا جلودهم بليل، نعقوا ليل نهار مؤكدين تلك ‘الحقائق’، إذن باختصار شديد لقد تحرك الناس لأن إشكالياتٍ عميقة نابعة من أسلوب إنتاج وتقاسم الثورة وطبيعة السلطة السياسية وصلت إلى النقطة الحرجة، نقطة اللاعودة، وأول من أكد ذلك اولئك الذين انضموا إلى الثورة لحظة سقوط مبارك على طريقة ‘مات الملك، عاش الملك’.
لكن المشكلة الاخرى التي ولدت مع الثورة كتوأمها الملتصق، هو ضعف التنظيمات الثورية وفقدانها القاعدة الجماهيرية، نتيجة عهود التجريف والإخصاء السياسي ووجود الجماعة الكثيف والقوي في الشارع، لقد كانت الجماعة وإفساح المجال ‘للدعاة’، الاستثمار الأنجح لنظام السادات/ مبارك الذي يمتص الغضب والسخط ويطرده إلى الطبقات الأعلى من الفضاء الخارجي كمدخنة مصنع طويلة ومحكمة تطرد الصهد.. وقد لعب الطرفان المتماهيان من الناحية الفعلية من حيث الانحياز الاجتماعي والاقتصادي مع بعضهما بعضا وتلقفا (كالكرة على رأي أبي سفيان) صولجان السلطة الذي كاد أن يسقط في لحظةٍ تاريخيةٍ فارقةٍ وغير متوقعة، وهما غير ثوريين بالضرورة ولا يعرفان لا ثورة ولا إعادة توزيعٍ عادلٍ للثورات، والباقي من الأحداث نعرفه جميعاً حتى الآن.
لكن الجديد والملح الذي يطرح نفسه الآن هو، أما وقد أدرك السواد الأعظم أنهم مسلوبون من ثرواتهم وحقوقهم، وكل الأبواق أكدت لهم ذلك، هل من الممكن أو من المتصور ان يتنازلوا بكل بساطة، طواعيةً عن حقوقهم؟ هل سينجح الحل الأمني في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء؟
السبب وراء تلك التساؤلات هو الحماقة المزدوجة، النظام وإعلامه ‘الأمنجي’ من ناحية والإخوان من ناحيةٍ أخرى، لقد كان وراء 30 يونيو تجمعٌ عريض شمل فصائل ثورية حقيقية وحزب الكنبة، إلا أنه كان الفرصة المواتية، حصان طروادة، الذي مكن الفلول والثورة المضادة من العودة إلى قلب المشهد، وشيئاً فشيئاً جعلوا يطلقون أفكارهم السامة عن لاجدوى ما حدث ومنعة الدولة المصرية ومؤسساتها وشيطنة بعض الوجوه (عن حقٍ أو عن باطل) التي باتت معروفة حين تصدرت المشهد الإعلامي بعد 25 يناير، ثم ها هم يزفون إلينا الدستور كالحل والدواء لكل الأمراض، لقد نجحت الدولة العميقة في إسقاط الإخوان، (وهي في الحقيقة لو تأملت قليلاً مهمةٌ ليست بالعويصة) وهي ترمم منظومة الأمن باستدعاءٍ شعبيٍ مدهش وغير مسبوق (على حد علمي) للبطش، لكن المدهش أنها تتجاهل، عن عمدٍ أو جهلٍ وحماقة بضع حقائق ضخمة وراسخة: ان المشكلة الأساسية، الفقر والظلم في توزيع الثورة والتمثيل السياسي، لم تحل ولم تتخذ خطوةٌ واحدة جادة لحلها! يراهن النظام على الأوضاع المتردية على كل الصعد، أمنياً واقتصادياً، لكي يحن الناس إلى عهد مبارك كفردوسٍ مفقود، إلا أنهم لا يدركون أنه بعد أي استقرارٍ نسبي للأوضاع سيستفيق الناس للمطالبة بحقوقهم الاساسية والأصيلة التي ثاروا من أجلها، ثم كيف يراهنون على الحل الأمني وحده بعد ما حدث مع مبارك؟ وفي ما يتعلق بشيطنة الثورة عن طريق حبس بعض الشبان فالرد بسيط: إن من أسقط مباركاً هم جموع الشعب التي بلغت الملايين وليس هؤلاء الشباب، ولو أن الأمر اقتصر عليهم لكان مبارك (أو ابنه) ما زال يحكم الآن. أما ذلك الدستور فلا قيمة له إذا رفض النظام التنازل عن السلطة الفعلية.
أما عن الجماعة وسلوكها فحدث ولا حرج، لقد قامت ضد سلطتهم ثورة عارمة في زمنٍ قياسي، ثورةٌ قام بها سواد من انتخبهم بسبب الفشل الذريع، ولم يفهموا أو يدركوا أنهم يخسرون الشارع، لم يفهموا أن استمرارهم العبثي لا يستعدي عليهم الجمهور فحسب وإنما يوفر ذريعةً للنظام لاستعادة قوته واعتماد البطش.
لقد أحبط النظام والإخوان 25 يناير منذ البداية وما زالا مستمرين في ذلك، فالطرفان يريدان العودة بنا للوراء، والهجمة على الثورة الآن عنيفة مع محاولاتٍ عنيفة لشيطنتها وتصويرها كونها مؤامرة، ويتميز الطرفان بحماقةٍ لا مثيل لها حيث يتجاهلان أسباب الثورة وكوامنها، والنظام يعيد إنتاج الحل الامني الذي لم يفلح أساساً، لقد اندلعت ثورتان وما يقارب الثلاث سنوات من الانتفاضات والتشنجات المستمرة ولم يفهما حتى الآن فمتى يفهمان؟! فعلاً، إنها الحماقة أعيت من يداويها.

‘ كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول احمد:

    لا تكابر الاخوان كلهم في السجن وكل القتلى منهم .
    و30 يوليو ليست ثورة لان ه حضرها الفلول بقوة .والاخوان (انا لست منهم )هي الصخرة التي سيتفجر عليها ما يسمى نفاقا “العالم العربي” لانهم جزء من الشعب المصري ولهم نفس الحقوق بما فيها رئاسة البلد.
    اما محاولة محوهم من الخارطة اضنك تستطيع ان تسال فاروق وعبد الناصر والسادات والمخلوع.وهذا الكلام ليس على مصر فقط

  2. يقول حسين المقادمة غزة:

    احترم رأي الكاتب وحقه ان يعبر بمايراه ولكن يا د .هل ينفع المساواة بين الجلاد والضحية .ثم ان القوى الثورية التى تنعي عليها عدم تحركها ووقوفها عاجزة عن استعادة الثورة هي نفسها استغلها الفلول للقيام بالانقلاب على الثورة.وهي قوى قصيرن
    ة النظر فوقفت مع الفلول والدولة العميقة ضد محاولة تأسيس الدولة المدنية .بقيادة الاخوان .مع عيوب الاخوان .فالدولة المصرية واهنة ومفلسة وحري كان بالقوى الثورية لو انضمت للاخوان ليس حبا بهم بل لمصلحة الثورة والدولة وهناك انتخابات وتداول سلمي للسلظة ومن يريد أن يتصدر المشهد فليتقدم

إشترك في قائمتنا البريدية