وما آفة الأخبار إلا رواتها من أوراق حازم جواد: حركة 8 شباط المغدورة بين الحقائق والتشويه (8)
قاسم استخدم البرقية المفبركة لمصالحه التآمرية والتشكيك بعارف وعبد الناصر الذي وقف مع الثورة الفتية البعث استعرض قوته في ذكري الثورة الجزائرية الظافرة.. ونكسة الانفصال حفزت القوميين للثأر من قوي الردة وما آفة الأخبار إلا رواتها من أوراق حازم جواد: حركة 8 شباط المغدورة بين الحقائق والتشويه (8)بعد اكثر من اربعين سنة علي وقوع حركة شباط المعروفة في التاريخ العراقي (1963) قرر حازم جواد قائد هذه الحركة واحد الرموز المهمة فيها العودة اليها، ووضع النقاط علي الحروف. ويقدم جواد عرضا تاريخيا للاحداث وتقييما للشخصيات التي لعبت في هذه الحركة والظروف العراقية والاقليمية. وهي شهادة مهمة لانها تصدر عن واحد من اهم صناع هذه الحركة. وفي هذه الحلقة يواصل جواد حديثه عن البرقية المزورة التي اججت الانحراف وجلبت الكوارث. القدس العربي قصة البرقية المزوّرةالتي اججّت الانحراف وجلبت الكوارثسربت دوائر الاستخبارات الاستعمارية برقيةً مزورة الي قاسم بواسطة الحزب الشيوعي مؤرخة في 18 تموز (يوليو) 1958 اي بعد اربعة ايام علي ثورة تموز، لا يمكن لاي عاقل او مجنون ان يصدقها وهي منسوبة الي القائم بالاعمال في سفارة الجمهورية العربية المتحدة في بغداد. وظلّ عبد الكريم قاسم يردد مع شلته من امثال المهداوي ووصفي والآخرين ان عارف بدأ بالتآمر عليه مع عبد الناصر منذ اليوم الرابع الذي اعقب ثورة تموز (يوليو). ونظراً لاهمية هذه البرقية المزورة في حرف قاسم ومسار الثورة مئة وثمانين درجة وما اعقب ذلك من انقسامات ومعارك ومذابح جرّت العراق الي دوامة العنف الي يومنا هذا فسأتطرق اليها بشيء من التفصيل ليطلع القارئ علي مدي تغلغل المخابرات الاجنبية في بلداننا واستخدامها الاساليب وادوات شيطانية لا تخطر علي بال احد.قامت الثورة كما يعلم الجميع يوم الاثنين الرابع عشر من تموز (يوليو) ولقيَ نوري السعيد حاكم العراق الفعلي حتفه في اليوم التالي وبدأت القوات البريطانية عبر اسرائيل بإنزال قواتها في عمان تمهيداً للتدخل في العراق وبدعم من قوات المارينز الامريكية التي اُنزلت في بيروت.كان الرئيس عبد الناصر في طريق العودة بعد زيارته الي تيتو عند سماعه لاخبار الثورة العراقية فقفل عائداً الي يوغسلافيا للتشاور مع صديقه وحليفه الماريشال تيتو لتجنيب العراق والمنطقة ويلات التدخل الانكلو امريكي الوشيك. ثم غادر من هناك الي موسكو للقاء الرفيق خروتشوف السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفييتي وانتزع منه عبد الناصر وعداً بتاييد الثورة العراقية ووقوف السوفييت ضد التدخلات الاجنبية وبدأ الجيش السوفييتي باجراء مناورات عسكرية في مناطقه الجنوبية علي الحدود مع ايران وعاد الرئيس ناصر مباشرة من موسكو عن طريق الجو مروراً بالاجواء الايرانية ثم العراقية في طريقه الي دمشق. كان باستطاعة الرئيس عبد الناصر الهبوط