هارولد بنتر: قصائد مبكرة الاصمّ وحده يسمع، والكفيف وحده يفهم!

حجم الخط
0

هارولد بنتر: قصائد مبكرة الاصمّ وحده يسمع، والكفيف وحده يفهم!

تقديم وترجمة: صبحي حديديهارولد بنتر: قصائد مبكرة الاصمّ وحده يسمع، والكفيف وحده يفهم!مَن يصدّق أن هارولد بنتر، الفائز بجائزة الادب للعام 2005، هذا الضمير اليقظ الحيّ الناشط أبداً في عشرات القضايا السياسية، تعرّض ذات يوم لتهمة الإبتعاد عن السياسة في مسرحياته وقصائده؟ العجب يزول سريعاً، ويصبح تفهم التهمة نتيجة منطقية إذا تذكر المرء مقدار الأصالة في تلك النصوص التي لم تكن تسلم قيادها لتحليل لا يلحظ السياسة علي السطح من جهة أولي، ويصاب من جهة ثانية بالكثير من الإرتباك إزاء أدب يشتغل علي الصمت، ولكنه يستنطق شعرية الصمت؛ ويكشف مفردات الذعر الإنساني البسيط من الوجود العاتي، دون أن يكون وجودي الفلسفة؛ ويلتقط دقائق الحيثيات في الموقف البشري اليومي، دون أن يكون طبيعيّ النزعة؛ كما ينحرف كثيراً، وعن سابق قصد، بعيداً عن واقعية الواقع دون أن يغرق البتة في أيّ استيهام فانتازي استعراضي أو شطحة سوريالية مجانية.وليس غريباً أن يدخل إلي الإنكليزية، وإلي قاموس أكسفورد أيضاً، إصطلاح الـ Pinteresque المنحوت من اسم بنتر، والذي يفيد ذلك المناخ الدرامي الإنساني الخاصّ، االمعقد والبسيط، المحليّ والكوني، الفردي والجمعي، الرحب العريض والضيّق حبيس الحجرة الواحدة، في آن معاً. ولم يكن بغير مغزي أن الأكاديمية السويدية توقفت عند هذا النحت مراراً وهي تطري بنتر، بل وتستزيد حين تنحت مصطلحاً ثانياً هو “الأرض البنترية” Pinterland، ذات “الطبوغرافية المميزة، حيث تتمترس الشخصيات خلف حوارات مباغتة، وبين سطور تهديدات لا حلّ لها يكون ما نسمعه علامات علي كلّ ما لا نسمعه”.والحال أنّ الأكاديمية بدت وكأنها طربت لقرارها منح بنتر جائزة الأدب، فأخذت تتغني بقرارها في غمرة إغداق المديح علي فائز كبير يستحقّ كلّ المديح في الواقع. فالرجل أحد كبار أدباء هذا العصر، وهو علي الأرجح أعظم كاتب مسرحيّ حيّ في اللغة الإنكليزية، وهو الذي ردّ المسرح إلي عناصره الأساسية، مثل الفضاء المغلق والحوار الصاعق والأنماط البشرية التي تخلق الدراما الكثيفة حين تتصارع وتتقاطع وتتلاقي وتفترق، ضمن خطوط حبكة في الحدود الدنيا، وتنويع عريض لأساليب مسرح العبث والمسرج الطبيعي والواقعي وتقاليد الفرجة. هذا فضلاً عن دوره في إغناء مدارس الإخراج المسرحي، والسيناريو السينمائي والتمثيلية الإذاعية.وقد لا يعرف الكثيرون أنّ بنتر بدأ شاعراً، بل وكانت القصيدة هي أوّل منشوراته، قبل أن ينخرط أكثر فأكثر في الكتابة المسرحية والتمثيل والإخراج. وقصيدته “السنة الجديدة في ميدلاندز”، والتي كُتبت في مطالع الصبا، تذكّر كثيراً بمشهد الحانة في قصيدة ت. س. إليوت الشهيرة “الأرض اليباب”. وأمّا قصيدته “سأمزّق قبعتي الفظيعة”، 1951، فإنها تمثّل أوضح البواكير علي موضوعة الإحتجاج العميق التي ستهيمن علي أشعاره بعدئذ:في سَكْنَة عدائية ذاتَ زمن ليس لأحد الأصمّ وحده يسمع والكفيف وحده يفهمالأميال التي أتلمّس طريقي عليهاكلّ الأرواح ستسكنني، وستشربني كلّ الشياطين.وغنيّ عن القول إنّ معظم قصائد تلك المرحلة كانت تعكس مناخاً درامياً واضحاً، وكانت بذلك تنذر بالخيار الرئيسي الذي سيقتفيه هذا الفنّان الكبير: المسرح.ولد بنتر سنة 1930 في هاكني، وهي منطقة عمالية صغيرة قرب إيست إند في لندن. وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية جري إخلاء المنطقة، وعاد ثانية إلي لندن وهو في الرابعة عشر، وسيقول إنه لن ينسي أبداً مشاهد القصف الجويّ التي عاشها، والتي ستجعله مناهضاً للحروب بصفة عامة، وتدفعه إلي رفض أداء الخدمة العسكرية (أشفق القاضي عليه فاكتفي بتغريمه 30 جنيهاً بدل السجن). في عام 1950 بدأ ينشر في مجلة Poetry التي كانت تصدر في لندن، باسم مستعار هو هارولد بنتا. ثمّ عمل ممثلاً ثانوياً في الـ BBC، وبعد أربع سنوات من التجوال في إرلندا والمسارح الريفية كتب مسرحية “الحجرة” لصالح جامعة بريستول (وأنهي النصّ في أربعة أيام!)، ثمّ كتب تمثيلية للإذاعة بعنوان “ألم طفيف”، إلي أنّ أنجز أولي مسرحياته الطويلة “حفلة عيد الميلاد”، وتوالت بعدها نصوصه المسرحية الكبيرة التي جعلت منه أحد أعظم مسرحيي هذا العصر. وهو يعيش بين لندن وباريس، ومتزوّج من المؤرخة الشهيرة ليدي أنتونيا فريزر.والناقد البريطاني مارتن إسلن (صاحب الكتاب الشهير الرائد عن مسرح العبث) ترك لنا هذا النصّ المدهش في امتداح شعرية لغة بنتر: “حوار بنتر منضبط متراصّ كالشعر الموزون، أو أكثر ربما. كلّ مقطع صوتي، وكلّ تصريف، وتعاقب طويل أو قصير للأصوات، والكلمات، والجمل، محسوب بعناية لكي يبدو بديعاً. وإنّ التكرارية علي وجه أدقّ، وانقطاع الإتصال، وحَلَقية الكلام العاديّ العامّي، تُستخدم هنا كعناصر شكلية تتيح للشاعر أن يؤلّف الباليه اللغوي الخاصّ به”.ہ ناقد من سورية يقيم في باريس قصائد لهارولد بنترالقزمرأيتُ القزم في قلب الفضاءات الرنانة،تلك الليلة أعلي الذروة المزبدة.ثمة الشجر المنحني، وثمة الوحش الصامت،أسفل الرياح.وأبصرتُ الرحّالة واقفين لابثين،تغشاهم سكنة الموت، لابثين في التوابيتذلك المقام الساكن،الأيدي متشابكة، والقبعات الطويلة شاخصة.1950مرج هامستدها أنني، المستلقي علي العشب، استلقيفي قلب البرهة الصافقة بالرعد،أقتلع الصوتفي التخم الأخضر.حجارة في رحم الثمرة،وعالم تحت العشب،وحيداً أسفل الوحيد.جسدي يستهلك الخطوطالموصي بها، في خطّ النهارالبياني.ألاحظ النملة البنيةفي أدغال شفرات النبات.أنا بياض بؤبؤ عيني، أحذفالنملة من مرتبة القدرة،أُنْقِصُ حميّة البذورهذه اللحظة القاطعة.تحت الذبابة الشفيفةتخطو معادلة الحشرة إياهافوق زجاج الكلمة المستدق،وتصدر إرشادات للفراغ.مكائد خارجية: قرقعةالغاب؛ تجارة الضجيجالمستطيلة؛ ثمّ وقفة تلكالأغصان العالية.1951الدراما في نيسانوهكذا صار آذار متحفاً،وتحرّكت ستائر نيسان،أسافر في المعرض الخاويإلي آخر المقاعد.في الديكور الربيعيينصب الممثلون الخيام،وعلي ذبالة الضوءيبدأون مسرحيتهم.صرخاتهم في الظلام المغطي بالمساحيقتتجمع في الحداد عليسفراء الأجنحة.وثمة لوازم ودعامات تحت المطرهي رماد الداروحجارة القبر التي لا تُحصيفي غمرة الخضرة.أنتقل إلي الفاصل المسرحي،وقد اكتفيت من هذه الفرقة. 1952أنتَ في الليلعليك، وأنت في الليل، أن تصغيإلي الرعد والهواء المشّاء.وأنت، علي ذلك الشاطيء، سوف تتحملما تأتي به الأجواء العاتية.كلّ ما عزّز الأملسوف يتهاوي علي لوح الإردواز،ويكسر شوكة الشتاءالذي يصخب عند قدميك.ورغم أنّ المذابح اليتيمة تحترق،والشمس المتلكئةتجعل النسر ينبح،فإنك سوف تطأ سراطاً مستقيماً.1952مسير علي وتيرة انتظارمسير علي وتيرة إصغاء.مسير علي وتيرة انتظار.إنتظرْ في غمرة الشتاءالمصغي، وسِرْ صحبة العشب.إسترح عند كأس الانتظار.سرْ صحبة فصل الأصوات.عدّدْ شتاء الزهور.سرْ صحبة فصل الأصوات.إنتظرْ قرب كأس أبكم.1953ضياء النهارألقيتُ حفنة بَتْلات علي ثدييك.وها أنت، وقد أصابك ضياء النهار بالندوب،تستلقين صريعة البتلات.وها جلدك يحاكي الغضارة، ورأسكيتلفّت في كلّ جهة،وتغمرك خرائب الزهور.الآن أجلبك من الظلمة إلي رابعة النهار،راصفاً بَتلة فوق بَتلة.1965هامش:ـ من مجموعة Collected Poems and Prose, Faber and Faber, London 1991 والقصائد، وجزء كبـير من المقدّمة، تُنشر بالإتفاق مع فصلية الكرمل الفلسطينية، العدد 86، شتاء 2006.0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية