صوت المصريين لجمال عبد الناصر

هو الغائب الأعظم حضورا في هذا البلد الأمين. لا صوت يعلو على صوته، ولا صورة تنافس صورته وجاذبيته ـ رغم مرور ثلاث وأربعين سنة على رحيله ـ تبدو كأنها الجاذبية الأرضية. إنه جمال عبد الناصر، وكفى.
واستعادة عبد الناصر ـ بالاسم والصورة ـ ليست سلوكا لدراويش في حلقة ذكر، فلم يرتبط اسم أحد باسم مصر كجمال عبد الناصر، وكأنهما صنوان لا يفترقان. واسم عبد الناصر ليس طرفا محايدا، إنه في قلب الصراع الاجتماعي والسياسي الدائر، طوائف التخلف السياسي والنهب الاقتصادي تكرهه كراهة التحريم، والشعب المصري بأوسع طبقاته وفئاته يحبه بشدة، ويرفع رأسه مع رفع صورة عبد الناصر، ليس حنينا إلى ماض ذهب، بل عن رغبة جياشة في استرداد المستقبل، فاسم عبد الناصر تعبير عن الوجدان الجماعي في لحظات المحن ولحظات الفوز، وحين تتحدث مصر عن نفسها، وتستعيد اسماءها الحسنى، فإنها تجد على سطح الذاكرة المختزنة عهودا وعذابات وملاحم، وأشواقا ورموزا، يبرز بينها اسم جمال عبد الناصر في تفرد خاص لا يقبل التكرار، وربما كان ذلك هو ما جعل اسم عبد الناصر مختلفا مميزا في ديباجة الدستور الجديد، فقد حجزوا له وحده صفة ‘القائد الخالد’، وبدا الرجل عنوانا لمصر المتجددة، تتعاقب العصور والعهود، وتتوالى الثورات والأزمات، ويبقى اسمه مع صورته تذكار وفاء من أجيال عاشت عصره، وتذكرة لأجيال جديدة طامحة، ربما لا تعرف شيئا عن سيرة عبد الناصر، وربما لم يذكر لها بخير أبدا، بل توالت عليه حملات الطعن والتشويه، ثم لا يبقى من الركام الهجائي لعبد الناصر شيء، اللهم إلا أكوام من المهملات تسد طريق البلد إلى براح النور، وتبقى صورته كأنها قرص الشمس الدافئة الحانية الطالعة في صباح جديد تنتظره مصر.
نعم، صارت صورة عبد الناصر طقسا شعبيا احتفاليا، يزدهر في كل عام أكثر من أعوام سبقته، كان الحنين إليه قائما على الدوام، كانت جنازة وداعه هي الأكبر في مطلق عصور التاريخ الإنساني، ولم تحدث مثلها جنازة لزعيم رحل قبله أو من بعده، لاعندنا ولا عند غيرنا من أمم الدنيا، كانت مصر التي تقدس معنى الخلود، وتعرف معنى البقاء الأبدي، كانت مصر هي التي أقامت بتلقائية مدهشة وداعها الخاص جدا لعبد الناصر، وداعا لعظمة من سيرة الأهرامات، وداعا لرجل لم يطلب لنفسه شيئا من متاع الناس، لم يملك في حياته بيتا خاصا، لكنه ملك قلوب الفقراء والطامحين جميعا، فهو الرجل الذي عاش ومات بإخلاص لفكرتين، الأولى: انحياز لانهائي للفقراء ولمعنى العدالة الاجتماعية.
والثانية: انحياز لانهائي للوطنية المصرية المنفتحة بالطبيعة على القومية العربية. كانت الفكرتان دليله الذي لا يخطئ، طرحهما على الواقع، وأعادهما إليه الواقع أكثر اكتمالا ونضجا، وفي صورة مشروع وطني جامع، بدت عناصره السبعة ظاهرة في تكريس الاستقلال الوطني والديمقراطية الشاملة ومجتمع الكفاية والعدل وأولوية العلم والتكنولوجيا والتوحيد العربي والتجديد الحضاري والعولمة البديلة، وبدا التصور مرهقا وملهما، ومات عبد الناصر دونه، وهو في سن الثانية والخمسين، ولم يتسع له وعاء الزمن الضروري، الذي كان كفيلا بإنضاج التجربة لتكافئ التصور، الذي تدرك مصر الآن أنها في حاجة لاستعادته، في حاجة لاستعادة التصور والمشروع الذي ضاع منها، في زحام كوارث دهمت وتلاحقت، وأخرجتها من سباق العصر الذي كانت في طليعته زمن عبد الناصر اللاهث.
صحيح أن أخطاء شابت عصر عبد الناصر كأي تجربة بشرية كبرى، لكن الأخطاء ـ وربما الخطايا ـ كانت بنت زمانها وظروفها، ولا يصح لها أن تزيغ البصر عن الاتجاه العام لحوادث التاريخ، فقد كان حصاد تجربة عبد الناصر باهرا، وكانت مصر ـ حتى حرب 1973 ـ رأسا برأس مع كوريا الجنوبية في معدلات التنمية والتصنيع والاختراق التكنولوجي، وقد بدأ الانقلاب على اختيارات عبد الناصر بعد الحرب، وكانت النتيجة على ما نعلم بعد أربعين سنة، فقد نزلت مصر من الحالق إلى الفالق، وخرجت من سباق العصر بالجملة، ‘وقعت من قعر القفة’ كما نقول بالعامية المصرية، وبدلا من منافستها لكوريا الجنوبية في مضمار التقدم والرقي، صارت رأسا برأس مع بوركينا فاسو على مؤشر الفساد الدولي، وهذه حقيقة الانحطاط التاريخي الذي انتهينا إليه، والذي جاءت ثورة 25 يناير 2011 ـ وموجتها الأعظم في 30 يونيو 2013 ـ كتعبير عن الرغبة في عبور الهوة، والحلم باسترداد المستقبل، ووصل ما انقطع مع سيرة عبد الناصر وثورته، وبذخيرة خبرة إضافية أتاحت دواعي التأمل في ما جرى، وعلمتنا أن نهضة عبد الناصر كانت عظيمة، وكانت للناس، لكنها لم تكن بالناس، وهو ما سهل فرص الانقلاب عليها، وحطم الاستقلال الوطني لمصر، وانتهى إلى تجريف طاقتها الانتاجية المبدعة.