في مطار بغداد لتهنئة الشعب العراقي وقيادته بالثورة المجيدة، ولو تمّت تلك الزيارة في حينها، لزحفت الجماهير العراقية من كل صوب وحدب باتجاه بغداد لتحية زعيمها المحبوب بطل حرب السويس وقائد الوحدة. ولربما تمّ انضمام العراق للجمهورية العربية المتحدة عن طريق فرضه من قبل الجماهير الزاحفة دونما الحاجة الي شكلّيات وموافقات السلطات العراقية الجديدة التي لم تكن الجماهير علي معرفة برجالاتها ولم تكن تلك السلطات قد عقدت ولو اجتماعاً رسمياً واحداً حتي ذلك اليوم. الاّ ان حصافة وحكمة الرئيس عبد الناصر والذي وصفه الرفيق خروتشوف بعد اشهر من ذلك اللقاء التاريخي معه بانه شاب متحمس ومندفع ، اقول ان حصافة وحكمة الرئيس الشاب قيدت رغبته وشوقه للهبوط في مطار بغداد لكي لا يغطّي حضوره الطاغي علي القادة المجهولين الجدد ولكي لا تتخذ من زيارته ذريعة من قبل الاستكبار العالمي الذي اثخنته الجراح بسبب حرب السويس وقيام الجمهورية المتحدة التي اعقبها اندلاع الثورة العراقية لكي تبدأ قواته المحتشدة في عمان وبيروت ودول حلف بغداد الاخري المجاورة لغزو العراق وما يجرّه ذلك من تداعيات. استمرّت طائرة الرئيس السوفييتية طيرانها باتجاه دمشق حتي وصلت هناك عصر اليوم السابع عشر من تموز (يوليو) ليبدأ جمال عبد الناصر بالتعبئة الشعبية العامة لاسناد الجمهورية العراقية.اما في بغداد فقد بدأ الهجوم المضاد للخلايا السرية لحلف بغداد فقامت باشعال حريق واسع في خزانات النفط في كامب الكيلاني كاستهلال لاحداث اخري قادمة. عندها اوفدت الثورة نائب القائد العام ونائب رئيس الوزراء الي دمشق لمقابلة الرئيس عبد الناصر لتنسيق المواقف بين الجمهوريتين لدرء العدوان المحتمل والمتعاونين معه من الحكومات الرجعية في المنطقة ولتامين حاجات الجيش العراقي مما يحتاجه من اسلحة ومعدات واجهزة من الشقيقة الكبري. هكذا كان مسرح الاحداث منذ يوم الرابع عشر من تموز (يوليو) وحتي التاسع عشر منه عندما وصل عارف الي دمشق.اما البرقية المزعومة والتي اوصلها الشيوعيون الي قاسم ونشرتها جريدة اتحاد الشعب لسان الحزب الشيوعي في عددها المرقم 38 في 11/3/1959 بعد حركة الشواف بثلاثة ايام لتثبت ان عبد الناصر كان يتآمر من اجل الحاق العراق كما يقولون بالجمهورية العربية المتحدة منذ اليوم الرابع للثورة.واليك ايها القارئ العزيز نص البرقية المزعومة: 18/7/1958 من القائم بالاعمال في سفارة ج.ع.م. ببغداد الي وزارة الخارجية في ج.ع.م. ذكر العقيد عبد السلام بانه سيموت دفاعاً عن هدفه وهو الوحدة بالجمهورية العربية المتحدة. وانه سيذهب في الوقت المناسب لاعلان ولائه لسيادة الرئيس وتجنيد نفسه وضباطه تحت امرة سيادته. ويقول ان تكتيك الحركة حالياً ينحصر في المناداة بالعروبة والوحدة بشكل عام حتي يستتب الامر نهائياً، وان الزعيم عبد الكريم لا يستطيع الوقوف في وجه هذه الفكرة وقد يضطر (اي عبد السلام) في اي وقت الي التخلص منه (اي الزعيم) وان كان يعتقد انه سيخضع في النهاية. ويرجو العقيد عبد السلام ان تُدعم بكافة الوسائل جريدة الجمهورية التي تعبّر عن الحركة. وان يُفتح مكتب استعلامات للجمهورية العربية المتحدة في بغداد ووعد بنشر كل ما يصدر عنه. والمفهوم انه يقصد بالتدعيم مختلف الوسائل المدنية والفنية كآلات الطباعة وغيرها. كما طلب تزويد السفارة بخبراء من المقاومة الشعبية والدفاع المدني. وايضاً ابقاء سرب الطائرات في تدمر علي اتم استعداد (انتهي نصّ البرقية).//////استخدام قاسم التآمري للبرقيةظلَّ عبد الكريم طوال فترة حكمه يعرض هذه البرقية علي من هب ودب من معارفه ووزرائه دون ان يكلف نفسه عناء مناقشة شكل ومضمون هذه البرقية. فاذا كان عبد السلام سيسافر الي دمشق يوم التاسع عشر من تموز (يوليو) فما الداعي لكي يرسل مثل هذه البرقية قبل اقل من يوم واحد علي سفره وكيف علم ان هناك سرباً من الطائرات في تدمر ويطالب السلطات المتحدة بابقائه هناك ولماذا وما هي صلاحياته ونفوذه لكي يقدم هذا الطلــب ؟؟!! هذا اولاً. وثانياً لم يكن في ذهن عارف او عبد الناصر او البعث اي تصور او فكرة عن كيفية او امكانية ضمّ العراق الي الجمهورية المتحدة والنيران ما زالت مشتعلة في بغداد ونظام منع التجول ساري المفعول ليلاً ونهاراً.وثالثاً ان البرقيات بين السفارات ودولها عادة ما تكون مجفورة (مشفرة) خاصة في مثل تلك الايام الملتهبة وقوات الاستكبار وحلف بغداد تستعد للانقضاض علي الجمهورية العراقية الفتية. فمن الذي قام بفك رموز هذه البرقية المجفرة والعراق كما نعلم لا يملك مثل تلك الامكانية في تلك الظروف العصيبة واجهزة العهد الملكي الفنية اما هاربة او رهن الاعتقال؟ ولم تذكر البرقية المزيفة اسم القائم بالاعمال هذا ولا اين المكان الذي قابله فيه عبد السلام عارف في اليوم الرابع لقيام الثورة والناس جميعاً تعلم ان عارف منذ ان غادر اذاعة الصالحية بصحبة قاسم الذي وصل اليها بعد الثانية عشر ظهراً ذهبا الي وزارة الدفاع ولم يخرج عارف منها الاّ فجر اليوم التاسع عشر من تموز (يوليو) ليترأس الوفد العراقي الذاهب لمقابلة الرئيس عبد الناصر في دمشق. كما ان القيادات العليا للثورة كانت تعلم مسبقاً ان السيدين محمد كبّول اطال الله في عمره (الملحق السياسي) والمقدم المرحوم طلعت صدقي هما اللذان كانا يتصلان بقيادة الثورة خاصة عارف وقاسم قبل قيامها وبعد تفجيرها. فما الداعي ان يقابل عارف هذا القائم بالاعمال المزعوم ولديه قناة سرية وامينة اخري، علماً بأن قاسم وعارف كانا ينامان سوية داخل وزارة الدفاع ولا يفترقان ليلاً ونهاراً الاّ ما ندر؟ ويتعجب المرء سواء كان مشاركاً في احداث الثورة او كان مراقباً او مؤرخاً كيف ان رجلاً مثل عبد الكريم قاسم وهو المتآمر المحترف، والمخاتل المراوغ و الشكوكي ـ الشكّاك كما اثبتت الايام ذلك لا يكتشف سختة ـ بلهجة اهل العراق ـ سخافة وفبركة هذه البرقية التي ربما لاقت هويً في نفسه لتمرير مخططه السرّي المُستبطِن له قبل اندلاع الثورة او انه كان مشاركاً في فبركتها لكنني ارجح الاحتمال الاول. ويقدّم الضابط القومي الحر صبحي عبد الحميد في كتابه اسرار ثورة 14 تموز وصفاً حياً ومذهلاً لما كان يجري داخل المقر العام في وزارة الدفاع حيث عينّته الثورة مع رفاق آخرين له، من مؤامرات واشاعات وسباب وتشكيك بعبد السلام عارف والجمهورية المتحدة ورئيسها الذي وقف منذ الساعة الاولي بجانب الثورة الفتية، والعمل ليل نهار من قبل قاسم ومجموعته للانقضاض علي اهداف ثورة تموز القومية وقادتها. واخيراً من هي الجهة التي سلّمت هذه البرقية الي الحزب الشيوعي ليوصلها الي قاسم. قطعاً ليس الاتحاد السوفييتي او احدي الدول الاشتراكية فلا توجد اية بعثة من المعسكر الاشتراكي في دولة نوري السعيد، وعبد الناصر اساساً كان في موسكو حتي السابع عشر من تموز (يوليو). يبقي هناك احتمال واحد ان احدي الدول المتنفذة في العراق واجهزتها السرية هي التي زورت وفبركت واوصلت هذه البرقية المدسوسة الي الزعيم عبد الكريم قاسم عن طريق حزب الشيوعيين العراقيين او من احد افراد الرتل الخامس المندسين فيه لتوغر صدره ضد صاحبه والرئيس عبد الناصر ولتزرع الشكوك في نفسه منذ الايام الاولي لثورة الرابع عشر من تموز (يوليو). عبد السلام عارف والبرقية المزعومةسألت مراراً عبد السلام عارف عن تلك البرقية المزعومة فنفي وجودها علي الاطلاق واتهم الجهات البريطانية المتغلغلة في العراق بفبركتها. كذلك نفت اجهزة الجمهورية المتحدة في العراق وجود مثل هذه البرقية التي ظلَّ المهداوي يردد قصتها مراراً وتكراراً اثناء جلسات سيركه ولمّحَ لها هو وبعض شهوده في محاكمة عبد السلام السرية، لكنه لم يذكرها تفصيلاً او يُـقدمها كدليل ادانة ضد عارف الذي كان سينفي وجودها حتماً. وعسي ان يقرا الاستاذ محمد كبّول الحاضر الغائب في احداث ثورة تموز (يوليو) هذه المقالة ليدلي بما عنده حولها وحول احداث كثيرة عصفت بالعراق في تلك الايام القدريّة من تاريخه. ويوم التاسع من شباط (فبراير) 1963 طلبت من الهيئة الرسمية التي قامت بتفتيش مكتب قاسم البحث عن هذه البرقية فلم تجد لها اثراً وربما احرقها قاسم مع اوراق كثيرة اخري في الليلة السابقة لاستسلامه، فقد وجدت الهيئة آثار حريق وكومة من الاوراق المحترقة داخل جناحه الخاص في وزارة الدفاع.ويبدو ان قصة هذه البرقية المفبركة هي مثل القصة التي فُبركت بعد خمسة واربعين عاماً حول اسلحة الدمار الشامل العراقية وكان الهدف واحداً في الحالتين سلخ العراق عن محيطه العربي واجتثاث عروبته والغاء وجوده كدولة وشعب.الفصل الثاني: الحزب ولعبة السلطة في العراقهكذا استطاع الحزب ان يتجاوز الحملة الارهابية والدعائية ضده وضد الرئيس جمال عبد الناصر ودولة الوحدة التي تعرض لها منذ خريف 1958. وتعافي بصورة تكاد تكون مثالية، وانطلقت نشاطات المنظمات المهنية والنقابية والمكتب العسكري بحماس وهمة لم يشهده الحزب سابقاً، وصار جليا عند الجميع ان حزب البعث اصبح يمثل القوة الاساسية في الشارع العراقي العربي. بالمقابل كان الحزب الشيوعي العراقي، المنافس الاول لحزبنا وخصمه اللدود، يعتمد بالدرجة الاولي باللعب علي الحساسيات الاثنية والطائفية وبعض الاقليات الدينية، وكان يجمع بين صفوفه الكثير من القوي الشعوبية التي تحمل توجسا من الاتجاه العروبي في العراق، لاسباب كثيرة لا مجال للخوض بها في مثل هذه العجالة.لجا الحزب، ولمرتين في تلك السنة 1960 في العاصمة بغداد، الي عمليات استعراض القوة لاختبار قدراته علي مواجهة عمليات القمع والابادة كتلك التي تعرض لها منذ خريف 1958. الاولي: اثناء الليلة المنتظرة لتنفيذ احكام الاعدام ببعض قيادات الحزب. فامرتُ باستنفار جميع المنظمات الحزبية للخروج الي الشوارع في بغداد والتجمع في الشوارع الرئيسية والساحات، في عملية استعراض للقوة لا تخفي معانيها علي قاسم واعوانه، واطلاق حملة اشاعات موجهة ومدروسة، منها احتمال ان يقوم الحزب بنسف انابيب النفط الناقلة للنفط العراقي عبر سورية ولبنان، وامكانية احتمال ان ينفذ الحزب محاولة اغتيال جديدة بحق قاسم. واشاعة اخري ذكية، ومضادة، وهي ان قاسم ربما يعلن العفو عن المتهمين والمحكومين بالاعدام لمشاركتهم في محاولة اغتياله، لكي يُميز نفسه، ويبدو اكثر رحمة من عبد الناصر الذي اعدم ثلاثة او اربعة من اعضاء جماعة الاخوان المسلمين ممن تعرضوا له او حاولوا اغتياله في الاسكندرية عام 1954، او ما عرف بحادثة المنشية المشهورة. استمرت هذه التجمعات العلنية والصامته في نفس الوقت، وكانت تنظيماتنا النسائية تشارك فيها طيلة فترة الاستنفار، حتي ظهور قاسم المفاجئ في وقت متاخر ـ حوالي منتصف الليل ـ في واحدة من ليالي شهر نيسان (ابريل) علي شاشات التلفزيون العراقي ليعلن تاجيل تنفيذ الاحكام الي اشعار آخر لم يحدده. فاصدرت التعليمات لانهاء هذه التجمعات بعد ان ادت الغرض منها. والبدء بحملة جمع تواقيع جماهيرية في عموم القطر تطالب قاسم بالغاء الاحكام نهائيا، وتولت جريدة الحرية البغدادية الصديقة عملية نشر هذه المطالبات والنداءات التي تجاوزت التواقيع المشاركة فيها عشرات الالوف. عيد الثورة الجزائرية واستعراض الحزب قوتهكانت المناسبة الثانية لاستعراض القوة هو يوم 1 تشرين الثاني (نوفمبر)، وهو ذكري عيد الثورة الجزائرية الظافرة، ووزع الحزب بيانه الذي كتبته شخصياً، والذي تمكنا من طبعه في احد المطابع العلنية، وعن طريق صاحب المطبعة، الصديق لعضو القيادة السيد محسن الشيخ راضي. تم طبع 100,000 نسخة منه وهي كمية كبيرة جداً بمقايس تلك الايام. وزع نصفها علي الاقل في بغداد والنصف الآخر في بقية محافظات القطر الاخري في وقت واحد، في الساعات الاولي لصباح اليوم الاول من تشرين الثاني (نوفمبر). طالب البيان بمنع السفن الفرنسية من المرور بقناة السويس، وبتأميم حصة فرنسا في شركة النفط العراقية، وتخصيص نسبة من عائداتها لدعم الثورة الجزائرية. كما تم تنظيم مظاهرة كبيرة في بغداد بعشرات الالوف من المشاركين، مرت من شارع الامام الاعظم وتوجهت الي ساحة التحريرعبر شارع الرشيد مروراً بوزارة الدفاع التي حولها قاسم الي حصن عسكري، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معني منذ ان بيتَ مع نفسه النية للانفراد بالسلطة، واقامة جمهوريته الخالدة في ظل قيادة الزعيم الاوحد .تعرضت هذه التجربة الرائدة لاعادة بناء منظمات الحزب، الي كبوة، او عثرة صغيرة، كان سببها عدم احترازي، وقلة تحفظي، فتم اعتقالي لكوني لا ازال مطلوبا بسبب احداث 5 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1958، تاريخ اعتقال عبد السلام عارف، حيث تم اعتقالي في حينها، ثم هروبي من السجن الي سورية عام 1959، وورود اسمي في محكمة المهداوي من قبل احد شهود الاثبات في المحاكمات التي جرت بعد محاولة اغتيال قاسم، الذي افاد انه رآني في دمشق قبل المحاولة بفترة، اقوم بتدريب بعض البعثيين علي استعمال السلاح في احد معسكرات الجيش السوري، وتخزين الاسلحة لتهريبها الي بغداد. بقيت حوالي السنة في المعتقل، قضيت معظمها في مقر سرية الخيالة الاولي، الواقعة في مقابل البلاط الملكي القديم، الذي حوله قاسم الي معتقل جديد بعد ان امتلات السجون والمعتقلات العراقية بالبعثيين، والقوميين والاسلاميين، ثم توجه قاسم بعد ذلك لزج الشيوعيين، انصاره القدامي ممن شاركوا في المجازر الجماعية في الموصل وكركوك، في السجون، التي لم تعد تكفي، فبدأ يتوجه لتحويل بعض الثكنات العسكرية الي سجون ومعتقلات، كان مقر سرية الخيالة احدها. تلقيتُ وانا في المعتقل انباء نشوب القتال في شمال العراق، بعد الحلف القصير العمر بين قاسم والملا مصطفي البرزاني. كما سمعت باعلان قاسم عن نيته لضم الكويت والحاقها بمحافظة البصرة، لكن الخبر الكارثة، الذي نزل كالصاعقة علي رؤوس المعتقلين، هو تمكن حفنة من الضباط المأجورين والمرتشين في دمشق من احتلال مبني اذاعة دمشق، واذاعة بيانات الزمرة المتآمرة، والتي انتهت باعلان انفصال سورية عن الجمهورية العربية المتحدة. بذلك يكون الهجوم المضاد علي الحركة القومية العربية المتحررة حقق واحدا من اهم انتصاراته، التي بدأت مع انفراد قاسم بثورة 14 تموز والانحراف بها عن اهدافها القومية وانتهي بتحقيق هدفه الاعظم بفصل سورية عن مصر. تنفس عبد الكريم قاسم الصعداء بابتعاد تأثير ونفوذ عبد الناصر عن حدود العراق، وزوال خطر الوحدة الي الابد، كما تصور. تفاعل هذا العامل مع اعتقاده بأنه تمكن من القضاء كليا علي القوي القومية وخاصة حزب البعث. عزز تفاعل هذه العوامل شعوره بالامن والاطمئنان، فقام باطلاق سراح عبد السلام عارف، داعية الوحدة الاول بعد ثورة 14 تموز. ثم تبع هذه الخطوة بالافراج عن قادة الحزب الخمسة المحكومين بالاعدام. وهكذا توالي الافراج عن مئات الموقوفين والمسجونين من اعضاء الحزب، وكنت من بين الذين شملتهم اجراءات قاسم هذه فعدت الي داري، ونشاطاتي، امارس حياتي العامة ونشاطي دون تخف هذه المرة. بقدر ما ان نكسة الانفصال كانت قاسية علي مشاعر كل القوميين بمختلف توجهاتهم، الا انها دعمت وحفزت تطلعاتنا للثار من قوي الانفصال والردة في كل من العراق وسورية، وتكثيف العمل بجد ومثابرة من اجل اعادة بناء دولة الوحدة باقطارها الثلاث هذه المرة. ضمن تلك الاجواء النفسية التي تمتزج فيها مشاعر الالم والامل، تحقق اللقاء الاول مع عبد السلام عارف، بعد ايام من الافراج عنه، كما مر الحديث عن تفاصيل ذلك اللقاء عند بحث علاقة عارف بالحزب، حيث اتفقنا علي تكتيكات وتفاصيل العمل من اجل الاطاحة بالنظام الدكتاتوري في بغداد والتي تم تنفيذها بعد عام واحد. الخروج من المعتقل والعودة لقيادة الحزبحالما اطلق سراحي، بدأ اعضاء قيادة الحزب بزيارتي لينقلوا لي اخبارا غير سارة، ومفاجئة عن التصرفات غير المسؤولة والممارسات والاخطاء، من قبل قائد الحزب الذي حل مكاني، اثناء غيابي بالسجن. بتغليبه العلاقات الشخصية علي حساب الاعتبارات التنظيمية، وسيادة حالة من التفرد والتشنج الذي كثيرا ما يتصاعد الي حد الانفجار بحالات غضب انفعالية. كما قدم بعض اعضاء القيادة استقالاتهم، ووضعوها تحت تصرفي كنوع من عملية جلد الذات ونقدها لمشاركتهم الغير مباشرة في تدعيم تلك السلوكيات غير المسؤولة، وعدم اتخاذ الموقف السليم منها. كان الاول من المستقيلين الساخطين السيد محسن الشيخ راضي عضو القيادة والآخر المرحوم هاني الفكيكي الذي وصل آنذاك الي عضو قيادة بغداد. كما وصلتني معلومات عن وجود جيوب وتكتلات في بعض المنظمات الحزبية هنا وهناك داخل بغداد علي وجه الخصوص، ظهرت كنتيجة لتلك الاقاويل والممارسات الخاطئة اللامسؤولة، والتي لا تتماشي مع الالتزامات الحزبية، بل حتي مع اصول واساسيات اللياقة العامة. من امثلة هذه السلوكيات اللامنضبطة ما قامت به قيادة بغداد المكونة من عشرة اعضاء بطرد مسؤولها ومساعده، والطلب من القيادة القطرية تعيين مسؤول جديد بدلا عنه. هذه هي المرة الاولي في تاريخ الحزب، علي حد علمي، التي تقوم بها منظمة من منظمات الحزب بمثل هذا العمل الذي يتنافي مع شروط الانضباط الحزبي والتنظيمي، المخالف للنظام الداخلي، واعراف وتقاليد الحزب. وطلب اعضاء القيادة القطرية بالاجـــــماع مني، ان اتولي مسؤولية قيادة بغداد، لاعتــقادهم اني ساكون الوحيد القادر علي اصلاح ما حصل من خلل ، ومعالجته قبل ان يستفحل الامر. وهذا يعكس ما كنت اتمتع به من مكانة وثقة وتقييم عال بين رفاقي في القيادة القطرية وكذلك من قبل اعضاء الصف الثاني من القيادة. باشرت باجراء بعض الاصلاحات والتغييرات الجذرية هنا وهناك، وكلما وجدت ان العمل يتطلب ذلك، ولتحقيق افضل النتائج باقل ما يمكن من الخسائر، اعتمدت اسلوب النقاش والحوار، وتعميم حالة النقد والنقد الذاتي كي يتوصل بعض الرفاق لما اقترفوه او اقترفه البعض من رفاقه من اخطاء، لا شك انها كانت يمكن ان تعرقل عمليتنا النضالية من اجل تحقيق اهداف امتنا العربية. فحقق اسلوبي هذا افضل النتائج واعادة تماسك المنظمات الحزبية الي تماسكها السابق. 7