هل تنتقل المعارضة العربية من النقد الي نقد النقد؟

حجم الخط
0

هل تنتقل المعارضة العربية من النقد الي نقد النقد؟

محمد شاويشهل تنتقل المعارضة العربية من النقد الي نقد النقد؟1- تمهيد: الواقع والعقل!كتب هيغل مرة في فلسفة الحق: ما هو عقلي هو واقعي وما هو واقعي هو عقلي Was wirklich ist, das ist vernuenftig; und was vernuenftig ist, das ist wirklich فأعجب المدافعون عن النظام البروسي القائم آنذاك بهذا القول وثارت ثائرة المعارضين اللبراليين الألمان عليه، اذ الطرفان عدّا قوله هذا دفاعاً فلسفياً عن الدولة البروسية آنذاك.والذي رد عليهم بعد سنين كان صحافياً ألمانياً لامعاً، وباحثاً اجتماعياً موهوباً يشغل ذلك الوضع النادر في التاريخ الذي هو وضع الصحافي المفكر (وكثيراً ما يتناقض الوصفان صحافي و مفكر ويتنافيا، فكأن الصحافي المفكر هو الثالث المرفوع عند أرسطو) واسمه فريدريش انجلز، وكان مع صديقه الصدوق كارل ماركس الوحيدين تقريباً اللذين حملا هيغل علي محمل الجد بعد أن انهارت أسهمه في الثقافة الألمانية دفعة واحدة بعد وفاته مباشرة، فصار موضة قديمة وعد كلباً ميتاً ، وفقاً لتعبير ماركس في مقدمة شهيرة للجزء الأول من رأس المال ، قال فيها انه استخدم الأسلوب الهيغلي قصداً في كتابه لازعاج من يعد هيغل كلباً ميتاً.. لكن الماركسية كانت بعيدة عن أن تملأ حقاً بمضمون مادي الشكل المثالي للجدل الهيغلي، وذلك بسبب قصورها المادي بالذات عن الاحاطة بالجوانب المعقدة للانسان، بحيث أن المثاليين يظلون حتي في تجريداتهم المحلقة فوق الواقع العياني أكثر احاطة بالوجود من النظرة الماركسية المادية التاريخية العوراء.قال انجلز في رده علي اللبراليين (في كتابه الصغير عن لودفيغ فويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية ) انهم اهتموا فقط بالجزء الثاني من الموضوعة الهيغلية، أي قوله ما هو واقعي هو عقلي ، ولم يلتفتوا بنظرهم القصير الي الجزء الأول ما هو عقلي هو واقعي ففي عام 1789 مثلاً كان الواقع الفرنسي قد أصبح مناقضاً للعقل، وكان بديله قد أصبح يفرضه العقل بحيث أن هذا الواقع كان لا بد أن ينهار وقد انهار بالفعل ليصبح ما هو عقلي واقعاً. في اعتقادي أن أيديولوجيا المعارضة العربية (وبمعني ما فان كل الأيديولوجيا العربية الثورية بما فيها تلك التي وصلت الي السلطة هي معارضة للوضع القائم ان لم تكن معارضة للنظام الحاكم محلياً فللنظام القائم عالمياً) منذ نشوئها استبطنت القناعة المتفائلة الموجودة في الجزء الثاني من موضوعة هيغل، فصادرت علي أن الواقع غير صحيح ، متناقض مع العقل، وبالتالي ففي النهاية لن يصح الا الصحيح .هدفي في هذا المقال دعوة هذه المعارضة أن تستبطن في لا شعورها المعرفي الجزء الأول من الموضوعة، والمحصلة العملية لهذا الاستبطان تعني أننا قبل التفكير في هدم البناء الواقعي القائم ووضع الخطط والمخططات الهندسية للبناء الجديد الذي يجب أن يقام علي أنقاضه يجب أن نفهم لماذا هو قائم وما تفسير وجوده، والا فلا ضمانة أن لا نكرر البناء نفسه حتي لو هدمنا البناء الحالي حجراً حجراً، أو ربما صرنا الي ما هو أسوأ من البناء القائم، فان كان السوريون مثلاً حطموا الخطة الفرنسية لتقسيم سورية الي أربع دويلات في مطلع القرن العشرين، فلعلهم الآن ما عادوا من حيث الوضع العقلي والنفسي في حال تهيئهم لاسقاط محاولة تقسيم جديدة.ويمكن لأغراض البحث هنا أن نقسم المعارضات العربية الحالية الي قسمين: قسم يدين الواقع، وبالذات واقع الأنظمة العربية، من منطلق أخلاقي أو ديني أو من منطلق أنها عميلة للمراكز الغربية الكبري، وهذا يمكن أن نسميه القسم الثوري في المعارضة ، وهو يتألف من الاسلاميين وبقية القوميين، وما تبقي من يسار لم يلتحق بعد بالمحور الأمريكي ويناصره بتعصب كما التحق يسار سابق بالمحور السوفييتي، وقسم آخر صراعاته مع الأنظمة هي صراعات ضمن البنية الواحدة، فهي معارضات تقوم شأنها شأن الأنظمة علي أرضية عشائرية ومناطقية وطائفية، ومن هذا النوع مثلاً أشكال المعارضة في لبنان، وكثير من المعارضة العراقية الحالية والسابقة، والمعارضة السودانية في قسمها الأهم.في اعتقادي أننا حين نأمل بنظرة نقدية أعمق للواقع، فاننا لا يمكن أن نتوجه بطلبنا هذا الا الي القسم الأول فقط، اذ هو وحده المعني حقاً بطرح سؤال التغيير الجذري للواقع العربي السياسي والحضاري.سؤال هذا المقال هو التالي: هل تستطيع المعارضة العربية أن تنتقل من النقد الي نقد النقد؟ .2 ـ النقد ونقده (مثال المعارضة السورية)لعل المعارضة السورية هي من أكثر الحركات السياسية العربية اهتماماً بالنظرية، فلو قارناها بالمعارضة السودانية مثلاً لرأينا الأخيرة أكثر عملية ان صح التعبير، فهي تركز في خلافاتها مع النظام السوداني علي مسائل تخص الواقع بناء علي خبرة قريبة نسبياً بممارسة السلطة (اذ هي تقاد من وزراء ورؤساء وزارة سابقين)، وليس هذا هو حال المعارضة السورية التي بعد عهدها بالسلطة بحيث لا يكاد يوجد فيها أحد كان له ذات يوم دور في ادارة جهاز الدولة.وبخلاف السودانية لا تملك المعارضة السورية قاعدة جماهيرية مضمونة أو مسجلة لحسابها شأن المعارضة السودانية التي يشغل فيها الحزبان الكبيران: حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي وضع حزبين طائفيين لهما جماهير ثابتة تتألف من طائفتي الأنصار والختمية.غير أن للتوجه النظري للمعارضة السورية سبباً آخر ألا وهو طابعها اليساري الغالب، فمن المعروف أن الماركسية أولت تاريخياً النظرية اهتماماً كبيراً (متناقضة عملياً مع ماديتها ورؤاها في الحتمية التاريخية )، وحتي التيار الاسلاماني كان مضطراً في جداله مع اليسار الي أن يشتغل بقدر المستطاع علي الجانب الفكري (وان كانت منجزات الاسلامانية السورية الفكرية والحق يقال، شأنها شأن المنجزات الفكرية (لا الأدبية) للحزب الشيوعي السوري التاريخي بخطه الموسكوفي، متواضعة جداً).عبر تجربة البعث الطويلة كان القطاع اليساري من الفاعلين الثقافيين السوريين داخل الحزب وخارجه يتفاعل مع التجربة السياسية للنظام مشكلاً ما يمكن تسميته جواً ثقافياً يوجد ضمن اتفاق غير مكتوب مع السلطة، فهذه تتيح لهؤلاء المثقفين حرية النشر علي أن ينحصر نشاطهم في الاطار النظري البحت، وعلي أن لا يأخذوا في معارضتهم شكلاً تنظيمياً، وهكذا تعايش النظام السياسي السوري مع مثقفين نقديين من نوع ياسين الحافظ والياس مرقص وممدوح عدوان وسعد الله ونوس وكثيرين غيرهم، ولم ينفرط عقد هذا التعايش الا جزئياً في مطلع الثمانينات حين دعم بعض المثقفين اليساريين شكلاً تنظيمياً معارضاً تمثل في التجمع الوطني الديمقراطي . واستمرت الغالبية في تعايشها مع السلطة السياسية حتي يومنا هذا، مع أنه مع استلام الرئيس الشاب للسلطة مال كثيرون ممن كانوا مكتفين بوضع المعارضة الفكرية المجردة الي العمل السياسي بأشكال جديدة تمثلت في منظمات المجتمع المدني ، وأحياناً في أحزاب سياسية أعيد تأسيسها بعد خروج قياداتها من السجن ولو علي أسس هشة.اذا كانت المعارضة اليسارية حتي مطلع الثمانينات تأخذ علي النظام ميوله الرأسمالية ، وقلة حزمه في مجال تحرير الأراضي المحتلة، وما الي ذلك، فقد ظهر مع تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي توجه جديد عملياً تتمحور مطالبه حول اعطاء الحريات الديمقراطية. وشأن الاشتراكية سابقاً التي كانت هي الحل ، ظهر عند المعارضة بشكلها الجديد شعار عملي وحيد يقول الديمقراطية هي الحل . والقارئ لن يفوته أن يلاحظ أن هذا النمط من التفكير الذي يحصر كل الحل في تغيير شكل السلطة موجود في تشابه مضموني غريب عند الاسلامانيين أيضاً الذين اعتادوا أن يرفعوا حيث يتاح لهم الاشتراك في الانتخابات شعار الاسلام هو الحل ، ومعني كل هذه الشعارات العملي أن التغيير يتعلق أساساً بالشكل السلطوي، ففيها العلة والدواء معاً، وان اختلف لون الدواء بين تيار وآخر.ويصح في اعتقادي علي التيار المسيطر في المعارضة السورية تقييم قديم للرائد السوري الذي افتتح عصر نقد النقد دون متابعين مهمين لأعماله ألا وهو ياسين الحافظ الذي يقول وفي كل هذه الثورة التي بها آمنّا، بقي المجتمع بمنجاة من النقد، اذ أدين السطح السياسي للمجتمع وتركت كل حيزاته الأخري، التي تصنع وتصوغ الحيز السياسي، بمنجاة من التشكيك والتساؤل (مقتطفة من تاريخ وعي أو سيرة ذاتية أيديولوجية سياسية ـ في الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة ـ دمشق ـ 1997). ما هو واقعي هو عقلي ، وهذا بعينه ما أشار اليه الأثر الاسلامي كما تكونوا يولي عليكم ، وقد آن الأوان لنفهم هذا الأثر الكاشف لحقيقة كبري من حقائق الاجتماع الانساني فهو ليس بالضرورة مجرد تذكير أخلاقي للمجتمع بأن عليه أن يكون صالحاً ان شاء أن يكون له حكام صالحون ، وليس الحكم السييء عقوبة الهية علي سوء سلوك المجتمع بدون ترابط وثيق بين الأمرين كما كانت حال عقوبات الأمم السالفة التي فجرت فأخذت بالصيحة أو الطوفان أو الريح العاتية دون علاقة سببية ملموسة بين المقدمات والنتائج، اذ لا يسبب الفجور في الأحوال العادية طوفاناً، بل الحكم السييء عقوبة ذاتية يعاقب بها المجتمع نفسه بدون شعور ولا قصد حين يقوده سلوكه الي أن ينبني علي أساسه منطقياً نمط من السلطة متناسب معه.وهنا لا يصح أن نضع كحلول للمشاكل وصفات جاهزة بلا تبصر بالنتائج الفعلية التي ستنتج عن محاولة وضع هذه الوصفات موضع التطبيق.التعامل مع النقد المألوف للسلطة بطريقة نقدية سيتيح للمجتمع الفرصة لفهم المنطق الداخلي للأحداث، وهذا يعني النظر الشامل للمشكلات في امتداداتها في الزمان والمكان، فان كان يزيد بن معاوية قد شغل مكان عمر وعلي، فان لهذا معني في التاريخ ولا يخص الأمر مجرد مصادفة من مصادفات الحظ السيئ، وان كان عمر بن عبد العزيز لم يستطع الحكم الا سنتين فلهذا أيضاً أسباب لا تتعلق بالمصادفة، ولا حتي بالنوايا التي يحملها الحاكم الذي جاء بعده، واستمرارنا في الطريقة الهجائية، التي نسمعها في الفضائيات والقصائد المنشورة في الانترنت ونركز فيها علي مثالب الحكام، وكأن مشاكلنا سببها الوحيد والحصري هم، تعني بالفعل أننا نفوت علي أنفسنا الفرصة لوضع الرجل علي الطريق الذي يكشف لنا أسباب مشاكلنا وأبعادها، والامكانيات الواقعية للتخلص منها أو التخفيف منها، أو ادارتها بشكل يخفف ما أمكن من نتائجها الكارثية.وقائع التاريخ مثل مكونات الحاضر لها معني، وقد أثبتت المعارضة أنها الي الآن لم تفهم هذا المعني، مما يؤجل البدء بحلول واقعية قد تخطئ في التفاصيل لكنها لن تكون مبنية علي رمال العواطف والأخلاق المجردة.لا شك أن هذا الجو الثقافي السوري الذي وصفناه كانت عنده خلافاً لما هو عليه الحال في أقطار عربية أخري نباهة فكرية خاصة عند بعض تياراته، وقد ظهرت فيه امكانية الانتقال من النقد الي نقد النقد ، أي امكانية تجاوز الشعارات الوثوقية الاطلاقية التي تعارض المسلمات بالمسلمات بلا تفكير نقدي، وبالذات عند بعض المفكرين في هذا الحيز الواصل بين الفكر القومي والفكر الماركسي الذي تكون منه تيار فكري وأحزاب شيوعية جديدة وناصرية جديدة. ولعل أهم هؤلاء المفكرين هما اثنان: الياس مرقص وياسين الحافظ. و مرقص هو في اعتقادي أعمق من الحافظ وأقل أدلجة، ولكن الحافظ حاول أكثر من مرقص أن يقدم تحليلاً ملموساً لنكبات العرب المعاصرة يتجاوز نظرية المؤامرة البسيطة أو وجهة النظر السياسوية التي تفسر كل شيء بقرارات الساسة وسلوكهم. وتنطلق تحليلاته من تمثل دقيق في اعتقادي لواقعة تفوق البنية المجتمعية الغربية الهائل من حيث الفاعلية علي البنية المجتمعية العربية تتجلي أعراضه في الهزائم العسكرية العربية، وقد اهتم الحافظ بتحليل أسباب هذه الهزائم متجاوزاً التحليلات العربية التبسيطية الرائجة في عصره. ولكنه ان تجاوزنا هذه الرؤية الواقعية يحول البنية المجتمعية الغربية الي أسطورة في الكمال، وأنها حتمية الزامية، وأنها كل موحد لا تختلف بين بلد غربي وآخر، ولا يخطر له علي بال أنها غير كاملة وأن الصدفة تلعب دورها فيها أيضاً، وأن فيها أيضاً ثغرات خطيرة يمكن أن تودي بها وبالانسانية معها وأنها، أخيرا، ليست البنية الوحيدة التي كانت ممكنة والتي ستكون.يري الحافظ أن حل المأزق الحضاري العربي يكون بامتلاك الشريحة الواعية الانتلجنتسيا وعيا هو الوعي المطابق وهو يعرفه بأنه الوعي المناسب لحاجات تقدم الأمة العربية وتحررها ووحدتها (التعريف موجود مثلاً في كتاب الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة)، وهذا الوعي يتصف بأنه كوني، حديث، تاريخاني. انه وعي القسم الأكثر تقدماً في العالم . ورغم أن الحافظ يبدي ميولاً براغماتية قوية غير أنه في أثناء وصفه لهذا الوعي لا يعده مجرد أداة نافعة ويعامله بنقدية، بل عبر أحكام القيمة التي تطبع كتاباته يعده عملياً الوعي الحقيقي أي الذي يحمل الحقيقة وليس فقط الوعي المفيد .3 ـ ارهاصات لوعي نقدي جديد في سورية: نقد النقد:انطلق ياسين الحافظ من أرضية قومية، وقد توصل