هل تستطيع الجامعة العربية حل العقدة العراقية والسورية ـ اللبنانية؟
د. عبدالحسين شعبانهل تستطيع الجامعة العربية حل العقدة العراقية والسورية ـ اللبنانية؟عادت جامعة الدول العربية مجددا لمواصلة مشوارها في استكمال مؤتمر الوفاق العراقي الذي عقد جولته الاولي في القاهرة اواسط تشرين الثاني (نوفمبر) 2005، ورغم ان المؤتمر الاول الذي انعقد عشية الانتخابات لم يثمر عن اي اتفاقات تذكر، لكنه رغم ذلك ترك أثرا ايجابيا لجهة ابداء الرغبة والاستجابة لضرورات ذات ابعاد انسانية واخري تتعلق بمستقبل العراق ووحدته وسيادته وانعكاس ذلك علي دول المنطقة وهو ما لفت اليه النظر وزير خارجية المملكة العربية السعودية الأمير سعود الفيصل، خصوصاً بعد ان وصلت اوضاع العراق الي حال يُرثي لها، فلم تعد الكوابح والعقبات التي يضعها ميثاق الجامعة وتقاليد العمل فيها تحول دون ذلك.هذه الاشكالية طرحت علي بساط البحث مجدداً مستقبل النظام العربي الأقليمي في ضوء التطورات الدولية في الفقه والممارسة خصوصا والدور الذي تريد ان تلعبه الجامعة سواء في الحالة العراقية او في الازمة السورية ـ اللبنانية، الامر الذي يستوجب اجراء مراجعة لتدقيق مسار التوجه ومآل الجامعة في ضوء الحالة العراقية والسورية، وسواء فشلت الجامعة في مسعاها او نجحت او تعثرت فان مؤتمر بغداد المزمع عقده بعد تشكيل الحكومة الجديدة وتعقيدات العلاقة السورية ـ اللبنانية والتداخل الدولي المرافق للقضيتين، سيكون مناسبة مهمة لوقفة مراجعة جديدة للنظام العربي الاقليمي بعد اكثر من 60 عاما علي تأسيس الجامعة.ورغم تعرض الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسي الي هجوم وتنديد قبل وبعد القيام بمهمته التصالحية التي وان جاءت متأخرة وضمن رغبات دولية اقليمية الا انها تبقي محاولة تمس صميم العمل العربي بكل مشكلاته وعقده التاريخية وما له علاقة بابعاده المستقبلية فشلاً او تقدماً جزئياً محدوداً.تأسست جامعة الدول العربية قبل ستة عقود من الزمان كمنظمة اقليمية دولية (في 22 آذار/مارس 1945) وحدث ذلك قبل تأسسيس الأمم المتحدة ببضعة اسابيع في سان فرانسيسكو من العام نفسه. والدول العربية المؤسسة هي 7 دول (الاردن، العراق، سورية، المملكة العربية السعودية، مصر، لبنان، واليمن).جاء ميثاق الجامعة الذي يتألف من 20 مادة، بمبادئ عامة لم ترتقِ الي ما تضمنه ميثاق الأمم المتحدة من تقنين لتطور الفقه الدولي، الذي أخذ بنظر الاعتبار المتغيرات التي حدثت قبل وخلال الحرب العالمية الثانية، منذ عهد عصبة الأمم عام 1919 وحتي قيام الأمم المتحدة عام 1945. فقد حدد ميثاق الأمم المتحدة القواعد الأساسية للقانون الدولي المعاصر، التي وضعت نصب عينها حماية السلم والامن الدوليين كهدف سام وكذلك انماء علاقات التعاون الاقتصادي والاجتماعي بين الدول والشعوب.واذا كان انشاء الجامعة حدثاً بالغ الأهمية للنظام العربي الاقليمي الا أن هذه الخطوة لم تستجب الي الطموح القومي العربي الذي كان سائداً وبخاصة خلال فترة الحرب العالمية الثانية، حيث كانت التوجهات الوحدوية، هي مركز الثقل والاهتمام، في حين اعتبر تأسيس الجامعة نوعاً من الائتلاف أو التنسيق بين دول عربية مستقلة كانت مؤهلة لقيام شكل أرقي من أشكال الاتحاد والعمل المشترك.