وكان الدرس أن الديمقراطية هي الضامن لبقاء النهضات، وكان الدرس أن الأولوية ينبغي أن تعطى لحركة الناس الأحرار قبل وبعد حركة الضباط الأحرار، ولم يكن الدرس غائبا عن عبد الناصر، وكانت لديه ملكة التصحيح الذاتي، ففي أوائل الستينيات من القرن العشرين، جرى حوار لساعات على الهواء، وجرى نقله في بث مباشر على التلفزيون الذي كان أعجوبة زمانه وقتها، كان الذي بدأ الحوار هو المفكر الليبرالي وقتها خالد محمد خالد، الذي ابتدر جمال عبد الناصر بدعوته إلى إعادة الأحزاب، وأنه لا خوف على عبد الناصر وحكمه، فسوف يفوز الرجل وحزبه بأغلبية ساحقة في أي انتخابات تجري، هكذا قال خالد محمد خالد في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية الذي عقد لإقرار ميثاق عبد الناصر، وكان رد عبد الناصر على خالد محمد خالد ضافيا وعاكسا لنقطة خلاف جوهري، فقد رأى عبد الناصر أن الديمقراطية لها جناح اجتماعي لا يقوى الجناح السياسي على الطيران بدونه، وأن خطته أي خطة عبد الناصر هي اجراء تغييرات جوهرية اقتصادية واجتماعية تضع الثروة والسلطة في أيدي مستحقيها المنتجين، وتخلق مجتمعا جديدا من قلب المجتمع القديم، وأن المجتمع الجديد قد يكون جاهزا وقتها لإطلاق حرية تعدد الأحزاب وتداول السلطة.
جرى الحوار في أوائل الستينيات، وفي أواخر الستينيات، كان عبد الناصر يفكر ويستعد ـ بالفعل ـ لتجاوز تجربة التنظيم الواحد، وتحدث في محاضر اللجنة التنفيذية العليا عن التحول إلى نظام الحزبين، وإلى نظام تعدد الأحزاب، وربط التحول إلى التعددية بإتمام مهمة إزالة آثار العدوان وتحرير سيناء، والمعنى: أن صورة التقدم كانت متكاملة في ذهن عبد الناصر، وإن لم يمهله الزمن لترجمتها إلى واقع، فقد رحل الرجل فجأة، وكانت مصر لاتزال على جبهة الحرب، وحين عبر جيش عبد الناصر، وحقق النصر، فقد كان عبد الناصر في رحاب ربه قبلها بثلاث سنوات، كانت التجربة الثورية قد فقدت حارسها ومؤسسها، ولم تكن الأمة في نوبة الحراسة، وجرى العصف بالحلم في غيبة حزب ثوري ونظام ديمقراطي.
ويبقى أن ارتباط المصريين باسم وصورة عبد الناصر له معان أعمق، الارتباط السياسي والتاريخي ظاهر، وخلاصته: وحدة ثورات مصر، ووصل ما انقطع بين ثورة 23 يوليو وثورة 25 يناير المتصلة فصولها ومعاركها، ومد رحلة الثورة بزاد ديمقراطي جديد، وتجديد المشروع الوطني الذي كان عبد الناصر علما عليه، أضف إلى ذلك ما قد يمكن تأمله من ملامح التكوين المصري، أو ما قد يمكن تسميته بطبع المصريين، وأولويات التفضيل عندهم، ففي تكوين المصريين ـ على ما نذهب إليه ـ ثلاث عقائد حاكمة، أولها: الدين الذي يعكس ميل مصر الغريزي إلى حضارة التوحيد. العقيدة الثانية في كلمة هي العدل، فقد ارتبط تكوين الدولة المصرية بتنظيم مياه النيل وعدالة توزيع الموارد. والعقيدة الثالثة ـ في ما نظن ـ هي الجيش، فقد كان الجيش دائما هو النخاع العظمي للدولة المصرية، وارتبطت تطورات التاريخ الوطني بدور جوهري للجيش، وبدأت الدولة المصرية الحديثة ـ زمن محمد علي ـ ببناء جيش الفلاحين المصريين الأول، ثم ارتبطت سيرة الجيش بسيرة البلد وانتفاضاته، ومن ثورة عرابي إلى ثورة جمال عبد الناصر، وقد كان عبد الناصر هو المهندس الأعظم لبناء جيش مصر الثاني عقب هزيمة 1967، وثلاثية ‘الدين ـ العدل ـ الجيش’ بدت متوافرة في شخص عبد الناصر بأكثر مما اجتمعت لغيره، وهو ما يفسر جاذبية عبد الناصر المتوائمة تماما مع مزاج وعقائد التكوين المصري، التي تجعل الرجل حاضرا بيننا وأمامنا رغم غيابه الطويل.
وباختصار، مصر تريد برنامج عبد الناصر، تريد مشروع عبدالناصر مطورا بمتغيرات الزمن من حولنا وفي عالمنا، وتريد رجلا من سيرته لتعطيه صوتها.

