وما آفة الأخبار إلا رواتها من أوراق حازم جواد: حركة 8 شباط المغدورة بين الحقائق والتشويه (17)
أخبرت السعدي بوجود قائد عسكري ثوري ذي سمعة أسطورية كبيرة سيتولي القيادة اسمه عارف جواد وحردان وستار لطيف اعتذروا عن قبول مناصب قيادية في النظام الجديد وآثروا الابتعاد عن الأضواء وما آفة الأخبار إلا رواتها من أوراق حازم جواد: حركة 8 شباط المغدورة بين الحقائق والتشويه (17)بعد اكثر من اربعين سنة علي وقوع حركة شباط المعروفة في التاريخ العراقي (1963) قرر حازم جواد قائد هذه الحركة وأحد الرموز المهمة فيها العودة اليها، ووضع النقاط علي الحروف. ويقدم جواد عرضا تاريخيا للاحداث وتقييما للشخصيات التي لعبت في هذه الحركة والظروف العراقية والاقليمية. وهي شهادة مهمة لانها تصدر عن واحد من اهم صناع هذه الحركة. وفي هذه الحلقة يوضح الكاتب عددا من القضايا الجديدة حول الحركة وتوقيتها والاجتماعات الداخلية لاختيار مسؤولين في النظام الجديد. القدس العربي كان من الواجب، وحتي الافضل لاشباع الحاجات النفسية الضاغطة من اجل تضخيم دور الذات، لتحقيق رغبة ما، واقناع القارئ بأهمية السيد نعمة ودوره، ان يبدأ بالحديث عن بدايات التحرك في بغداد، وكان له دور، ان لم يكن له من ميزة، فالاسبقية والمشاركة في الصولة الاولي. وهي ميزة كافية لان تعظّم نظرة التقدير لدوره المبكر هذا في عين القارئ. فقرار القيادة كان قد استقر علي ان تكون الكتيبة الرابعة، التي ينتسب لها الملازم نعمة فارس (الفريق فيما بعد)، هي رأس النفيضة للحركة. لا احد يستطيع ان يغمط دور التنظيم الحزبي في الكتيبة من ضباط وضباط صف ومراتب، والذي كان بمسؤولية الشهيد النقيب كامل حسين النعمة. كانوا جميعا ، والملازم فارس منهم، بمستوي حسن الظن بهم ، وبشجاعتهم ، وتفانيهم في تلك الساعة العصيبة. كانت الكتيبة الرابعة مركزا لتجمع قيادة الحركة والضباط البعثيين الاخرين من منتسبي الوحدات الاخري لكي يساهموا مع ضباط ومراتب الكتيبة في المشاركة في الاندفاعة الاولي لقوات الثورة. عملية اعداد الدبابات، وتأمين العتاد اللازم وعملية الانطلاق نحو وزارة الدفاع والمعركة البطولية في باب وزارة الدفاع وما جري بها من بطولات، بل وجرائم ارتكبها الشيوعيون الذي قاموا بسحل جثث بعض من استشهد من الضباط وحرقها، كانت كلها قصصا شارك بها الملازم نعمة وهي تستحق التقدير والاعجاب. كان من بين شهداء معركة الدفاع، بل من اوائل الشهداء هو رفيقه ومسؤوله الحزبي النقيب كامل حسين نعمة، اضافة للشهداء وجدي ناجي، سعدون فليح، ومحمد علوان، طارق، وعشرات من المدنيين والعسكريين الآخرين. ما زال الكثير من المشاركين في تلك المعركة احياءً، اطال الله في اعمارهم. كان من اخطاء الفريق نعمة القفز علي كل هذه الاحداث المشرّفة له ولرفاقه وهي كافية لان تمنحه من البطولات ما لا يتكافأ مع رتبته العسكرية الصغيرة (ملازم)، ودرجته الحزبية، الا انه، محكوما بنزعات لا شعورية علي ما يبدو لتضخيم دور الذات ولو علي حساب الحقيقة، انتقل مباشرةً او بدأ بروايته، بدءا من الساعة 1800، أي بعد مرور احدي عشرة ساعة من بداية التحرك في الحبانية، وتسع ساعات علي بدئها في بغداد، وثماني ساعات ونصف علي اذاعة بياناتها في محطة ابو غريب. ان مثل هذه الاحصائيات الدقيقة قد لا تلقي قبولا لطيفا عند القارئ خاصة المثقف، وليس لها دلالة كبيرة في التأثير علي المحاججة، يمكن الاستعاضة عنها بالقول: بعد مرور اكثر من 11 ساعة علي اول خطوة اتخذت في التنفيذ، او القول: بعد ان تمّت السيطرة علي جميع المركز الحساسة في العاصمة بغداد، باستثناء معركة وزارة الدفاع التي لا زالت مستمرة حتي ذلك التوقيت، والتعبير الاخير له دلالة اكثر في هذه المحاججة حيث سيربط القارئ بما سبق ان ذكرناه عن شهادته في دبابات رمضان من انه ترك المعركة الرئيسية وواجبه الاساس. نعتقد ان اختياره لهذا التوقيت الساعة 1800 يتناسب مع ضياع الحبكة في روايته حيث اراد بذلك ان يرتقي لمستوي القيادة بتواجده جنبها في لحظات حاسمة لرسم مستقبل الحركة التي تكاد ان تنتهي من اطار الحركة الي اطار السلطة. سذاجة رواية فارس الهاوي للأحداثان غياب الحبكة في روايته، يكشف عن جهله بالكثير من الوقائع والعلاقات داخل القيادة بخطها الاول وخطوطها الثانوية. بدأ نعمة روايته بطلب البكر منه للقدوم لمبني الإذاعة في الصالحية بواسطة جهاز لاسلكي الذي لم نره ولم يكن بحوزتنا خلال يومي العمليات لا في دار الإذاعة ولا غيرها، واصفا البكر بعضو القيادة القطرية، في حين ان البكر لم يكن قد بلغ بعد مستوي عضو القيادة القطرية، بل كان عضوا في المكتب العسكري، وهو واحد من المكاتب التنظيمية التابعة للقيادة القطرية، مثله مثل غيره من المكاتب العديدة الاخري. نفس الهفوة ارتكبها الملازم فارس عند ادعائه المعرفة المسبقة بالبكر، والتي توطدت خلال عملية التخطيط للحركة. لكنني استطيع القطع بان المرة الاولي التي تعرف فيها بالبكر وجهاً لوجه، كانت في الثامن من شباط (فبراير)، عندما ادخلته غرفة القيادة والمقصود هنا القيادة الميدانية للثورة، وليست القيادة القطرية، كما يذكر في اكثر من موضع من مقالتيه. وقدمته للمتواجدين بعد ان أخذته بالاحضان، عندما صادفني في صالون محطة اذاعة الصالحية، وكانت بدلته العسكرية تؤشر الي مشاركة نشيطة وفعالة في المعركة وباحت سيماء وجهه وحركاته الي مزيج من الخوف والإحباط وسألني عمّا جري لمظاهرات حزب البعث الذي لم يصادف رتله المتقدم نحو ثكنة الدفاع أثراً لها، وعلي العكس حوصر الرتل بمظاهرة عدوانية غاضبة من الشيوعيين وأنصارهم تهتف لـ الزعيم الأوحد وبسقوط المؤامرة وسحل المتآمرين وهو ما جري فعلاً لبعض رفاقه. وقد أجبته بأنني أمرت من موقعي المتقدم في أبي غريب وقبل نزول أرتال الدبابات بحوالي الساعة والنصف بمنع وفضّ أية مظاهرة بعثية كانت أو قومية بعد أن جاءتني الأخبار أن الشيوعيين نزلوا الي الشوارع حال سماعهم بيانات الحركة عن طريق الإذاعة ووزعوا بيانا يطالبون بموجبه قاسم بتوزيع السلاح عليهم وحفر القبور للمؤامرة والمتآمرين وأدركتُ أن الحزب الشيوعي وربما قاسم قد نصبا فخاً لنا وعلينا تجنب الوقوع في هذا الفخ الخبيث الذي أراد ناصبوه أن يحولوا بغداد الي موصل ثانية وحركة الثامن من شباط (فبراير) الي حركة شوّاف أخري. لذلك أمرت بإلغاء جميع أنواع التظاهر. وتسابق السيدان أبو طالب الهاشمي مسؤول الرصافة والدكتور فائق البزاز مسؤول الكرادة بالإسراع لتنفيذ الأوامر الجديدة وبذلك فقد أخليت الشوارع للشيوعيين وحدهم بانتظار وصول قطاعات الجيش الي مركز بغداد فلاذوا بالفرار ما عدا منطقتين الأولي في باب الشيخ وهي لا تقدم ولا تؤخر بالنسبة لنا والثانية في الكاظمية حيث أعلنوا قيام الجمهورية الشعبية واستولوا علي مركز لشرطة النجدة ومستشفي.اخذت الملازم فارس لغرفة القيادة التي كان فيها كل من عبد السلام عارف، واحمد حسن البكر، وطالب شبيب، وعبد الستار عبد اللطيف، وقدمته لهم كبطل من ابطال الكتيبة الرابعة التي لم يصادف ان اتصل البكر باي منهم، وربما لايعرف الا بعضهم بحكم كونهم من الضباط من ابناء مدينته تكريت. وقف الملازم فارس بحالة الاستعداد العسكري كي يجيب عن بعض التساؤلات عن تطورات المعركة في باب الدفاع، ثم استأذن بالخروج للذهاب لمتابعة واجبه. الا أنني، وكنت لاحظت حجم التعب والاجهاد علي الملازم نعمة، والاوضاع بدأت تميل لحسم النصر النهائي، فكل القطعات والمعسكرات داخل بغداد اصبحت بايدينا، رغم استمرار معركة وزارة الدفاع، التي كانت تحت سيطرة قوات الثورة، ولم يكن أمامنا الا الانتظار لان يسلم قاسم نفسه، طلبت انا وليس البكر من الملازم نعمة ان يبقي في دار الإذاعة، التي تجمع فيها الكثير من الضباط والحزبيين من البعثيين، والقوميين، واغلبهم برتب عسكرية اعلي بكثير من رتبة الملازم نعمة. كما هو متوقع في مثل هذه الاحوال كان يدخل علينا في غرفة القيادة بعض الاخوة بين الفينة والفينة لتهنئتنا أو لايصال خبر او اقتراح ما مما كان يقطع علينا أداءنا لواجباتنا، وكان عبد السلام ممن يتضايقون من ذلك مفضلا التفرغ لاداء مهماتنا، بدلا من تبادل التهاني والتبريكات، وهو مر بنفس التجربة صباح 14 تموز (يوليو) لذلك طلبت منه ان يقف في باب غرفة القيادة وان لا يسمح بدخول احد ما لم يتأكد منه من ان هناك ما هو مهم، يستوجب مقابلتنا. إبعاد المناصرين للحركة من الإذاعة!وأوكد هنا اني طلبت منه الوقوف في باب غرفة القيادة التنفيذية للحركة، وليس في باب دار الإذاعة الرئيسي. وليس من المعقول ان اكلف ملازماً بطرد مئات الضباط والمدنيين الذين هرعوا لنجدتنا في ساعات حرجة وعصيبة او اخراجهم من دار الإذاعة، فأثير حنقهم او استياءهم وهم بلا شك كانوا جميعا من اصدقائنا ومؤيدينا، وكنا فرحين بقدومهم لدعمنا وتأييدنا، وكنا نأخذهم ويأخذوننا بالاحضان والفرحة تجمعنا. ولم يفسر لنا السيد نعمة فارس كيف انه تمكن من اخراج هذه الاعداد الكبيرة من الضباط والمدنيين من مؤيدي الثورة وكل واحد منهم يعتبر ان الثورة ثورته. هل اخرجهم بطلقة تحذيرية من بندقية الكلاشنكوف التي يدعي اني سلمته اياها (مع ان هذا النوع من البنادق لم يكن قد وضع في الخدمة في الجيش العراقي بعد)، ام بواسطة مكبر صوت .. او بوسائل اخري، مع انه لم يكن هناك من جنود بإمرته، وهو ليس الا ضابطا برتبة صغيرة في محيط من الضباط برتب مختلفة. يشتط خيال السيد نعمة فارس فلا يكتفي بالقول انه اخرج مئات الضباط لوحده من دار الإذاعة وهي بناية كبيرة، بل يقول انه ابعدهم عن المنطقة المحيطة بها، مع التأكيد انه لم يكن معه ولا حتي فصيل او مجموعة من الجنود بإمرته لمساعدته لتحقيق وانجاز مثل هذه البطولات، ثم ماذا عن العقيد ذياب العلكاوي ومعاونه البطل عبد اللطيف الحديثي الذي جرح في المعركة ثم قضي، واللذين كانا علي رأس الرتل الذي أحكم السيطرة علي دار الإذاعة في الصالحية، واستمرا بواجبهما في حماية الدار والدفاع عنها في حالة تعرضها لاي هجوم مضاد. هل استجابا وقواتهما لاوامر الملازم فارس، الاقل رتبة عسكرية ودرجة حزبية منه، وانسحب هو الاخر مجرجراً قواته من خلفه ..؟!ومن غرائب ذاكرة نعمة فارس، ما ذكره عن رؤيته للضابطين القوميين، صبحي عبد الحميد ، و عرفان وجدي ، مع انها تعجز عن تذكر الكثير من الضباط البعثيين، ومنهم عبد الستار عبد اللطيف، عبد اللطيف الحديثي، ومحمد المهداوي، جميل البياتي، والعقيد ذياب العلكاوي، مثلا. لعله اراد من خلال ايراده لاسمي هذين الضابطين ان يقول انه الضابط البعثي الوحيد، لكي تتكامل فبركة قصته أو أنه يريد أن يضفي قدراً من الموضوعية لروايته المختلقة. ولم يكلف الملازم فارس طيلة تلك الليلة، واليوم التالي، بأية مهمة اخري غير ما ذكرته في الوقوف في باب غرفة القيادة لضبط حركة الدخول والخروج اليها. رشاشة الكلاشنكوف المزعومةيورد الملازم نعمة تفاصيل كثيرة لا تغير من طبيعة الحدث او الدور الذي كلف به، الا انني اعتقد انه اراد بذكر هذه التفاصيل بعض المصداقية لشهادته، وأن يضخم من دوره، كقصة بندقية الكلاشنكوف التي ادعي اني سلمته اياها، والتي اعتقد انه يمكن ان يضمر امراً ما يريد الايحاء به للقارئ من خلال هذه الرواية بسبب هاجس يسيطر علي لاشعوره. لكن تحديد نوع السلاح بالكلاشنكوف أثار استغرابي، وهو الضابط المحترف الذي استمر في الخدمة لبلوغ رتبة الفريق، ومع ذلك لم يكن يعرف ان بنادق الكلاشنكوف دخلت في الخدمة بعد الحركة وليس قبلها. ومع ذلك اتصلت باحد اصدقائي من الضباط القدامي من المشاركين في حركة 8 شباط (فبراير)، ممن لا زالوا يعيشون في بغداد، للتأكد من الأمر فاكد لي صحة معلوماتي بأن بندقية الكلاشنكوف لم تدخل الخدمة بعد في تسليح المشاة في ذلك الوقت. وهناك دليل اخر مهم يؤكد فيه احد الضباط المشاركين في التنفيذ منذ اللحظات الاولي، وهو الملازم عدنان دحام العزاوي ، الذي يقول في متن شهادته التي قدمها للسيد علي خيون، في كتابه الثاني عن الحركة، وعنونه ، هذه المرة بعنوان ثورة 8 شباط 1963 في العراق . فكما يروي الملازم دحام ان جماعة المشاركين الاوائل في الثورة، كانت تنتظرهم في طريق ذهابهم الي ابو غريب للتجمع والانطلاق من هناك، سيارة محملة بالاسلحة يقودها السيد نجاد الصافي، مهمتها توزيع الاسلحة علي سيارات المنفذين، وهي غدارات قديمة من نوع برتا و استن ، ويفترض ان السيد نعمة فارس كان استلم سلاحه الشخصي منذ ذلك الوقت، فمن المستغرب عسكريا ان لا يحمل ضابط الدروع سلاحاً شخصيا تحسبا للطوارئ ،عندما تكون هناك حركات عسكرية فعلية في حرب شوارع، داخل المدن. هذا اضافة الي أن ادواري ومهماتي وانشغالاتي كانت اكبر