ميساء.. قصة نزوح: جثث وحقائب متناثرة على الطرقات والدبابات على التلة المقابلة

حجم الخط
0

“في مفترق “نتساريم” [مستوطنة] أمرنا شخص عبر مكبر الصوت، بلغة عربية جيدة، أن نمر عبر كوخ من الصفيح، كما كان الأمر ذات يوم في مخيمات اللاجئين. كنا بضع مئات نسير نحو الجنوب. أشخاص رفعوا أيديهم، وآخرون حملوا راية بيضاء ولوحوا بها، كانوا خائفين من تحريك الرؤوس يميناً أو يساراً أو أن يتوقفوا. كانت إهانة لي وشكلت تجربة من التجارب الأصعب في هذه الحرب”، هذا ما قالته ميساء (اسم مستعار) في محادثة هاتفية من مكان آمن خارج قطاع غزة، الذي وصلت إليه في نهاية الأسبوع.
ظهر صوتها أقل تعباً بقليل مما كان في الرسالة الصوتية التي أرسلتها الثلاثاء الماضي. تحدثت بطلاقة كعادتها. وعندما تحدثت عن جثة امرأة وعن أشلاء جثث شاهدوها في الطريق وعن حقائب مرمية وبطاقات الائتمان وأشياء أخرى كانت موجودة قربهم، اختنقت وتلعثم كلامها. رفضت وعائلتها خلال شهر تقريباً مغادرة بيتهم في وسط مدينة غزة، رغم أن للبنتين جواز سفر أجنبياً، وكان باستطاعة الثلاثة الخروج من القطاع. أخافتهم التقارير والشائعات حول إطلاق النار على الهاربين من الشمال أو عمليات قصف يتعرضون لها.

وبدرجة أكبر، خافوا من عمليات القصف التي وقعت قرب بيتهم، والتي جعلت كل العائلة تهرب إلى ممر داخلي في البيت أو الدرج كي تكون أكثر أمناً. ولكن ما زاد خوفهم أكثر أنباء بأن الوالدة المسنة ستجد صعوبة في تحمل الصعوبات على الطريق- في الأصل لن يسمح لها بالانضمام إليهن في معبر رفح. يمنع انضمام الأجداد والجدات في غزة إلى الأحفاد الذين لديهم جنسيات أجنبية. لا يسمح للآباء والأمهات الذين لا يملكون نفس الجنسية أن يخرجوا من القطاع.
“هناك أمران جعلاني أقتنع بالخروج بسرعة من البيت، الإثنين الماضي”، قالت ميساء، الأول هو القذيفة التي أطلقت على بيت قريب من بيتها. “سمعنا صوت الانفجار الضخم، أطبق هدوء للحظة، قبل أن يعم صراخ أطفال، فهمنا منه بأن هناك قتلى”، قالت. الأمر الثاني هو البيانات الثلاثة باللغة الإنجليزية التي أرسلها مكتب الارتباط الإسرائيلي في غزة لمن يعملون في منظمات الإغاثة الدولية. هذه البيانات أرسلت إليها قبل القصف، في الساعة السابعة صباحاً في ذاك اليوم. “إلى سكان مدينة غزة”، كتب في البيان الأول. “الجيش الإسرائيلي يبلغكم مرة أخرى: اليوم، الإثنين، سيكون مفترق صلاح الدين مفتوحاً للحركة سيراً على الأقدام أو في السيارات، من الساعة التاسعة صباحاً وحتى الرابعة بعد الظهر، للانتقال نحو جنوب وادي غزة. لا تستجيبوا لحماس. استمرار وجودكم في المدينة خطير جداً”.
وكتب في بيان آخر أن الجيش سيوقف القصف في منطقة رفح مؤقتاً بين العاشرة صباحاً والثانية بعد الظهر في اليوم نفسه. “الجيش الإسرائيلي سيتخذ الوسائل المطلوبة للدفاع عن قواته في حالة أي نشاطات معادية موجهة ضدنا في هذه المناطق”، كتب. “هذه الهدنة تعطي فرصة للمدنيين في المنطقة من أجل استخدام شارع صلاح الدين للسفر نحو جنوب وادي غزة إلى مناطق آمنة في جنوب القطاع”. في البيان الأخير، تمت دعوة من لم يتمكنوا من إخلاء منطقة الشاطئ إلى مكان آمن: “من أجل أمنكم، عليكم المغادرة اليوم من العاشرة صباحاً وحتى السادسة مساء عبر شارع يوسف العظمة، ومن هناك إلى شارع صلاح الدين”.
لإعفاء ميساء من التردد، قررت والدتها (82 سنة) الخروج من البيت مع أحد الأحفاد، والذهاب شمالاً إلى مخيم جباليا للاجئين. “بمساعدة ابن أختي، نجحت في السير بضعة أمتار حتى زاوية الشارع”، قالت. “هناك كان بانتظارها سيارة تم ترتيبها مسبقاً. كانت والدتي هناك مع كل أبناء قرية “ضمرة” (قريتها قبل 1948، التي أقيم على أراضيها كيبوتس إيرز) وهي تشعر بالراحة معهم”. حسب قولها، الكثير من الناس بقوا في جباليا ورفضوا الامتثال لتعليمات الجيش والهرب نحو الجنوب، أو أنهم لم يستطيعوا.