‘ كاتب مصري

كلمات مفتاحية

اترك رداً على خليل قطاطو إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد/ المغرب:

    الدكتور عبد الحليم قنديل كان يتمتع بشجاعة عندما كان ينتقد الرئيس السابق حسني مبارك اما الان فهو يرى مآلت اليه الاوضاع في مصر بعد ثورة 30 يونيو المضادة و عودة نظام مبارك بشكل اكثر استبدادا وقمعا ويريد ان يقول ان المصريون صوتوا على هذا الدستور من اجل عبد الناصر الجديد “السيسي”
    زعيم الانقلاب الاسود والتابع لامريكا .الشعب المصري لم يصوت في هذا الاستفتاء المهزلة ولا يحلم بعهد عبد الناصر انه يحلم بالديمقراطية.

  2. يقول lamia:

    دا كان زمان………. من فوائد النقلاب ان غير نظرة الناس لجمال عبد الناصر وصورته المثالية التي كانت في اذهانهم…… وتاكد الناس ان 52 هي ايضا انقلاب …

  3. يقول barhoom:

    جمال عبد الناصر دمر مصر جيشا واقتصادا وافقدها ارضها وعزها ولمن لا يعرف خطايا عبد الناصر.
    دعونا نذكركم بحقائق تاريخية دون ادنى دخل للاراء
    انتزع الرئاسة من اول رئيس محمد نجيب دون ادنى خطأ لنجيب.
    ولم يكتف بذلك بل سجنه فى المرج لمدة 16 عاما دون ان يسمح لاحد بزيارته فى ادنى درجات البؤس.
    افرج عن الارهابيين من قاتلى حسن البن…
    ا والذين كانوا فى الحبس تنفيذا لاحكام قضائية بعد ادانتهم فى قتل مؤسس الاخوان.
    طرد عددا من زملائه الضباط الاحرار الذين طلبوا عودة الضباط الى ثكناتهم وتغيير نظام الحكم واعادة نظام الحكم المدنى للشعب.
    اقحم عبد الناصر مصر عام 1956 بغباء رهيب فى حرب خاسرة ضد انجلترا وفرنسا واسرائيل والاخيرة احتلت سيناء كاملة فى عدة ايام ودمر الانجليز والفرنسيون مدينة بورسعيد واحتلوها واحكموا قبضتهم على قناة السويس.. ولولا التدخل الاميركى والسوفييتى لبقيت فرنسا وانجلترا فى بورسعيد وتحولت سيناء الى ارض اسرائيلية.. ولم تنسحب اسرائيل من سيناء الا فى منتصف عام 1957.. ودخلت قوات الامم المتحدة الى سيناء بقرار دولى

  4. يقول barhoom:

    الجرائم التاريخية لحكم جمال عبد الناصر العسكري

    كتاب جدير بالقراءه للمفتونين بهذا الطاغيه

  5. يقول حسن دكاش بلجيكا:

    كان وراء تخلف وتأخر مصر من ١٩٥٢ الى يومنا هذا

  6. يقول الزعيم:

    اما عبد الناصر فنعم كان رجلا قوميا وكان رئيس لكل العرب رغم الاخطاء التي احاطت بعهده وسببها الزمره الفاسده التي كانت تحيط به وكذلك المؤمرات الخارجيه التي كانت تحاك ضده وعلى فكره هي نفس الاطراف التي تأمرت على الاخوان واعداء مصر لايريدون لرئيس مصر او الحكم في مصر ان يكون قوميا كما كان عبد الناصر او اسلاميا كما كان مرسي يريدون ان يكون رئيس مصر رئيس لجزء من المصريين فقط فهل سيجدون ضالتهم في الرئيس المقبل

  7. يقول عاطف - فلسطين 1948:

    طلب الناس عبد الناصر فحصلوا على السيسي. هل هو نفسه؟؟ يريدون تسويق السيسي غلى اساس انه عبد الناصر؟ هذا غير معقول.

  8. يقول جيلالي الجزائر:

    الشعوب العربية جرب عليها منذ عقود ماضية كل السياسات بدءا من الاشتراكية المتطرفة الى الاشتراكية المعتدلة ثم اللبيرالية الى الرئسمالية المتوحشة و لم تخرج هذه السياسلت الشعوب من الجهل و التخلف بل زادتها فقرا و انحدارا الى الاسفل و لو يطلع جمال الى الحياة مرة اخرى و بنفس السياسة فلن يفوز امام نظام جديد يطرحه الاسلاميون الا وهو الحل الاسلامي الذي لم يجرب بعد .

  9. يقول المهندس عبدالله مسلم--باحث في التاريخ لبلاد كنعان:

    مشكلة البعض في فهم التجربة الناصرية وتقيمها ترجع الى البعد الزمني -اكثر من 40 عاما. تم خلالها حملة اعلامية ممنهجة لتكبير الاخطاء وتصغير الانجازات. حملة تشويهية مدفوعة الثمن عربيا وغربيا لقطع الطريق مستقبلا على اي محاولة او اي مشروع قومي ينشد اعادة بناء الذات العربية -استقلالا حقيقيا مبني على قوة اقتصادية مدعوما بقوة عسكرية.ترى ما هي الانجازات التي حققتها الانظمة العربية القطرية التي استبدلت المشروع الوحدوي بمشروع بلدي اولا.لوسجلت هذه الدول اي انجاز في بلادها على اي صعيد سيكون من حقها توجيه الانتقادات. اما والواقع الراهن يقول اننا اصبحنا في حالة تفوق كثيرا ما يتمناه اعدائنا. من هنا فالهجمة على المشروع الناصري كانت نتيجتها فساد حكم. تخلف حضاري-انهيار التعليم- صراعات عرقية وطائفية–الخ. السؤال الذي يطرح نفسه على هؤلاء هل هذه الشوائب كان لها وجود ايام العصر الناصري؟ لهذه الاسباب ولغيرها الكثير بقيت ثورة 23يوليو وقائدها جمال عبد الناصر حية في حين ان العديد من الاحداث والزعامات العربية انتهت بموتها وليس لهل مكان في الذاكرة الجمعية لشعوبنا العربية.يوم السبت الفائت شهد مجمع النقابات في عمان\الاردن مهرجان ضخم احياءُ لذكرى مولد الزعيم القائد جمال عبد الناصر . وكنا على موعد بقدوم الاخ المناضل د. عبد الحليم قنديل لكن منع من مغادرة القاهرة لاسباب واهية مما دفعه لالقاء كلمة عبر اتصال تلفوني.المشاركون في المهرجان توافدوا من كل الانحاء بدافع فهمهم وتقديرهم لجمال عبد الناصر الذي حمل مشروعا لنهضة امة في حين حمل غيره مشروعا شخصيا يضمن له البقاء في الحكم ولو على–.

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية