حين يذكر الأدب تكون الرواية في هرمية العمل الإبداعي، وأتى معها غير مكره هاجس النقد، ولكن هل كانت الرواية فنا إبداعيا مفعما بخيبات السطو والهيمنة، أم أنها استطاعت أن تروي سير المهمشين؟ وعلى اختلاف تمظهراتها الثقافية والتاريخية فتحت الرواية نوافذ عديدة نحو عوالم أكثر غموضا وصلابة، لتكون تعبيرا عن الرفض/القبول لما هو سائد، وللوصول إلى تلك الحالات المتضادة للتصورات المسبقة والمنتهية صلاحيتها ضمن اللحظات التاريخية الأكثر جدلية في تاريخ الإنسانية، هل كان من الضروري الاستعانة بنظارة نقدية كي يتمايز الأدب الرسمي عن ذلك الذي غيّب، أم أنّ ذائقة القارئ بإمكانها مقارعة مركزية الرواية، وإزاحتها عن قمة الأدب؟
نظارة ناقد
انبرى الكاتب لونيس بن علي في كتابه المعنون بـ«القراءة في المناطق المحظورة» يجوب مدائن الأدب، إذ استطاع أن يكشف لنا عالما مغايرا مليئا بسردية الهامشي والتاريخ المحلي، حتى إنّه بدأ سيره في المناطق التي رآها محظورة بفعل هيمنة الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين، مرتديا نظارة ناقد أجاد فنّ الكتابة قراءة ونقدا. سنتعرف على المناطق التي حظرتها السلطة بمختلف تمركزاتها، ونقرأ بنظارة ناقد روايات كان لها الأثر البالغ في تغيير سرديات مضللة، وأخرى ترامت إلى حيث السلطة قد وضعت عرشها، وسنبدأ من حيث أراد لونيس أن يعرفنا على المناطق التي سماها بالرمال المتحركة، حيث دارت حروب صامتة استطاعت أن تبعث القلاقل في الكتابات المتعالية، فالكتابة النقدية شديدة الحساسية للتوغل في الممنوع، إذ ساهمت بشكل كبير في تحييد المناطق المحظورة. سيحتاج القارئ لكتاب لونيس إلى فهم دوافع الكتابة النقدية، ومدى أهميتها في جرد النصوص الروائية، إذ يوحي إلينا لونيس بأنّ الكتابة النقدية ليست «خلاصا إبداعيا» للنصوص التي ارتهن أصحابها معانيها، لأسطر تسرد حكايات الماضي وملاحم القائد، بل هي عملية استثارة للمتخفي والمسكوت عنهما، وبالنظر إلى ما يشتغل عليه النقاد الجزائريين، فإنّ القراءة بنظارة نقدية ليس دورها محاكمة أيّ نص، بل ستمنح القارئ وعيا نقديا نحو ثقافات متباينة.
على هامش السارترية
من تعريفه للهامشي وتجلياته، انطلق لونيس باحثا عن مركزية مضادة لتلك التي تصلبت في هرمية الرواية، معيدا للصوت الخافت والمغيب نفَسه الإبداعي والإنساني، فالهامشي لم يسعفه التاريخ كي يكتب روايته من منظوره المحلي، بل طغت عليه الخرافة، حتى جعلت منه مسخا متكررا لسلطة قاهرة، التي امتدت ظلالها كي تمحو أيّ أثر إبداعي للقوميات والعرقيات المغايرة عن الأوروبي، حتى إنّ الانصياع إلى التصور بمركزية الإنسان وتألهه، حملت تناقضات كبيرة للحضارة وقيمها. إحدى سمات الهامش، كما أشار الناقد، أنّه لا يستطيع التعبير عن ذاتيته التاريخية والثقافية، فهو مسلوب القدرة في التفكير فيما يكون حضاريا، ناهيك من عجزه عن الكتابة عن مآسيه، ووفقا للروايات الملحمية التي ساهمت بشكل مخيف في تغييب أدب المهمشين، تمايزت الثقافة الشعبية الرافضة للمكرّس سلطويا، بالتوجه نحو إعادة صياغة التاريخ الكلي المنزه عن الانتقاد، والسخرية مما هو سائد، واكتشاف الهويات المستلبة في المقاهي والسجون، فالكاتب أبان عن الحظر ليس على الأدب الهامشي المرافع عن سرديات شعرية وثقافة شعبية فحسب، بل حتى على الرغبة في التساؤل عن إمكانية البحث عن صوت المهمشين بعيدا عن ملاحم الأخ الكبير.
حين ترد كلمة الهامشي على حساسيتها لدى الكثيرين ممن يتربعون على هرمية التثاقف، فإنّها تنطوي على المعاناة والاغتراب، والبحث عن اعتراف لهويته وإنسانيته، وبدل الانتفاض ضد ما هو مطبق، تأتي السخرية كفلسفة حياتية تعبيرية لقوة الرفض ضد الإخفاقات المتكررة، وهنا تأتي السخرية كونها تجاوزا للملحمي، حيث تنبري الكتابة الساخرة ضد نخبة سارتارية جسدت في رواية «بابا سارتر» ضمن حلقية مضحكة، رافضة لتشوهات طبيعية شكلت عقدة حياتية ستكون شعارا لفلسفة الوجود، فقد سخرت الرواية من القالب السارتري، الذي سعت لاقتنائه نخب عربية عجزت عن مواكبة اللحظات التاريخية الحاسمة، مقابل سعيها بكل قوّة خلف لقب المفكر والفيلسوف، ولعل الجري خلف تلك الصور النمطية التي تشطح بما هو غربي، لم يسعف النخب على جرد تجربتها الروائية وتبييئها، حتى الحديث عن المقاهي والثورات المحلية، كانت المعاني تسرق كلماتها من صفحات المستشرقين، ومع ذلك لا يعترف السارتاريون بفشلهم الذريع في فهم الواقع، بدل البحث عن تغيير شامل لمستقبل مرهون بازدياد البطالة والهجرة غير النظامية.
أما عن التراجيديا الأكثر عنفا، فإنّ التغيير التاريخي الذي تفرضه قوى الرفض الشعبية ستكون بمثابة إعلان حرب ضد البورجوازية واختزالها المهين للهامشي، وللوصول إلى المقارعة الثورية ضد نخبة سارترية، يعاد النفخ في أعطاب الذات المستلبة، بقوة التعذيب والتهجير القسري، وهذا التمركز الخطير، ما هو إلا إقرار باستحالة التعايش، والكاتب حينما استدعى رواية «حذاء فيلليني» إنّما وجد فيها «المأزق الإنساني» الذي تواجهه «الذاكرة الجمعية» في تجاوز تراكماتها التاريخية.
تمثل الذاكرة غرفة مؤثثة بمختلف أنواع الحس الإنساني، إلا أنّ الواقعي استنفد قدرته على معالجة الأعطاب الهشة في وجدان المغيبين، والبحث عن ذاكرة جمعية تعترف بالتاريخ المحلي، لم يكن بالعمل الجيد لدى السارتريين، ممن يرفضون النزول إلى حيث المغضوب عليهم، وهنا تجلت نظرة الناقد في تحديد السرد الماكر للذاكرة من صوت متعال، خيم بانتصاراته الواهية على التاريخ الكلي، فالهولوكوست بوصفه حدثا شنيعا لليهود في أوروبا، لم يحمل وزره سوى أولئك الذين ألغتهم قوى الشر الأوروبية. أما من المنظور المحلي فقد لخصت الملاحم حكايات الثوري غير آبهة بالهوامش، وما اعتبره لونيس «الصمت التاريخي»، كان لحد ما، يصنع أسطورة حاضرة في الوجدان الشعبي مفعمة بالتناقضات، لتسرد بعض الروايات سيرة الحركي والغريب والكولونيل، ومن وجهة نظره فقد استطاع روائيون إنتاج تصور للتاريخ من منظورهم، مثلما أعاد الكثيرون إنتاج أيديولوجيات المركز، حتى لو افترضنا تورط بعضهم في نقد أطروحات الهيمنة، وليخلُص لونيس إلى أنّ ثمة استحالة مفتعلة للعودة لكتابة التاريخ ومعالجة الذاكرة، ولو بطرق إبداعية تسمح بإضاءة المناطق المعتمة.
فيلسوف الموتى
تعالج الرواية حقولا معرفية خصبة وتجارب مثقلة بهواجس ورغبات مختلفة، معبرة عن مأزق الكتابة الإبداعية تجاه ما هو إنساني، حتى الحرب على قسوتها وإلغائيتها كانت لها عناوينها بكل ما تحمله من مآسي، فحرب الطبيعة ضد الإنسان والحضارة لم تكن بتلك القسوة التي امتهنها البشر، مع أنّها ليست لوحدها كافية للتعبير عما تحدثه آلة القتل والخوف، فهي لم تحمل صورة الموت فحسب، بل قدرة الإنسان على تخطي خطيئة بشرية لا يمكن نسيان رائحتها الطازجة وهي تغمر المباني المقصوفة بأطنان الفوسفور، وذلك ما استنبطه لونيس في بعض الروايات التي سردت الحرب كحدث مأساوي تجاوزته بمحاولاتها الحثيثة في بعث الحياة في أحلامها المردومة تحت أنقاض الحرب، فالرواية مثلما منحت عالم الأشياء روحا تتكلم الكلمات عنها بدقة وجمالية شديدتين، فإنها استطاعت أن تهب للموتى والمفقودين خلاصهم الدنيوي في التكلم عن الحرب.
في هذا السياق يحاجج البعض بأنّ الرواية كفَنّ جاءت لتقارع كل أشكال التبعية والخذلان، مستعينة بالذائقة الفنية لروائيين خبروا عوالمها وشخصياتها، لكن ثمة معضلة تجعل منها خطرا على ما هو سائد، إذ يشير لونيس إلى أنّ هاجس الرقابة الذي سردته رواية «حارس سطح العالم»، جعلت من أعتى أدوات السلطة، وهو الرقيب، قارئا متميزا رفض أن يحرق الكتب، بل إنّ الفاصل بين مهنة القراءة وهوس القارئ، سرعان ما كشفت عنه التحولات المقلقة لنظام الرقابة، وهذا الخيط الفاصل بين الرغبة في اقتناء روايات وكتب تساهم في بعث تساؤلات فلسفية عن طبيعة العلاقة البشرية، وأن يكون القارئ رقيبا يصدر أحكام الإعدام على عناوين تنتقد الثورة والبورجوازية.
حين تذكر الرقابة يأتي معها الحظر، وفق ما تقتضيه مصلحة السيد، غير أنّ التصور المبدئي لحظر عمل فني ما متوقف على مدى هشاشة النظام تجاه الحرية، والكاتب أكد أنّ ثمة معضلة تواجه الكتابة والفنون برمتها، وهو «الخوف من الكتابة» باعتباره مأزقا سياسيا بالضرورة، ولننظر بعين الناقد حين رأى أنّ الكتابة عن الحراك الشعبي كان ضمن «أدب الاستعجال» الذي لم يترك للمرحلة التاريخية نفَسها في تحديد مآلاتها، إذ يمكن اعتبار رواية «الباش كاتب» ضمن عملية «السبق في الكتابة» حول الفعل التاريخي الطارئ، ما دام الروائي يمتلك الأدوات الفنية والسردية، لإنتاج نص مفعم بحكايات المشائين. لاحظ لونيس أنّ الرقابة القهرية لسلطة تعتقد أنها تقتل النصوص الإبداعية ضمن عملية تأويلية اختزالية، لكنها في الحقيقة تزيدها انتشارا، إذ لا يمكن احتجاز الفن في رفوف ولا جداريات تحتفي بالعناوين أكثر منها باللحظات الأكثر إثارة في تاريخ المهمشين، والرواية استطاعت أن تواجه التأويل الاختزالي كفن ليست وظيفته مقارعة قلاع الرجعية فحسب، بل العثور على ذواتنا وطموحاتنا، وهنا يرافع الناقد عن انتقال الحظر من الموضوعية إلى الذاتية، حيث يكون القارئ حكما انتقائيا في وقت شاعت فيه الذائقة النقدية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بعيدا عن التخصص الأكاديمي لم يهتم لونيس بجدوى استصدار حكم على تلك الإحالات النقدية للقراء خارج سرب الجماعة النخبوية، بل اعترف بأهمية القراءات النقدية للمدونين والصحافيين، كقيمة أدبية لإبراز المحظور، دون الحاجة لإعلان مراسم تأبين النقد النخبوي، الذي لا يزال يراوح رأس جبل الأدب، إلا القلة الباقية ممن أسالت حبرها على الممنوع، فإنها استطاعت بوعيها النقدي أن تمنح لأدب الهامش صوتا لاذعا، وكتاب لونيس بن علي جاء ليزيح الضبابية المفتعلة ضد الانتهاك الصارخ للرواية، عبر قولبتها وحشرها في عناوين كبرى وشخصيات ملحمية.
كاتب جزائري