من ان اهتم بتوزيع الاسلحة، وأذكر اني كنت تخليت حتي عن سلاحي الشخصي في ذلك اليوم، واعطيت مسدسي الشخصي للمرحوم الشهيد رياض قدو الذي حضر الي دارنا لمرافقتي انا وطالب شبيب الي ابي غريب، معتقداً ان المهمة هي واحدة من الممارسات الاستطلاعية المعتادة والتي نقوم بها بين الحين والآخر، ولم يكن يعلم ان هذا اليوم وهذه المرة كنا نريد التحرك للتنفيذ، فحضر ولم يكن يحمل مسدسه الشخصي لكي لا يثير الشك عند اهل داره واليوم كان يوم جمعة، اي يوم العطلة الاسبوعية، فاعطيته مسدسي، الذي اهديته له بعد ذلك. كان المقدم رياض قدو واحدا من المنفذين الاساسيين، من ابطال الحركة الذين يشهد لهم الجميع بالإيثار والاستعداد العالي للتضحية. ذهب هذا الضابط البعثي البغدادي ضحية لحالة الشك المرضي (الاوبسشن أو الاستحواذ) التي يعاني منها صدام. فكان المرحوم رياض احد ضحايا المجزرة التي افتتح صدام عهده بها، ونفذها بحق رفاقه البعثيين، وأغلبهم من ابطال حركة 8 شباط (فبراير) وكوادر الحزب، مثل وليد سيرت، حامد الدليمي، محمد صبري الحديثي، غانم عبد الجليل، محمد محجوب، خليل القصاب وعشرات الآخرين. طاقم الإذاعة الحزبياما حكاية تكليفه بنقل البلاغات المكتوبة للمذيعين فهي الاخري واضحة الاختلاق. كنا اخترنا غرفة القيادة بجنب استوديو المذيعين الذي تفصله عنا، فتحة صغيرة نمرر منها هذه البلاغات والاوامر المطلوب اذاعتها. ولو كان هناك فعلا مشكلة او حاجة للمساعدة في نقل هذه البيانات، فلم يوضح السيد فارس كيف كنا نعالجها قبل وصوله في الساعة 1800، أي بعد حوالي الاربع او خمس ساعات من انتقال القيادة من مرسلات الإذاعة في ابي غريب الي دار محطة الإذاعة في الصالحية، مع العلم بأن البيان الذي تحدث عنه، الخاص بتعيين عبد السلام عارف رئيسا هو البيان رقم 15 علي ما اتذكر، وكانت البيانات الخمسة الاولي توليت اذاعتها من مرسلات ابو غريب قبل انتقالي الي دار المحطة في الصالحية. اما البيانات الاخري فقد تولت مجموعة من الرفاق إذاعتها: وهم عبد الستار الدوري، والمرحوم هاني الفكيكي، والمرحوم شفيق الكمالي، ثم طلبت من السيدة هناء العمري الانضمام لهم بعد ان وصلت لدار الإذاعة عصراً. ولم يشارك أي من المذيعين المحترفين العاملين في الإذاعة ـ ومنهم السيد نعمان السعدي الذي ادعي نعمة أنه سلمه بيان تعيين عارف رئيساًـ في العمل الإذاعي حتي يوم 10 شباط (فبراير)، اي بعد ان استتبت الاوضاع وانتهت جميع صفحات التنفيذ وتم انتقال القيادة الي بناية البلاط الملكي أو مقر مجلس السيادة. تفكيك عناصر رواية الهاوي عند تفكيك رواية السيد نعمة، نتوصل الي ان كل المقدمات السابقة عبئت من اجل الوصول الي ما اعتبره نعمة فارس، الحقيقة التاريخية الفريدة او الاضافة الجديدة التي يريد بها تصحيح تاريخ الحركة. وهي ان حازم جواد سلمه بيانا، طلب منه ان يذهب به لغرفة المذيعيين لاذاعته فورا. وعندما قرأ البيان وجد انه قرار بتعيين عبد السلام عارف رئيسا للجمهورية. فحاول هو السيد نعمة تأخير اذاعة البيان لفترة ليست بالقصيرة ، بانتظار ان يأتي علي صالح السعدي لمعالجة الموضوع لانه ـ اي نعمة فارس ـ اكتشف في هذا التعيين خيانة للحزب من قبل حازم جواد. ورغم انني كنت قد ذكرت في بداية هذا البحث عن علاقة السيد المرحوم عبد السلام بالحزب، وهذا ما ينفي ادعاء السيد نعمة،الا انني وبصدد تحليل محتوي او منطوق مقالتيه رغم أن كل ما جاء بها كان مزوراً، كما كشف هو نفسه عن ذلك التزوير من خلال شهادته التي قدمها في كتاب دبابات رمضان المطبوع عام 1989. اود هنا ان اركز علي بعض عوامل الضعف والخطل والتشويه الوارد في منطوق او متن هذه المقالات، كأمثلة: استند علي رواية علي السعدي1: استدلّ السيد نعمة علي خيانة حازم جواد، علي اساس ما سمعه من علي صالح السعدي في رفض الحزب لتنصيب عبد السلام في اعلي مراكز السلطة ـ رئاسة الجمهورية ـ مع تركيزه علي ان السعدي كان امين سر القيادة القطرية، اي اعلي سلطة حزبية، بغض النظر عن كيفية معرفة مركز السعدي في الحزب، هناك حقيقة ثابتة كانت هي الاساس في مطاوعة اعضاء الحزب لتعليمات الحزب واوامره هي الايمان بالحزب وقيادته وشرعية اهدافه. لذلك لم تجر أية مناقشات عمن سيكون في السلطة وباي موقع، باعتبار ان القيادة هي التي ستحدد او تعيّن ما تراه مناسبا من اشخاص يفترض انهم يعبرون عن او يمثلون سلطة الحزب. ولحساسيات هذا الموضوع ومخاطر انكشافه للاجهزة الأمنية للنظام، فان هذه الخيارات بقيت محدودة التداول بمستويات محدودة، ايضا ـ من قيادات الحزب الاولية والثانوية في بعض الأحيان، ولا يمكن ان تكون موضوع نقاش عام حتي داخل الحزب بكل مستوياته. والخلية الحزبية في كتيبة الدبابات كانت صغيرة وتضم اعضاء صغار الرتب الحزبية. لذلك ليس هناك ما يمنح الحزبيين في الكتيبة، خصوصية او استثناء عن بقية المنظمات الحزبية في القاعدة، سواء اكانت عسكرية او مدنية، فهي غير مهيأة ولا معنية بمناقشة مثل هذه التفاصيل. وعندما تناقش اهداف الحركة ـ اعني حركة 8 شباط (فبراير) ـ تناقش عادة علي أساس الايمان الواعي بقيادة الحزب وقدرتها علي اختيار ممثليها في السلطة. لذلك ليس هناك ما يبرر مناقشة موقف عبد السلام من الحزب، ومدي لياقته لتمثيل الحزب في السلطة القادمة. وتقييم الاشخاص علي وزن عبد السلام عارف يترك عادة للاطر الضيقة في قيادة الحزب .اما الخلايا الصغيرة للأعضاء الصغار في الحزب فليست معنية بهذا الموضوع. ولا يجوز مناقشة من سيستلم هذا المنصب او ذاك. وورود اسم عبد السلام في احد الاجتماعات الدورية لخلية الحزب في كتيبة الدبابات، جاء بشكل استثنائي للحد من انهيار معنويات بعد تخاذل قائدهم ومسؤولهم الاول العقيد خالد مكي الهاشمي، فأخبرت السيد علي صالح السعدي الذي كلف بمهام الاشراف علي خلية الكتيبة الرابعة، علي ان يخبر اعضاء الخلية ان هناك قائدا عسكريا ثوريا، ذا سمعة أسطورية كبيرة سيتولي قيادتهم عند التنفيذ وهو عبد السلام عارف. كان هذا هو السبب بالتداول باسم عبد السلام في احد اجتماعات الخلية. وكانت ردة فعل الضباط من عناصر الخلية، وكما اخبرني المرحوم السعدي، ايجابية، أثارت حماس الجميع، وعززت ثقتهم بالحزب ايضاً وبقدراته علي كسب شخصية بمستوي عبد السلام عارف. وشحذت الهمم المهتزة.ادعاءات إحباط مؤامرة جواد ومن هو البديل لعارف؟2 ـ يروي نعمة فارس محاولاته في احباط مؤامرة حازم جواد علي الحزب بتعيينه عبد السلام عارف رئيساً للجمهورية، وكيف انه تشاغل بترتيب وتفقد القطعات المكلفة بحماية الإذاعة، لتأخير اذاعة هذا البيان، بانتظار حضور علي صالح السعدي الذي سيتولي احباط مؤامرة حازم جواد الجديدة. لكن السيد نعمة بسبب عمي بصره أو بصيرته نسي ان يذكر للقارئ من هو المرشح الاصلي الذي استبدله حازم جواد بعبد السلام، أو من هو البديل عن عبد السلام، برأيه. إن نقطة الضعف أو السخف الاخري في هذه الرواية هو أنّه نسي هنا، او تناسي ان هذه القوات التي تظاهر بترتيبها وتنظيمها و تفقّد مدي جاهزيتها كانت بإمرة العقيد العلكاوي ومعاونه الرائد عبد اللطيف الحديثي. وتضم الكثير من الضباط البعثيين والقوميين برتب أعلي منه، فكيف تحقق له السيطرة عليها وانتحال صفة القائد لهذه القوات مع وجود امرها الاصلي علاوة علي قادة الثورة أنفسهم. وبنفس روحية الاختلاق والتزييف، يناقش او يطرح، في الحلقة الثانية من مقالتيه قراراً جديداً او مؤامرة جديدة ينفذها حازم جواد ضد الحزب، وهي هنا تستند للإشاعات التي سمعها الملازم نعمة في الشارع! دون أن يذكر مصدرها وزمانها، عن ان السيد علي صالح السعدي سيكون هو رئيس وزراء الحكومة المزمع تشكيلها، الا أن اعتراض السعدي علي تعيين عبد السلام، واختلافه مع حازم جواد وطالب شبيب حول استراتيجية السلطة والحزب، كانت السبب في ابعاده عن هذا المنصب وتعيين البكر بديلاً عنه. وهذا هو الانقلاب الثاني او الثالث الذي يقوده حازم جواد في نفس تلك الليلة ولسويعات قليلة كما تصورها هذيانات السيد نعمة. ما اود تأكيده للقارئ ان لا أساس ولا صحة لمثل هذه الهذيانات. ولم يرد اي ذكر لمثل هذه الروايات لا في أي مصدر محايد او منحاز ضد او مع حازم جواد. فقائمة الوزراء وتوزيع المناصب الرئيسية الاخري، كانت موجودة ومكتوبة بخط يدي، مع البيانات الخمسة الاولي منذ المحاولة المؤجلة الاولي قبل اشهر، وأودعت هذه الاوراق أمانة عند الحاجة ام كاظم حتي وقت السحور ليلة 13/ 14 رمضان الموافق 8 شباط (فبراير) حيث قمت والاخ طالب شبيب بمراجعتها بسرعة. وغني عما هو معروف، كان هناك قرار ملزم داخل الحزب بأن لا يتولي امين السر اي منصب حكومي كي يظل متفرغا لشؤون الحزب فقط. ذكر ذلك كل من الفكيكي وطالب شبيب في مذكراته، والقرار معروف من قبل الكادر الحزبي المتقدم، وألح الجميع علي، قبل اذاعة بيان تشكيل الوزارة، علي قبول اي منصب ولو بدون واجبات، لكني كنت ارفض متحججاً بذلك القرار، ويبدو ان ذلك القرار عصي علي فهم العسكريين من اعضاء الحزب، ولم يستوعب بعضهم معناه، مثل عبد السلام عارف، احمد حسن البكر وعبد الستارعبد اللطيف واخرين، وظلوا يلحون باستلام منصب نائب رئيس الجمهورية الذي حاولوا استحداثه لذلك الغرض، وهو منصب شرفي. أمين سر ومهندس الحركة آخر اسم في قائمة الوزارةحاول البعض ان يفسّر استلامي لهذا المنصب من باب الاحتياط لمنع اثارة بعض الحساسيات التي تستثيرها الانتماءات الدينية أو المذهبية لرجال العهد الجديد. وكان ردي الواضح والقاطع: أن الحركة قومية عربية، تهدف لرد الاعتبار وتصحيح مسار ثورة 14 تموز التي انحرف بها قاسم عن مسارها الصحيح. ويجب أن يكون المعيار لتقييم أي منا علي أساس الالتزام القومي العربي بخطه الثوري التقدمي. لم يتمكن من إقناعي الا الاستاذ المرحوم طالب حسين شبيب،الذي قال بوضوح مخاطبا اياي امام قيادة الحركة: ان منصب وزير الدولة ضروري لامين السر لأنه سيخوله دونما حساسيات لحضور جلسات مجلس الوزراء المهمة علي الاقل، كما يخوله الاتصال ببقية الوزراء والمدراء العاميّن وقيادات الجيش، دونما حساسية خاصة من الوزراء القوميين والمستقلين منهم عندما يستدعي امراً ما ذلك. كان هذا هو المنطق الذي اقنعني بقبول منصب وزير الدولة، فاضفت اسمي في اخر لحظة قبل اعلان التشكيلة بدقائق معدودة، كآخر اسم بالقائمة، بعد اسم وزير الدولة الكردي السيد فؤاد عارف. تلك مفارقة او ظاهرة جديدة في تاريخ الثورات والانقلابات العربية وتلك التي حصلت في عموم دول العالم الثالث. ان يكون مهندس الثورة الاول وزير دولة ويضع اسمه بيده كآخر اسم في تشكيلة الوزارة. ثمّن الاخوة العسكريون هذا الموقف مني وازددتُ كِبراً في عيونهم وحبّاً في قلوبهم، فكرّموني بانتخابي رئيساً لمجلس قيادة الثورة، بالاجماع، لدورتين أو ثلاث وفقا لما يسمح به قانون مجلس قيادة الثورة. ولم أكن استثناء وحيداً بين قيادات الحركة في هذا الإيثار بل حصل ذلك من قبل آخرين، فقد رفض عبد الستار عبد اللطيف منصب وزير الدفاع لابتعاده عن الجيش ما يقارب الاربع سنوات، واعتذر حردان التكريتي عن تسلم منصب قيادة السلاح الجوي وتنازل عنه لصديقه عارف عبد الرزاق الذي لم يكن بعثيا ولا مشاركا في الحركة. واحتفظ العسكريون جميعهم برتبهم التي يستحقونها بحكم القدم ولم يُرقَّ اي منهم لاي رتبة اعلي، باستثناء عبد السلام وصالح مهدي عماش اللذين اتفقا لاسناد احدهما الاخر في ترفيع عبد السلام لرتبة مشير وعماش لرتبة فريق. القرار الذي اعترض عليه في حينه المرحوم عبد الستار عبد اللطيف، ولم يسانده أحد غيري. اما ما هي ردة فعل السعدي لعملية تعيين عبد السلام لرئاسة الجمهورية، فيحاول نعمة فارس هنا ان يعطي لنفسه دوراً ايضا، فيقول ان علي السعدي جاء ولاول مرة لدار الإذاعة في الصالحية الساعة العاشرة مساءً، فاستقبله الملازم فارس في الباب ليشكو او يكشف له مؤامرة حازم جواد، فاستشاط السعدي غضباً ودخل لغرفة القيادة. سمع بعدها نعمة فارس جدالا ونقاشا صاخبا بين السعدي وحازم جواد، وبمشاركة طالب الشبيب احيانا. وقد أنضمّ للأسف الشديد المرحوم علي السعدي لمثل هذه الإفتراءات والاختراعات فكما يذكر الدكتور حنا بطاطو في كتابه المشهور العراق والطبقات الأجتماعية… الجزء الثالث صفحة 332 أن السعدي قال في سورية بعد سقوط حكم البعث أن الانقسام داخل مجلس القيادة بدأ منذ يوم 11 شباط (فبراير)!! وأنه اصطدم بعارف في ذلك اليوم وأخبر حازم أن هذا الرجل عارف سيثير المتاعب ولم يلق موقفـــــه أي موافقة وعندما اجتمعت القيادة القطرية في بيــــــت حازم قال علي انه سيستقيل من الحكومة ورفض حازم ذلك. لكن حازم وطالب نقلا لعارف أن علياً يخطط لقتلك . غدا حلقة أخيرة7