سيراً على الأقدام، في السيارة وعلى عربة يجرها حصان

في الساعة التاسعة والنصف صباحاً، خرجت ميساء وبناتها من البيت، يافا (14 سنة) وبيسان (20 سنة). وقد أخذوا معهم حقائب صغيرة فيها علب مياه ووثائق شخصية، وجوازات سفر ونقود. “سرنا على الأقدام لبضعة أمتار حتى شارع عمر المختار. من هناك سافرنا في سيارة إلى ميدان الكويت. دفعنا مقابل هذا السفر 100 شيكل”، تذكرت ميساء المسار الذي مروا فيه. “هناك سرنا قليلاً، بعد ذلك صعدنا على عربة يجرها حصان. سرنا نحو كيلومتر ودفعنا للسائق 15 شيكلاً. بعد ذلك، مشينا على الأقدام ربما نحو نصف كيلومتر آخر إلى أن وصلنا إلى مفترق طرق نتساريم”. قالت “نتساريم”، رغم مرور 18 سنة على إخلاء هذه المستوطنة الإسرائيلية. واسمه الرسمي اليوم هو مفترق الشهداء.
ميساء وبناتها اختلطن في قافلة تشمل نحو 700 – 800 شخص. تتذكر ميساء أنها شاهدت سيارات محترقة، لكنها لم تشاهد أي مبان مهدمة وتم قصفها. بعد مسافة قصيرة، وجدت نفسها أمام بناتها اللواتي بانتظارها. “أشخاص قالوا لي لماذا توقفت، يجب أن تواصلي السير”، قالت. “الشائعات تقول بأن الجنود يطلقون النار على كل من يحرك رأسه أو كل من يتوقف فجأة. لم أكن أستطيع معرفة إذا كانت هذه شائعة أم أنه أمر حدث حقاً والناس شهود عليه”.
لكنها توقفت وانتظرت إلى أن لحقت بناتها بها. بطرف عينها شاهدت تلة رمال في المفترق، وعليها دبابات. بعد ذلك رأت كوخ الصفيح، حسب تعريفها، الذي طلب من الجميع المرور عبره. في التقرير اليومي الذي نشرته وكالة الأمم المتحدة للمساعدات الإنسانية “أوتشا” بعد يومين من ذلك، في 15 تشرين الثاني، كتب أنه تم وضع حاويات على المفترق كحاجز، وأن الجنود نادوا على الناس النازحين من بعيد للمرور عبر الحاويات.
“الجندي الذي كان يحمل مكبر الصوت، سأل يافا باللغة الإنجليزية: هل تنوين الانضمام إلينا أم المواصلة؟ لم تفهم البنات ما قصد. أشرت له بيدي بأننا نريد الذهاب نحو الجنوب. وقالت يافا: نريد المواصلة. لا أعرف إذا كان سمعنا. ولكنه قال استمروا. الأشخاص الذين سمعوه لم يعرفوا ماذا قصد بقوله واصلوا، أو ماذا قصد بالانضمام إليهم. أفترض بأنه لكوننا النساء الوحيدات في الطابور اللواتي لم نكن محجبات، فقد توجه لنا باللغة الإنجليزية. لم أعرف إذا كان الجندي يمزح أم أنه رغب حقاً في أن ننضم إليهم. أوصلتنا عربة إلى دير البلح. أرادت يافا الاتصال بصديقة لها وجدت ملجأ في النصيرات، التي قتل الكثير من أبناء عائلتها جراء القصف. ولكن شبكة الاتصالات انهارت ولم تنجح في التحدث معها. كان على مدخل النصيرات عدد من الشباب الذين يوزعون المياه والبسكويت والتمر”، قالت ميساء. هناك وجدوا سيارة نقلتهم إلى بيت أصدقاء في خانيونس. “في الساعة الواحدة والنصف وصلنا، وجميعهم قالوا إن الحظ كان حليفنا”، قالت. “لقد توقعوا وصولنا في المساء. هؤلاء الأصدقاء يستضيفون نحو 70 شخصاً آخرين، الذين هدمت بيوتهم في عمليات القصف”.
عميره هاس
هآرتس 20/11/2023

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية