لا يختلف الكثير من المتتبعين للأحداث في العراق في نظرتهم للواقع السياسي المقبل لهذا البلد، على الرغم من تعدد الاحتمالات الواردة من اختلاف الرؤى، نتيجة لاختلاف الأهداف وتنوع المصالح وحجم الأضرار أو المنافع التي ستتركها الأحداث والتداعيات الناتجة عن الانسحاب الأمريكي من العراق على النظام السياسي العراقي من جهة، وعلى القوى الإقليمية والعالمية الطامعة في إملاء الفراغ من جهة أخرى.
وانطلاقا من هذا السياق، يبدو واضحا أن أهداف جلسات الحوار الثنائي الأمريكي ـ العراقي الخاص بإنهاء مهمة التحالف الدولي، هي العمل على إيجاد الصيغة المناسبة لطبيعة علاقة الولايات المتحدة المقبلة مع العراق، بعد أن أبدى الجانب العراقي من خلال تصريحات رئيس مجلس الوزراء الرغبة الجادة لتطوير هذه العلاقة، لتشمل إضافة لملفات الجانب الأمني، تفعيل الملفات والمجالات الاقتصادية الأخرى، نظرا لامتلاك العراق موارد اقتصادية كبيرة، ما يعطيه القدرة والتأثير على سوق الطاقة العالمي، ناهيك من العديد من الفرص والمجالات الكثيرة التي يوفرها هذا البلد الغني لعمل الشركات الأمريكية في مختلف القطاعات الاقتصادية والخدمية والعمرانية.
ووفقاً لتقارير ودراسات معاهد الأبحاث الدولية، تعمل الإدارة الأمريكية على ترجيح كفة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الذي صارت تعتبره أفضل البدائل لقيادة العراق، نظرا لمواقفه الواضحة من علاقات بلده مع الإدارة الأمريكية، ورغبته المعلنة لاستمرار الاستشارة الأمريكية، نتيجة لحاجة العراق المستمرة لدعم المتطلبات والاحتياجات التي لم تكن جاهزة للمستوى المطلوب.
وما بين أسباب هذه الترجيح وصمت المسؤولين الأمريكيين والعراقيين على طبيعة الملفات التي يتم التباحث عليها في العراق، كشفت المواقف والتصريحات المتعددة للسفيرة الأمريكية آلينا رومانوسكي، طبيعة مهمتها الدبلوماسية التي تكمن في حرص الإدارة الأمريكية على توسيع اتفاقية الإطار الاستراتيجي المتفق عليها بين الولايات المتحدة والعراق، بما يتجاوز الأمن إلى علاقة شاملة تحقق نتائج للشعب العراقي، ما يعني في قراءة ما بين السطور، القبول بالتعامل مع القوى العراقية القادرة على إبقاء العلاقة الأمريكية التي اختيرت للعراق، شرط ضمان استمرار مصالح بلدها الدائمة في العراق. وبمعنى آخر، قبول الأحزاب الحاكمة في الداخل في الاختيار ما بين الرغبة في التعامل مع الوجود الأمريكي الدائم وإنْ اختلفت طبيعته، أو رفض وجوده سياسيا وعسكريا.
قبول الحكومة العراقية الاستمرار في التعامل مع شكل من أشكال الوجود الأمريكي بضوء أخضر إيراني يتماشى مع الأهداف الحيوية العليا للولايات المتحدة في الشرق الأوسط
وفي هذا السياق الإقليمي والعالمي الملتهب والمتغير، تظهر المؤشرات الأولية بموافقة الجانب العراقي المشارك في جلسات الحوار الثنائي الأمريكي ـ العراقي الخاص على الخيار الأول، إذا أخذنا بعين الاهتمام طبيعة الخطاب الرسمي العراقي وعلاقته بأسباب هذا الترجيح، والدفع المعنوي الذي تبديه واشنطن للنظام السياسي القائم في العراق ولحكومة الإطار التنسيقي في بغداد، بالرغم من استمرار وضع الشروط الإيرانية في علاقة هذا البلد مع الآخرين، والعمل على تجييرها لخدمة مصالح طهران. وهذا ما يوضح أسباب التدخل الإيراني الأخير للكف عن توجيه الفصائل المسلحة المزيد من الضربات ضد الولايات المتحدة في الوقت الحالي وأهمية تأثيره على مجرى الحوار.
من هنا أصبح من الواضح أن ما يدفع إيران للضغط على هذه الميليشيات، هو الرغبة في استمرار المحادثات الأمريكية ـ العراقية لإيجاد توافق عراقي ـ أمريكي، يضمن لها بقاء مصالحها، ويحافظ على أهدافها الحيوية. وكما أن السماح لنجاح دبلوماسية أصدقائها وحلفائها هو الخيار الأفضل، لاستمرار تواجد سياسي مذهبي دائم، يضمن ترجيح كفة ميزانها التجاري في مجالات تصدير الغاز والسياحة الدينية، ويبعدها بالتالي عن الدخول في صراع مباشر مع القوة العظمى، له القدرة على زعزعة استقرار النظام، نظراً للتفاوت في حجم قدرة الإمكانات العسكرية التي لا تضاهي إمكانيات الولايات المتحدة.
في المقابل، لا شك أن قبول الحكومة العراقية، الاستمرار في التعامل مع شكل من أشكال الوجود الأمريكي بضوء أخضر إيراني يتماشى مع الأهداف الحيوية العليا للولايات المتحدة في الشرق الأوسط المتمثلة في ضمان مرور النفط للسوق العالمي، ومنع انتشار السلاح النووي ومن ثم تحجيم القطبين الروسي والصيني ومنعهما من إملاء كل الفراغ، وبالتالي الحفاظ على مكانتها كقوة عظمى، والخروج من المربع الرمادي بين سياق الاحتكار أو المشاركة والتعامل مع الواقع الجديد لعالم متعدد الأقطاب، بما يضمن بقاءها وعدم ترك الفراغ كاملا لتسهيل ملئه من قبل الصين وروسيا أو إيران بالسذاجة التي يتخيلها بعض المنجمين.
لا شك أن ما يدور ويخطط في المحادثات الثنائية الرامية الى إنهاء التواجد الأمريكي في العراق، والشروط الملزمة لتنفيذ بنود الاتفاق في المستقبل ستراعي قبل كل شي مصالح الطرف القوي، وعلى حساب الطرف الضعيف، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار، الأهداف الأمريكية المعلنة التي تتمثل في الرغبة للسيطرة على اقتصاد النفط العالمي، وحرصها للدفاع عن حلفائها في المنطقة وإن اختلفت الإدارات الحاكمة.
إن الموافقة على إنهاء التواجد الأمريكي في العراق بشكله المرسوم تحت الكواليس في حال موافقة الطرفين على بنوده، لا يعني على أي حال نهاية للنفوذ الاستراتيجي السياسي والاقتصادي الأمريكي في العراق، والذي في حال حصوله قد يرسم صورة غير لائقة تجعله بمظهر الهارب الذي فضل الخروج من المستنقع العراقي، بعد فشله في إرساء ودعم نظام ديمقراطي مستقل يرعى مصالح كل العراقيين.
وقد تكون هذه الصورة، بمثابة الفرصة الملائمة لمنافسي واشنطن كروسيا والصين لكسب أنظمة المنطقة، في حال انسحابها، بعد فشلها في كسب عقول وقلوب العالم العربي، ما قد يؤدي إلى انحسار نفوذها ويدفعها إلى إعادة حساباتها على رقعة شطرنج إقليمية ودولية معقدة ومضطربة من خلال الالتزام بوضع القيود الخاصة كشرط للخروج بحل لمغادرة العراق، كالمخاوف من عودة تنظيم «الدولة» والحرص على حماية الأكراد في سوريا والعراق. وهذا يوضح الاحتمالات الواردة على موافقة المسؤولين الأمريكيين والعراقيين على ما يتم التباحث حوله في جلسات الحوار الثنائي الأمريكي المستمرة مع النظام السياسي في العراق.
كاتب عراقي