تطول الحكايات حول جَنَّة المثقفين المزيِّفين، بأيامها ولياليها وسهراتها، وإذا ما نسي واحدنا نفسه ولم ينتبه عليها، في غمرة حديثه عنها وعن مهرجاناتها وشخوصها المتأنقين، سيسقط من وجهة نظر آخرين، في خطايا الغيبة والنميمة والحسد، ولن تبرِّأهُ من هذه التهم نظافة يديه وقلبه ولسانه وتاريخه، وربما أقل ما سيوصَم به «إنه ينتمي إلى جيل الطيبين الأغبياء المنقرضين، الذين يستحقون الضحك عليهم» كما عبر عن ذلك أحد المثقفين العراقيين في حوار (بودكاست) أجري معه مؤخرا، ثم غرق في ضحكة عميقة تعبيرا عن شفقته عليهم وسخريته على ما تحمَّلوه من مشقات في حياتهم، وما كابدوه من حرمان سواء بسبب الحب أو بغيره. هنا عليك أن تخمن هل المثقف المعني يفهم معنى الدفاع الوطن ساعة يتهدده خطر جيش أجنبي؟
هل جرب مسؤولية الآباء في كدِّهم وتعبهم من أجل أن يعيش أبناؤهم سعداء غير محرومين من نِعم العيش الكريم؟ هل عاش تجربة شارك فيها جيرانه بالمال والوقفة المعنوية المساندة بالمشاعر والكلام الطيب، إذا ما كان بيتا من بيوت المحلة التي يسكنها بحاجة إلى مساعدة من بعد أن أصابته نكبة؟ هل اغرورقت عيناه بالدموع حبا وحنينا وشوقا ولوعة حال سماعه أغنية قديمة ذكَّرته بعزيز فارقه، أو جلسة جمعته مع أهله وأصحابه في ما مضى من الأيام؟
ثقافة التخريب
جيل الطيبين مصطلح يتم تداوله في مواقع التواصل الاجتماعي من قبل العراقيين، كلما ارتفع منسوب الحنين في داخلهم، إذا ما دار الحديث بينهم عن الأزمنة التي عاشها العراقيون، قبل أن تبتلي بلادهم بعفونة الطائفية وروائحها في المرحلة التي أعقبت سقوطها تحت سلطة الاحتلال الأمريكي، ولأنَّ الزمن الحاضر تمدَّدَ الإرهاب في شرايينه بعناوين وطنية ودينية ومذهبية، وأنشب الفساد مخالبه في كل صورة يستطيع الوصول إليها من صور الحياة، بعد أنْ اطمأن الفاسدون من أن الملاحقة والعقوبات القانونية لن تطالهم، وأفلحت ثقافة التخريب في أن تعم، ويصبح لها فلاسفة ومؤسسات تعمل لشرعنتها وشيوعها، باعتبارها واقعا مقبولا، وما من سبيل لمواجهته. وسط هذا المشهد المعبأ بالأسلحة المتهيئة للقتل سرا وعلانية، شاع الخوف، وتجردت من الشجاعة إرادة الكثير من العاملين في المشهد الثقافي، طالما الأمن بات مفقودا، وحياة الانسان أصبحت متأرجحة بين احتمالات الموت خطفا أو غدرا أو قتلا في وضح النهار، دون أن ينال الجناة نصيبهم من العدالة، وهكذا تم اغتيال المفكر كامل شياع في 23 آب/أغسطس 2008، والباحث في شؤون الجماعات الإسلامية الدكتور هشام الهاشمي الذي اغتيل أمام منزله في 6 تموز/ يوليو 2020، ورغم القبض على قائد المجموعة الذي اغتالته واعترافه بالجريمة، إلاَّ أنه نجا من حكم الإعدام الذي صدر بحقه، وأُطلق سراحه. ولا جدال في أن القائمة ستطول لو استعرضنا أسماء المثقفين والأدباء والفنانين والناشطين المدنيين الذين سقطوا بأسلحة الإرهاب الميليشياوي المحتمي بسقف الوطنية والقداسة المذهبية.
مَن انخرط في ماكنة مؤسسات ثقافة الطوائف، من أدباء وكتاب وصحافيين كانوا الأسوأ في إشاعة ثقافة الخراب، وعلى وجه خاص أولئك الذين يحملون جنسية بلد آخر إذا ما قورنوا بالعناصر المحلية التي تتولى تنفيذ عمليات الخطف والاغتيال، لأن الكثير من مزدوجي الجنسية، إذا ما أحسنا الظن بهم، واستبعدنا فكرة تدريبهم وتأهيلهم على أحدث تقنيات تمرير الأفكار من قبل المؤسسات والمنظمات الغربية، تم إغراؤهم برواتب وامتيازات مغرية داخل العراق، مقابل أن يوظفوا خبراتهم في إنتاج وتسويق بضاعة ثقافية يختلط فيها الأخضر بسعر اليابس، فيصبح الدَّم الفاسد طاهرا، والطاهرُ فاسدا.
هل يستحقون السخرية
أحاول قدر ما أستطيع أن أتفهم نبرة السخرية الموجهة ضد أجيال الطيبين، الذين كان من بينهم مهندسون وأطباء ومعماريون ومعلمون ورجال قانون وضباط وعلماء ومفكرون ومبدعون، تمكنوا جيلا بعد جيل من أن يضعوا بجهودهم أسس دولة العراق الحديثة قبل قرن من الزمان. أحاول أن أجد تبريرا مقنعا لهذه الوحشية المطلقة عندما ينظر البعض متعجرفا هازئا، مُلتفتا بربع التفاتة إلى الأجيال التي سبقته، فيراها غبية في إخلاصها لعملها ولأُسرِها وتضحياتها لبلدها.
جاء الاحتلال الأمريكي إلى العراق ليس بهدف الإطاحة بصدام حسين، باعتباره ديكتاتورا، ولا لأجل إسقاط نظام سياسي يقوده حزب البعث أساء معاملة شعبه وبات يشكل خطرا على جيرانه، ولا كما صرح بول بريمر أول حاكم أمريكي للعراق بعد احتلاله في حوار تلفزيوني أجري معه عندما قال: «جئنا لنعيد السلطة إلى الشيعة، بعد أن كانت أقلية سنية قد استولت عليها 1400عام «. ورغم صحة غالبية الاتهامات، اتضح في ما بعد بأن كل ذرائع الاحتلال الأمريكي لم تكن هي الأسباب الحقيقية للغزو، أنما كان الهدف الأبعد والأشمل تدمير شعب العراق، وتمزيق ما يلتقي عليه أبناؤه وسكانه بكل عناوينهم، من مشتركات إنسانية ومفاهيم وطنية تجعلهم يفرزون الحلال عن الحرام، والخيانة عن البطولة، والثائر عن المجرم، بغض النظر عن النظام السياسي الذي يحكمهم، وقد تحقق الكثير مما خطط له الغزاة في دهاليز مؤسساتهم البحثية والاستخباراتية، حتى وصل الحال أن يُنعتَ الطيبون بالأغبياء.
درس للأغبياء
من بعد أن نطالع ملامح العطب وهي تمتد عميقا على طول المشهد العام، خاصة في هذه الأيام التي تختنق بمشاعر العجز والإحساس بالمهانة إزاء سكوتنا جميعا، شعوبا وأنظمة ومثقفين وفعاليات مدنية، على ما يجري من حرب إبادة ضد أهل غزة، فليس غريبا إذا ما خيم علينا الإحساس بأن لا جدوى من التفاؤل، لكن وسط هذه العتمة الكالحة، عندما تقرأ وتشاهد بالصوت والصورة خبر اعتقال الشرطة الأمريكية للروائي والشاعر العراقي سنان أنطون الذي يحمل الجنسية الأمريكية، بعد أن شارك يوم الثلاثاء 22 نيسان/ أبريل 2024 في تظاهرات حاشدة داخل حرم الجامعة التي يعمل فيها أستاذا، ورغم إطلاق سراحه في يوم اعتقاله نفسه، إلاَّ أن محاكمة تنتظره في الأيام المقبلة. هذا الحدث يعيد إلى واجهة المشهد، ما ينبغي أن يكون عليه موقف المثقف إزاء القضايا العامة، وفي الوقت نفسه يضع على صدر الطيبين أوسمة المروءة والنبل والشجاعة، لاسيما من كان منهم متغرِّبا عن وطنه الذي هجَّرَهُ رغما عنه، ومع أنه يعيش حياة مرفَّهة وينعم بثمرات نجاحاته المهنية في ديار الغربة، إلاَّ أنه لم يكن من الأغبياء فيسقط في درس مبادئ الأخلاق.
دفاعا عن هوية مهدَّدَة
سنان أنطون نموذج للمثقف والأكاديمي الذي يستحق الاحترام على وعيه ومواقفه. إذ لم تمنعه الجنسية الأمريكية التي يحملها، ولا المكانة الرفيعة التي يتمتع بها باعتباره أستاذا جامعيا، في أن يعبر عن قناعاته في نتاجه الشعري والروائي، وفي الفعاليات الثقافية التي يشارك فيها. وقد أكد في جميعها على عمق رؤيته في التعبير عن هويته الوطنية والإنسانية، منتقدا ورافضا ما أفرزته مرحلة ما بعد عام 2003 من مفاهيم ثقافية وسياسية، هدفها تدمير الهوية الوطنية الجامعة للعراقيين، والدفع بهم إلى أن يسقطوا بوعيهم وثقافتهم وسلوكهم في مستنقع التفكير الأقلياتي، والغرق في حمى وسعير الهويات الفرعية بأيديولوجيتها السياسية الضيقة. فمن الطبيعي أن يكون ضمن المتظاهرين المحتجين على سياسة أمريكا الداعمة للصهاينة وقوات الاحتلال الإسرائيلي، وما يجري من إبادة جماعية بحق المدنيين الفلسطينيين في غزة.
كاتب عراقي