الي آرائه اللاحقة عبر الجدل مع تجربة القوميين الذين ظل يعد نفسه واحداً منهم حتي مات. و الوعي المطابق الذي طالب به ما كان بالنسبة اليه الا الطريق لتحقيق حاجات الأمة العربية في التقدم والتحرر والوحدة ولكن خَلَفَ من بعد ياسين الحافظ خَلَفٌ أضاعوا منطلقه القومي هذا وأخذوا منه فقط هجماته المضرية علي التقاليد والتركيب الأيديولوجي للمجتمع، وهجماته علي الدكتاتورية التي لبست ثوب الاشتراكية دون المرور بمنجزات المرحلة الليبرالية. خلفاء الحافظ هؤلاء يقفون وراءه بعيداً من حيث النظر الي العرب كأمة واحدة ومن حيث عد الوحدة هدفاً مركزياً للنهضة، وأخشي أن اسمه سيجر قريباً لنصرة مشروع استتباعي شبيه بمشروع من استدعي الاحتلال في العراق، وهؤلاء الأخيرون ليسوا في الواقع قدوة حسنة لأي ديمقراطي يحترم نفسه، اذ أن سلوكهم لا يقل في النزوع الدكتاتوري الفاشي عن النظام العراقي السابق، ويدل علي أنهم لا يعرفون من الديمقراطية الا اسمها، وكأن كل خلافهم مع صدام حسين كان أن اسمه صدام ولم يكن خلافهم مع ممارساته الاستبدادية التي تحتقر الانسان كانسان، بحيث أنهم ليس عندهم مشكلة مع أي واحد لا يحمل هذا الاسم ولكنه يقوم بالأعمال الوحشية عينها (ولعل بعضهم لا مانع عنده من القيام بها).من تلاميذ الحافظ ومرقص النشيطين الكاتب السوري غزير الانتاج نسبياً ياسين الحاج صالح، وقد نشرت له مواقع انترنيتية وجرائد (منها جريدة بانياس الجولانية) مؤخراً مقالاً قصيراً اسمه أزمة الدكتاتوريات ومستقبل الديمقراطية أعتقد أنه مقال يظهر بشكل ممتاز وجود عقول في المعارضة السورية قادرة حقاً علي أن ترتقي من مرحلة النقد الي نقد النقد . ومقالات الكاتب السابقة التي اطلعت عليها لم تكن في رأيي توحي بهذا التحول، فقد كانت حتي الآن مقالات تعيد الأفكار ذاتها المعهودة في مقالات رموز المعارضة الديمقراطية و دعاة المجتمع المدني السوريين، ومن هنا كان المقال بالنسبة لي خبراً ساراً، وعددته ارهاصاً لوعي واقعي جديد يتشكل في المعارضة السورية الديمقراطية، وأعتقد أنه موجود أيضاً في بعض شرائح الشباب المتدين الذي لم تشوه ادراكه السليم للواقع بعد مسلمات الاسلامانية المعاصرة وسياسويتها المفرطة. المقال هو محاولة لرصد واقعي عياني للحال التي يجد فيها المشرق العربي نفسه، رصد بلا شعارات ولا استبدال لأفكار منفصلة عن الواقع بأخري منفصلة أيضاً عنه.ولعل المقتطفات التالية منه تعطي القارئ فكرة عن كل ما تقدم: ينتقل المشرق العربي الي ظل الهيمنة الأمريكية مشوش اللب، منحدر المعنويات، منقسما علي نفسه. ليس الانتقال هذا اقترابا من الديمقراطية أو من حكم مدني مستقر ، يبدو لنا أن أزمة الديكتاتوريات الشرق أوسطية الراهنة لا تنفتح، خلافا لديكتاتوريات أسبانيا والبرتغال واليونان قبل 30 عاما، علي الديمقراطية وحكم القانون بل علي انهيار الدولة والنزاع الأهلي. هذا لأن الدول التي تحتلها الدكتاتوريات تكاد تكون القوي المنظمة الوحيدة في المجتمعات المغلولة. هذا كلام يرضي الديكتاتوريات؟ ربما، لكن ليس لحرصنا علي عدم ارضائها أن يدفعنا الي التعامي عن احتمالات قد يجدي تبصرنا في الحد من الأسوأ فيها ، ان الفعل المتضافر لكل من القوة الأمريكية المتطرفة والأنظمة العصبوية المافيوزية المتفسخة المتطرفة بدورها والمجتمعات الأهلية غير العقلانية، قد أضعف العناصر المدنية والعقلانية في دولنا ومجتمعاتنا وثقافتنا. تركيب الديمقراطية غير ممكن علي نظام التفاعلات هذا. ومحاولات فرضها قسرا تعطي نتائج معكوسة .وبناء علي نظرة ليس فيها التفاؤل المعتاد بأن الديمقراطية هي الحل يطرح بعض المقترحات منها توسيع زاوية نظرنا الي الواقع في اتجاهات ثلاثة: تاريخي وكوني وبنيوي فالفاعل العربي يختزل التاريخ في حقبات معينة أو يلغيه كلياً سواء المحب لهذا التاريخ أم المبغض، وهو يدعو الي النظر الدقيق للتاريخ كله بما فيه التاريخ المملوكي والعثماني، والي نظرة في الواقع العالمي كله وليس في جزء منه (كالجزء الأمريكي) والنظر الي الواقع الداخلي كما هو موجود بلا نظرة جوهرانية تبحث عن خطأ أصلي. من مقترحاته مراجعة تصورنا البسيط والمبسط للديموقراطية الذي لا يتخيل أن الديمقراطية يمكن أن تكون مشكلة لأنها بكل بساطة حل أو الحل. ان العائق الأول أمام نقد الديمقراطية في البلاد العربية هو انعدامها. فنحن نحاول دعم قضيتنا ضد أنظمة قمعية برفع شعارنا المركزي الي مرتبة المطلق الذي يحرم نقده . وهذه الحقيقة البسيطة التي يمكن للمواطن العادي أن يتلمسها تبدو وكأنها محجوبة عن المعارضة الديمقراطية بحيث احتاجت لكاتب ذي حس سليم مثل أخينا ياسين الحاج صالح يذكر بها.ويري الكاتب أيضاً أنه يتعين علي الديمقراطيين العمل علي بلورة نموذج معتدل وعقلاني للعلمانية العربية، يحد من أخطار الطغيان الديني المحتمل من دون أن ينزلق الي تسويغ الاستئصالية أو التحالف معها، أو اثارة حال هستيريا ضد الخطر الأصولي المزعوم .ويدعو الكاتب الي تبديل في المنظورات العملية: هي العمل علي تنمية عناصر العقلانية والاعتدال والمدنية في الدولة والسياسة والثقافة . النجاح في نسج شبكات من التفاهم والتعرف وبث الثقة بين الناس، المختلفين دينيا ومذهبيا واثنيا بخاصة، يساعد في ابطال نهج العزل والتفريق الديكتاتوري .وسأذكر أخيراً ملاحظة هامة له عن ضرورة احترام المجتمع: احترام المجتمع والدفاع عنه، ليس سياسيا فقط، وانما أيضا اجتماعيا وثقافيا أيضا. في بلادنا حَوَلٌ فكري وسياسي شائع، يدفع بعضنا الي محاربة المجتمع بدلا من معارضة السلطات. معارضون تحت راية الليبيرالية اليوم، وأمس تحت راية الشيوعية، يجدون من واجبهم تحقير مواطنيهم وازدراء عقائدهم وتسخيف عقولهم. يمارسون نقدا بلا تضامن، يشكل الوجه الآخر لتضامن بلا نقد، من النوع الذي دانه بقسوة المرحوم ادوارد سعيد. وبينما يفضي التضامن غير النقدي الي شكل من أشكال العصبية القبلية، يقود النقد العاري من التضامن الي عنصرية حقيقية، تتبرع بالجمهور العام للاستبداد، وقد تكون أحيانا قناعا لعصبية قبلية أخري .وهذه الملاحظة الأخيرة كان كاتب هذه السطور يركز عليها منذ سنين عديدة، فالعداء بين المجتمع والفاعل السياسي والثقافي العربي كان الأمر المميز للحداثوية العربية، حتي ان المرء ليخطر علي باله حين يري أطروحات هؤلاء المحتقرة للمجتمع مفهوم فلاسفة الثورة الفرنسية (مثلاً كوندورسيه) للعمل التحضيري المتوجب علي الغرب أن يقوم به في البلدان غير الغربية، فعند كوندورسيه لا مانع من أجل نشر الحضارة أن نبيد الشعوب غير المتحضرة ونقيم الحضارة علي قبورها، فالحضارة تقصد لذاتها وليس لغيرها أي ليس الانسان مقدماً عليها وهي لأجله بل بالعكس.ولا شك أن في هذا العداء مع المجتمع نجد جذراً من جذور الظاهرة الغريبة التي هي تأييد الاحتلال الأجنبي وتمني انتصاره لا علي الأنظمة السياسية بل علي المجتمع بالذات.4 ـ خاتمة: نقد النقد من النظرية الي الواقع:أ ـ لا تكسروا علاقات الأخوّة:كان الفقير لله (ومعه كثيرون ربما من متابعي الشأن العربي العام) يضعون الرهان علي سورية أنها لن تكون تكراراً للنموذج العراقي، وأن المعارضين فيها سيحافظون علي شرف المعارض الذي هو شرف الانسان الصادق لا المنافق، الذي من صفاته وفق الحديث الشريف أنه ان خاصم فجر، والفجور تعني في سياقنا مثلاً تخوين كل مخالف في الرأي، ومن الفجور المقامرة بوجود البلد نفسه ومستقبل الأجيال القادمة في سبيل تجاوز حالة سياسية راهنة هي بطبيعتها لا يمكن الا أن تكون مؤقتة. وهذا ما يفعله بعض اللبنانيين، ولا يجهر به المعارضون السوريون الا قليلاً منهم وبلحن القول أكثر من التصريح.لكن الشرف يتطلب أيضاً عدم انكار التضامن كما يفعل مع الأسف الشديد بعض أفراد ذلك الشعب الذي أحبه الفقير لله كاتب هذه السطور دوماً حتي حفظ نشيده القومي بالكردية مع أنه لا يتكلم بها..وأعني طبعاً الشعب الكردي.من المصيبة أن أسمع النبرة الشوفينية علي لسان هؤلاء، وتهجمهم العام علي شعب شقيق، وانكارهم لكون أحد ما تضامن معهم ذات يوم، والشيء الذي يحزنني أنني لم أقرأ من أي كاتب كردي نقداً لهذا النقد المنحط، وانكار التضامن يعادل في الحياة العادية أن تستدين من شخص كان صديقاًً لك نقوداً ثم تأبي أن تعيدها له لأنك تشاجرت معه، وهذا منتهي فقدان الشرف. لا بد من أن ندعو هذا الشعب البسيط الطيب، جارنا الكردي لأن يستيقظ، وفي هذا المكان ينفع قول زياد بن أبيه لينه كل قوم سفهاءهم ، فنحن الفلسطينيين كنا نحس بأن من واجبنا أن لا نتسامح مع كل صوت شوفيني فلسطيني يعكس خلافات السياسة مع الأنظمة علي شكل تهجم علي الشعب العربي وليس علي أنظمته، وهذا ما يجب علي شرفاء الشعب الكردي فعله في وجه هذه الموجة الشوفينية الجارفة التي هي نزغ من الشيطان أصاب هؤلاء الأصدقاء الطبيعيين بتأثير من انتهازيي التنظيمات، ومن الغواية الأمريكية التي هي كسراب بقيعة اذا جاءه الظمآن لن يجده شيئاً.ب ـ نقد النقد بما هو نظرة جديدة للتغيير الحضاري ونقد للسياسوية (فرط التسيّس):بعد أن صرفت المعارضة العربية كل هذا الوقت في نقد الأنظمة وسياساتها آن لها في اعتقادي أن تنصرف لنقد منظوراتها هي للواقع وطرق تغييره. وفي اعتقادي أن توثين العمل السياسي الحزبي، والمراهنة الحصرية علي انتخابات تأتي ببرلمان وتكون الشكل الوحيد الممكن الذي يأتي بالفرج هي من الخطل في الرأي، ومن أوائل من اكتشف ذلك علي ما يبدو من النشطاء السوريين كان ياسين الحاج صالح مع أن مثل هذا التوجه يمكن أن يجد المرء له أصلاً في كل طريقة ياسين الحافظ في النظر الي الواقع، والحال أننا في العالم العربي نطابق عادة بين قولنا عمل سياسي وقولنا العمل في سبيل استلام السلطة أو العمل ضدها ، وهذه العقلية انعكست عند السلطة نفسها التي جاءت من الوسط الفكري نفسه علي شكل استرابة في كل عمل اجتماعي مستقل، بحيث صارت تستريب في كل جمعية حتي لو كانت لاعالة الأيتام وفي كل تجمع حتي لو كان رحلة الي المصايف قامت بها مجموعة من الشباب.هذه العقلية هي التي أسماها الفقير لله في مقالات أخري فرط التسيس ، وقد آن لنا، وبناء علي قناعة أن استبدال السلطة بأخري لن يجدي، اذ أننا بتركيز الجهود في هذا الاتجاه نكون ندين السطح السياسي للمجتمع ونترك كل حيزاته الأخري، التي تصنع وتصوغ الحيز السياسي، بمنجاة من التشكيك والتساؤل كما قال ياسين الحافظ، أن نركز جهودنا علي نوع آخر من العمل بين الجموع: العمل الاجتماعي النهضوي السلمي غير السياسي بالمعني الشائع لكلمة سياسي .كما رأينا يقترح ياسين الحاج صالح نسج شبكات من التفاهم والتعرف وبث الثقة بين الناس، المختلفين دينيا ومذهبيا واثنيا بخاصة ، وهذا يتضمن عملاً اجتماعياً محضاً، بمختلف الجوانب التي يتضمنها العمل الاجتماعي (ثقافية وحتي اقتصادية الي آخره..)، وهي دعوة صائبة في اعتقادي، ولكن علينا أن ندعو الي ما هو أوسع من ذلك في الوطن العربي كله: العمل اليومي في الشارع والتجمعات السكانية، عمل غير سياسي لا يستهدف السلطة ولا الترشح للانتخابات النيابية، وعلي السلطة أن تتعود (والله يعينها علي هذه المهمة العسيرة) أن تنظر بعين الثقة لا بعين التوجس الأمني لمثل هذه النشاطات التي تعيد مسألة النهوض من الانحطاط الحضاري الي موطنها الأصلي: المجتمع نفسه. وثمة مسألة تقترن بهذه منطقياً في اعتقادي: علي هذا العمل الاجتماعي النهضوي أن يحافظ بكل صرامة علي مبدأين: المبدأ الأول: العمل الاجتماعي غير المسيّس بالمعني الذي ألفناه للسياسة. والمبدأ الثاني: الالتزام المطلق بالطريقة السلمية ورفض العنف.العمل السلمي هو بالفعل الطريقة التي يمكن أن تشكل رافعة نهضوية وتحررية حتي في البلدان المحتلة احتلالاً أجنبياً، وليس في البلدان التي تعاني من مشاكل داخلية فقط.ولم يكن رفع شعار المقاومة السلمية في العراق خطأ ولكنه من جهة ووجه بتشكيك مسبق من قبل ما أدعوه ثقافة عبادة البندقية التي تستحق لوحدها فصلاً كاملاً في كتاب يدعو الي نقد النقد ، ومن جهة أخري ولعلها الأهم لم يقم من أطلق هذا الشعار بمقاومة سلمية حقاً ، بل آزر الاحتلال واستفاد منه.المقاومة السلمية يقدم أمثلة لها غاندي الهندي مثلاً الذي كان فعلاً مقاوماً لا ينثني، وفي هذه المقاومة يتصلب عود الجسد الاجتماعي، وتتفولذ ارادته، ويتحد في ذات جماعية واحدة لا يستطيع أحد أن يشقها، وعلاوة علي ذلك تظهر عبر وحدة الارادة الناشئة الشروط المفقودة للنهضة العربية: شروط الوحدة الاجتماعية علي هدف، اذ نحن الي الآن يضرب بعضنا بعضاً ويعرقل كل منا عمل الآخر و يجتهد في افشاله.وفي المجتمعات المهددة بالتقسيم يكون شعار المقاومة السلمية شعار الوحدة، علي حين تكون الشعارات الداعية للعنف (مهما يكن المظهر الذي تتمظهر به والشعارات التي ترفعها) هي الثغرة التي ينفذ منها من يريد تنفيذ مخطط التقسيم. وهي التي من شأنها أن تحقق ما خشي منه ياسين الحاج حافظ حين تساءل في مقاله: هل نحن مقبلون علي أيام يبدو السجن فيها ترفا؟ .ہ كاتب من فلسطين يقيم في برلين8

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية