قبل أيام قليلة، أشار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مجددا إلى أن بلاده ستتولى “لفترة غير محددة النهاية” مسؤوليات “الأمن الشامل” في قطاع غزة وذلك بعد أن تنتهي قوات الجيش من المهمة التي أوكلها هو وحكومته إليها، وهي القضاء الكامل على حماس عسكريا وسياسيا وإنهاء وجودها مجتمعيا. نتنياهو، المسؤول السياسي الأول عن جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل اليوم في غزة قتلا وتدميرا وعقابا جماعيا وتهجيرا داخليا، علل قراره الذي يعني توجها نحو إعادة احتلال القطاع الذي انسحبت منه إسرائيل في 2005 وتحاصره برا وبحرا وجوا منذ 2007 وتدمر بناه التحتية ومرافقه الرئيسية بصورة يومية منذ أكثر من عام.
تقدم إشارات نتنياهو دليلا كارثيا على قصور التفكير الاستراتيجي في دوائر حكومته التي حددت لحربها في غزة هدفا تغيب عنه الواقعية، القضاء على حماس. فالمرجح، مهما تواصل انفلات آلة القتل الإسرائيلية وامتد أمد انتقامها وجرائمها واستمر دعم الغرب لها بالسلاح والذخيرة والمال، هو بقاء حماس ومعها الفصائل الأخرى كالجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية. وليس معنى البقاء هنا أن تعود الحركة بعد أن تضع الحرب أوزارها إلى حكم القطاع والسيطرة على شؤونه كما مارست بين 2007 و2023، بل المقصود هو استمرار تواجدها العسكري والسياسي والمجتمعي، ربما بقدرات أقل وبأدوار تختلف عن السنوات الماضية.
تلك الأدوار التي قد ترتبها تداعيات حرب غزة على حماس والفصائل الأخرى قد تقرب، في أحسن الأحوال للشعب الفلسطيني، من قبول الانضواء في إطار توافقي تقوده السلطة الوطنية ويتجاوز الانقسام الداخلي وينهي الانفصال بين الضفة الغربية والقدس الشرقية من جهة وبين غزة من جهة أخرى ويعيد إلى الحياة أولوية “المفاوض الشرعي الواحد” القادر على المطالبة بحق تقرير المصير والدولة المستقلة ذات السيادة وحل مسألة عودة اللاجئين. وفي أسوأ الأحوال، قد تبتعد أدوار حماس ورفاقها بعد الحرب عن مهمة إنجاز التوافق الوطني بين الفلسطينيين وتتحول إلى العمل العسكري تحت الأرض ورفض مسارات التسوية السلمية للقضية الفلسطينية التي قد تتبلور في المستقبل القريب بافتراض حدوث ضغوط أمريكية شديدة على إسرائيل وبافتراض توازن مجمل سياسات الغرب، وهو ما يبدو بحسابات اليوم وفيما خص الأمرين افتراضا مثاليا.
وفي الأحوال الأسوأ تصير أدوار حماس والفصائل الأخرى، خاصة إذا ما تواكبت مع تمادي الجنون الإسرائيلي واستمرار الانحياز الغربي الأعمى، عوامل مسببة لحالة كارثية من العنف وعدم الاستقرار وغياب الأمان لشعب طال توقه إلى حقوقه الأساسية وفي صدارتها حق تقرير المصير والحق في الحياة الآمنة.
تغيب الواقعية، إذا، عن هدف القضاء على حماس. وحتما سيرتب ذلك بمرور الوقت اشتداد التناقضات الجذرية بين الحكومة التي أقرته استراتيجيا وبين المؤسسة العسكرية والأمنية المنوط بها تنفيذه عملياتيا وترجمته على أرض غزة التي كانت محتلة لعقود ولن يقبل أهلها عودة المحتلين دون مقاومة ضارية. فحكومة نتنياهو تواجه أزمة حادة بسبب غياب ثقة الإسرائيليين في رئيسها الذي يتوقع له كثيرون رحيلا فوريا ما أن تنتهي الحرب. أما المؤسسة العسكرية والأمنية، فهي لا تريد لقبولها الشعبي لدى مواطنيها ولثقتهم في قدراتها أن يهتزا بأكثر مما حدث من جراء هجمات حماس التي رتبت حرب غزة، وتدرك من ثم خطورة الحرب بدون أهداف واقعية التي يورطها بها رئيس وزراء يوشك دوره السياسي على الانتهاء.
وإذا كانت الواقعية، وبشهادة عديد الخبراء العسكريين الإسرائيليين الذين تستضيفهم القنوات التليفزيونية الغربية وتستكتبهم الصحافة الأمريكية والأوروبية لتحليل الحرب وعملياتها، غائبة عن هدف القضاء على حماس، فإن الترويج لإعادة احتلال غزة بادعاء ضرورته لتحقيق الأمن الشامل يعد عبثا استراتيجيا وسياسيا كاملا. فالاستنفار العسكري والأمني والاقتصادي والمالي وفيما خص الموارد البشرية الذي يستلزمه احتلال القطاع لن تقدر عليه الدولة العبرية طويلا، كما أن حلفاءها في الغرب ومهما تكالبوا اليوم على تأييدها وتقديم المساعدات لها لن يتحملوا إلى ما لا نهاية التكلفة المرتفعة لتمويل احتلال غزة على موازناتهم.
حكومة نتنياهو تواجه أزمة حادة بسبب غياب ثقة الإسرائيليين في رئيسها الذي يتوقع له كثيرون رحيلا فوريا ما أن تنتهي الحرب
ومهما كانت سطوة النزوع الراهن للانتقام الجماعي من الفلسطينيين عاتية، فإن مآلها التراجع التدريجي في مقابل تصاعد التململ العام بين الإسرائيليين من طول أمد الحرب ومن الاستنزاف المتوقع لاحتلال سيواجه (بقايا) مقاومة فلسطينية ليس لديها ما تخسره. وفي الغرب، ستعني إعادة احتلال القطاع عمليات عسكرية وضحايا ودماء ودمار قد تصير جرائم حرب يومية، وستعني ضغوطا من قبل الرأي العام في الولايات المتحدة وأوروبا للتدخل لإيقاف الحرب ولإقرار وقف لإطلاق النار قد لا يكون في المتناول مع انتشار خرائط الدماء والدمار، وستعني أيضا أخطار موجات جديدة من الإرهاب على وقع المشاهد المأساوية القادمة من غزة وانحياز الغرب لإسرائيل وعجزه عن حماية حق الفلسطينيين في الحياة وحقهم في تقرير المصير وتصفيته الفعلية لقضيتهم العادلة.
ليس في حديث نتنياهو عن إمكانية احتلال إسرائيل لغزة سوى سيناريو كارثة محققة، لبلاده التي لا يعنيها غيرها والتي استنزفها القطاع من قبل وأجبرها على الخروج منه بصورة أحادية وسيعود إلى استنزافها وتهديد أمنها حال عودة الاحتلال، وللغرب حليفه الذي أعطاه الضوء الأخضر لارتكاب جرائم الحرب الراهنة ولن يتمكن من تحمل الثمن الباهظ للاحتلال لا ماليا ولا سياسيا ولا أمنيا. ولذلك كرر وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، خلال الأيام الماضية تسجيل رفض بلاده لاحتلال القطاع وأكد على أن إدارته وأمنه وحكومته يتعين التوافق بشأنهما بين الفلسطينيين.
أما فلسطينيا، فلن تستدعي عودة الاحتلال، حال حدوثها، سوى مقاومة لا هوادة فيها للمحتل القديم-الجديد. ولن ترتب غير المزيد من تكريس الانفصال بين الضفة والقدس وبين غزة، والمزيد من عسكرة النضال الوطني في ظل انهيار كامل متوقع لمسارات التسوية السلمية وإعلان وفاة مستحق لحل الدولتين، والمزيد من المعاناة الإنسانية للشعب الفلسطيني الذي ستتحلل كل مقومات حياته تدريجيا.
مصريا وأردنيا وعربيا، لا تقل احتمالية عودة الاحتلال لا سوءا ولا خطرا عن سيناريوهات العبث الأخرى المتعلقة بأحاديث التهجير القسري لأهل غزة التي أطلقتها دوائر اليمين المتطرف في حكومة نتنياهو وأفرغها سريعا من المضمون الموقف الواضح لمؤسسات الدولة وللمجتمع المدني في مصر والأردن مصحوبا بتضامن عربي واسع وانزواء أصوات بعض الأصدقاء المتطرفين لإسرائيل داخل الحكومات الغربية الذين أرادوا استغلال الحرب الراهنة لاستباحة التراب الوطني المصري اليوم بتهجير أهل غزة إلى سيناء واستباحة سيادة الأردن غدا بالتهجير القسري لفلسطينيي الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية. أما عودة الاحتلال الإسرائيلي إلى غزة بما سيستتبعه من عنف متواصل وعدم استقرار دائم وعسكرة متصاعدة خطر ظهور “أفغانستان” على الحدود المصرية بكل ما تحمله الإحالة إلى أفغانستان من غياب شامل للاستقرار ومواجهات عسكرية متكررة وأخطار إرهابية وتهديدات ترد على الأمن القومي لمصر، وبكل ما تحمله الإحالة من أخطار على الضفة الغربية والقدس وعلى أوضاع الأردن وعلى مجمل الحالة الإقليمية.
٭ كاتب من مصر