اتسم ميثاق الجامعة بالبساطة الشديدة وبصياغات عامة، لم تستطع ان تغلب ما هو قومي وعروبي، علي ما هو قطري ومحلي، فقد ظل موضوع نقاش بدا وكأنه عقيم في ظل عالم يتغير ويتجدد، والأمر مطروح الآن علي نحو شديد في العقدة العراقية والمشكلة السورية ـ اللبنانية. فقد حرص الآباء المؤسسون للجامعة علي تأكيد ما يأتي: 1. ابراز مفهوم السيادة علي حساب الفكرة الوحدوية.2. تقديم فكرة الدولة علي حساب فكرة الأمة .3. اعلاء مبدأ التنسيق بين وحدات كيانية مستقلة وليس اندماجية أو موحدة.4. رفض أية اشارة الي موضوع احتمال تدخل الجامعة بالشؤون الداخلية للدول الأعضاء. وهو الامر الذي ظل مصدر التباس واشكال وغضب احياناً من جانب الهيئات والمنظمات الشعبية والمدنية والجمهور بشكل عام ازاء موقف ودور الجامعة الرسمي بخصوص التطورات الداخلية بما فيها انتهاكات حقوق الانسان في الدول الاعضاء.وكان مجلس الجامعة يتألف من لجان فرعية لمعالجة القضايا الاقتصادية والمالية والاجتماعية وشؤون المواصلات والثقافة والجنسية وجوازات السفر والتأشيرات (الفيزا) وتسليم المجرمين والصحة وغيرها، اضافة الي جهاز الأمانة العامة. ويمكن الآن وبعد أكثر من ستة عقود من الزمان وبقراءة ارتجاعية للماضي القول: 1) ان خبرة العمل المشترك كانت معدومة تقريباً علي المستوي العربي. 2) ان الخبرة الدولية في هذا الميدان كانت ضعيفة ايضاً خصوصاً الاطارات المؤسسية، ولعل ثمة تجارب مثل عصبة الأمم وبعض المنظمات والاتحادات الدولية كانت ذات طبيعة او اختصاص محدود وليس شاملا، ولم تنعكس هذه الخبرة علي النظام الاقليمي العربي.3) كانت الدول الوطنية العربية في طور النشوء، وكان معظمها مقيداً بمعاهدات واتفاقيات تقلل من سيادتها وتحد من استقلالها.لكن الخبرة العربية بدأت تتوسع بانشاء: مجلس الوحدة الاقتصادية ومعاهدة الدفاع العربي المشترك (عام 1950) خصوصاً بعد تطور الصراع العربي ـ الاسرائيلي. ان خبرة أكثر من 60 عاماً من العمل المشترك بما له من ايجابيات غير قليلة وسلبيات كثيرة وبمراجعة انتقادية للتجربة تعكس حالياً:1) اخفاق الجامعة في حل النزاعات العربية ـ العربية، رغم الجهود الكبيرة التي بذلتها، لكنها لم تتمكن من الحيلولة دون اندلاع الحروب والغزو واستمرار النزاعات، ولعل كارثة غزو الكويت وما تبعها خير دليل علي ذلك. 2) اخفاقها في التوصل الي حل عادل ومقبول للقضية الفلسطينية سواء بتمكين الشعب العربي الفلسطيني من تقرير مصيره واقامة دولته الوطنية أو اعمال حق العودة أو استعادة الحقوق العربية في القدس أو معالجة موضوع المستوطنات أو غيرها. 3) اخفاقها في تجنيب العديد من البلدان العربية نتائج الحصارات الدولية، ناهيكم عن الانفراد من جانب السلطات بشعوبها والحاق ضرر بقضية حقوق الانسان وبالتنمية والديمقراطية..ومع ان الجامعة احرزت بعض النجاحات في ميادين متعددة اقتصادية واجتماعية وقانونية وتربوية وثقافية ورياضية وغيرها الا ان تعثرها السياسي في المجالات المشار اليها جعل صورتها تبهت امام الرأي العام الذي لم ينظر الي مبادراتها بشكل جدي احياناً واستناداً الي تلك المعطيات تكون حولها رأيان:الأول: يقول ان الجامعة شاخت وانتهي دورها ولم يعد بالامكان اصلاحها، والاجدر عدم الرهان علي كيان يتدهور باستمرار وينحدر نحو الحافة، وحتي لو َصلحُ هذا الكيان في منتصف القرن الماضي، فانه لا يصلح للقرن الحادي والعشرين.ومثل هذا الرأي سائد لدي أوساط شعبية واسعة بسبب حالة الاحباط التي أصابت الأمة العربية ونكوص القضية الفلسطينية وأخيراً احتلال العراق، وكذلك بسبب النقمة علي مواقف الجامعة العربية التي يريدها البعض أن تنتصر له وللمواطن العربي في كل مكان، حيث يتعرض للاستلاب والحرمان والاذلال، لكنها غير قادرة علي انقاذه أولاً بسبب ميثاقها وآليات عملها المتخلفة وثانياً بسبب الأزمة العامة التي تعاني منها الدول الاعضاء والنظام الاقليمي العربي واسباب اخري. وهذا الرأي وان كان له ما يبرره الا انه لا يأخذ بنظر الاعتبار، ان غياب كيان أو اطار مؤسسي عربي جامع، رغم نواقصه وعيوبه وثغراته سيؤدي الي نوع من الفراغ، ناهيكم عن عدم وجود بديل يصلح لتبادل الرأي والحوار والتعاون في بعض الأنشطة المشتركة وان كانت بحدها الأدني، ليس علي صعيد السياسة فحسب، التي قلنا: ان الجامعة فشلت فيها ولكن علي صعيد الاقتصاد والاجتماع والثقافة والعلوم والتكنولوجيا والصحة والمواصلات وغيرها، اذ ان عدم وجـود أطـر ومـؤسسات لعمـل عربي مشترك، سيشكل نقصاً كبيراً وفادحاً لا يمكن سده بالغاء كيان الجامعة.الثاني: يقول بدلاً من الغاء الجامعة او حلها وتصفية مؤسساتها، فان علي قوي المجتمع المدني العربي الموازي والقوي والاحزاب السياسية الشعبية ممارسة دورها وتحمل مسؤوليتها، من خلال ضغوطات متنوعة تمارسها علي الجامعة . ولا يكفي في هذا المجال أن تكون هذه المنظمات قوة احتجاج، بل وهذا هو المهم أن تتحول الي قوة اقتراح. لعل ذلك يجعل النظام العربي الرسمي يتحمل هو الآخر مسؤولياته، بل يعرضه بهذا المعني للمساءلة من خلال الرقابة والشفافية ومشاريع الاقتراحات.لقد علقت الكثير من البلدان العربية قضايا التنمية والديمقراطية والاصلاح واحترام حقوق الانسان علي الصراع العربي ـ الاسرائيلي، ومعها دحرجت الجماهير التي ذاقت الأمرين الي القاع. لكن الرهان علي المجتمع المدني العربي والحركة الشعبية، هو الآخر رهان غير مضمون في ظل الاوضاع السائدة، فهي تعاني بشكل أو بآخر ما تعانيه الأنظمة، سواء هشاشة الهياكل والتراكيب والبُني، ناهيكم عن ضعف الشفافية والديمقراطية داخل صفوفها وتشبث بعض قياداتها أحياناً بمواقعها لعقود من الزمان بتقديمها الخاص علي العام ويحدث أحياناً التضحية بالكيانات التي تمثلها بدلاً من التخلي عن مواقعها التاريخية المعتقة ، اضافة الي شخصنتها وتحويلها الي ممتلكات خاصة مما يجعلها غير مؤهلة لتبني مشروع قادر علي اجراء هذه المراجعة من جهة، ومن جهة أخري التقدم ببدائل ومقترحات للاصلاح علي الصعيد السياسي والقانوني والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، في ظل أوضاع تثير الكثير من التشاؤم والقنوط.قد يكون تعزيز وتطوير المجتمع المدني الموازي ومن ثم اقرار الجامعة بدوره وأهميته احد المخارج الأولية لمعالجة أزمة الجامعة الشاملة والبنيوية وبحث مستقبلها سواء ضمن استراتيجيات بعيدة المدي أو ضمن خطط قريبة للاصلاح، وبالتعاون بين الحكومات والمجتمع المدني وجامعة الدول العربية .ان حدثاً كبيراً ومفصلياً مثل 11 ايلول (سبتمبر) الاجرامي الارهابي الذي حصل في الولايات المتحدة وهز العالم جعل الجميع بلا استثناء في العالمين العربي والاسلامي في قارب واحد، حكومات ومعارضات، سلطات ومؤسسات مجتمع مدني، دولاً وأفراد.تمت خلاصات أولية لما بعد المراجعة يمكن بلورتها علي النحو الآتي: أولاً: الاقرار والاعتراف بوجود أزمة يعاني منها العمل العربي المشترك والنظام الاقليمي العربي وجامعة الدول العربية تحديداً، وهذه تتطلب معالجات وحلولاً جذرية خصوصاً وانها مستفحلة وليست صعوبات عابرة أو طارئة، لأن استمرارها سيؤدي الي ضياع جهد غير قليل وتجربة رغم الانتقادات الجدية لها حول نوعية ومستوي الاداء، الا انها تجربة لا تخلو من الغني. ثانياً: الاقرار بالأزمة يتطلب تشخيص أهم مظاهرها التي تتلخص في:1 . ميثاق الجامعة الذي يحتاج الي مراجعة جذرية، اذ أنه يُعتبر متخلفاً قياساً للتطور الدولي، وذلك لكي يتم تكييفه بحيث يصبح صالحاً للانسجام مع المتغيرات الدولية وبخاصة قواعد القانون الدولي المعاصر.2 . تكييف ميثاق الجامعة مع مبادئ حقوق الانسان. ولعل فكرة التدخل لأغراض انسانية عند وقوع انتهاكات جسيمة وخطيرة لحقوق الانسان أو تطهير عرقي أو اثني أو ديني أو مذهبي او ابادات جماعية كفيلة بتحمل المجتمع الدولي والعربي لمسؤولياته. وعلي الميثاق أن يراعي هذا التطور الفقهي بشكل حازم ومبدأي ودقيق بعيداً عن ازدواجية المعايير وانتقائيتها، فالمسألة لا تتعلق بالعنصر الخارجي حسب، بل تنشأ من خلال الاستئثار بالسلطة ومحاولات العزل السياسي ومصادرة الديمقراطية والتمييز ضد الأقليات والمرأة وقضايا التقدم الاجتماعي. وهنا لا بد من التصديق علي الميثاق العربي لحقوق الانسان الذي أقرته القمة العربية (2004) والسعي لتفعيل فكرة محكمة عدل عربية لمواكبة سير تحقيق العدالة.ثالثاً: لا بد من اصلاحات هيكلية علي المستوي الاقليمي في أجهزة الجامعة، علي الصعيد القانوني والاداري وتعديل دور الموظف العمومي الاقليمي، بحيث يكون مُمثلاً للمؤسسة (الجامعة) وليس لبلده، أي الفصل بين القرار الحكومي أو الدولي وبين القرار الجامعي والمؤسسي. والاصلاح يتطلب أيضاً البعد الداخلي في كل بلد عربي وعلي جميع المستويات، مثلما ينبغي امتداده الي مؤسسات المجتمع المدني.رابعاً: لا بد من الاهتمام بدور مؤسسات المجتمع المدني، لكي تكون عنصر رقابة ورصد ومساءلة ومساعدة الجامعة ، لانجاز مهماتها وبخاصة ما يتعلق بالحريات والمرأة واحترام حقوق الانسان والعمل والثقافة والأدب والفن والاتصالات والرياضة والصحة والتعليم والبيئة والسياحة وغير ذلك. ولعل تأسيس مفوضية للمجتمع المدني بمبادرة من الامين العام عمرو موسي، هي خطوة في الطريق الصحيح بحاجة الي مستلزمات تكميلية.خامساً: معالجة مشكلة صنع القرار وتنفيذه، وذلك لتجاوز الوضع البيروقراطي المؤسسي والعقبات التنفيذية الفعلية، فحتي القرارات الايجابية غالباً ما تنتهي الي الأرشيف لعدم القدرة علي التنفيذ، واذا كان في مجلس الأمن 5 فيتوات، ففي الجامعة 22 فيتو، أي ان القرارات تتطلب الاجماع، سواء كانت اساسية او اجرائية. سادساً: معالجة النقص الفادح في موضوع النزاعات العربية ـ العربية فلا بد من عصرنة الميثاق بما يستجيب للتطور الدولي خصوصاً للفصل في النزاعات واتخاذ الاجراءات الكفيلة بحله وبخاصة بالوسائل السلمية او من خلال تعزيز العدالة عبر قضاء عربي مشترك وله صلاحيات محددة. سابعاً: معالجة مشكلة التصويت وذلك باعتماد ثلاث درجات له، فبدلاً من الاجماع الذي يمكن حصره علي قضايا محددة كالامن العربي والتكامل وبعض القضايا الجوهرية، فهناك قضايا أقل أهمية يمكن ان تكون بـ أغلبية موصوفة (محددة) (الثلثان أو ثلاثة أرباع)، وهناك ثالثاً مسائل اجرائية يمكن التصويت عليها بالاغلبية (بنصف +1) او 51%.واذا كانت العقدة العراقية والمشكلة السورية ـ اللبنانية أحد أسباب تدهور النظام العربي الاقليمي منذ نحو ثلاثة عقود، فلعل استحقاق التغيير يبدأ من الحالة الراهنة، بالسعي لوقف التدهور والانشطار والتشظي الطائفي والاثني في العراق وتحقيق نوع من الوفاق الوطني وتحديد جدول زمني لانهاء الاحتلال والعمل علي ترميم العلاقة السورية- اللبنانية علي مستوي الشعبين والبلدين في اطارها السياسي والقانوني بما يخدم العدالة ويسهم في كشف الحقيقة، وتعزيز وتطوير خطط الاصلاح الديمقراطي علي المستوي العربي وفي اطار الجامعة ومؤسساتها. وفي ذلك اقرار بواقع أليم وان جاء متأخراً لكنه يعكس حجم التحديات والمسؤوليات الثقيلة والمزمنة التي تنوء بها الجامعة .9