من يسرق الثقافة؟
الياس خوريمن يسرق الثقافة؟يحق لكمال بلاطة ان يصاب بالخيبة والغضب. ففي حوار نشرته جريدة الأيام التي تصدر في رام الله، كشف الفنان والكاتب الفلسطيني، عن فضيحة انتحال تعرضت لها دراساته عن الفن الفلسطيني المعاصر قامت بها باحثة اسرائيلية تدعي غانيت انكوري تعد كتابا عن الفن التشكيلي الفلسطيني.وحكاية الفلسطينيين مع الانتحال لا نهاية لها. التبولة صارت سلطة اسرائيلية، والفولكلور الفلسطيني صار تراثا اسرائيليا، والأرض الفلسطينية تغيرت معالمها، القري محيت والمدن نهبت، وكل شيء معرض للتحول الي ملكية خالصة للاسياد الجدد الذين يريدون ان يفرضوا وجودهم بشتي الطرق والوسائل.لكن حكاية بلاطة مع الانتحال مختلفة.كتاباته عن تاريخ الفن الفلسطيني، التي دحضت الاطروحة الساذجة التي تقول بأن الفن التشكيلي الفلسطيني ولد بعد النكبة، تتعرض للانتحال علي يد باحثة اسرائيلية شابة استخدمت اطروحات بلاطة من اجل انجاز كتاب اكاديمي.الفكر الصهيوني التقليدي كان يسعي الي ازالة معالم الحقيقة. الارض كانت بلا شعب، اذا لا وجود للفلسطيننين كي نتكلم عنهم، بحسب غولدا مائير، ولكن بعد انهيار هذه الاطروحة وثبات بطلانها اتحفنا الصهاينة بأطروحة جديدة مفادها ان الفلسطينيين لم يطردوا من بلادهم بل غادروها بأنفسهم وبناء علي نداءات من قياداتهم. وعبثا كتب المؤرخون والكتاب الفلسطينيون من اجل البرهنة علي بطلان هذه الاطروحة، فالعالم لم يكن مستعدا لسماع الضحية، والغرب كان لا يريد سوي الحكاية الاسرائيلية كي يغطي بها ذاكرته الدموية التي صنعتها النازية.وكان علي العالم ان ينتظر حتي بداية ثمانينيات القرن المنصرم، عندما قامت كتابات المؤرخين الاسرائيليين الجدد وعلي رأسهم بني موريس بدحض هذه الاطروحة مثبتة ان الفلسطينيين طردوا من ارضهم. وعلي الرغم من تحفظات المؤرخين الجدد، وادعاء بعضهم ان الطرد لم يكن بناء علي خطة منظمة، فان الغطاء كان قد ازيح عن الحقيقة، وبدأت تتكشف ابعاد نكبة عام 1948 باعتبارها تطهيرا عرقيا وحشيا مارسته اسرائيل ضد سكان البلاد الأصليين.مع المؤرخين الجدد بدأ ما يمكن تسميته بالفكر ما بعد الصهيوني في اسرائيل. لكن هذا التأريخ، الذي لا يمكن الشك بأهميته وجذريته، بدأ يتعرض منذ الانتفاضة الثانية لمراجعة مرعبة. وباستثناء المؤرخ ايلان بابيه، الذي تعرض لحملة اضطهاد منظمة في جامعة حيفا، بعدما قام احد طلبته بكشف مجزرة الطنطورة في اطروحة ماجستير اقامت الدنيا واقعدتها في اسرائيل، فان بني موريس عاد الي الواجهة حاملا وجهة نظر مختلفة. اذ لم يكتف المؤرخ بالتأكيد ان اطروحته حول طرد الفلسطينيين لا تحمل اي دلالة اخلاقية، بل دعا الي وضع الفلسطينيين في الأقفاص، بوصفهم برابرة، ووجه انتقادا عنيفا لبن غوريون لأنه لم يستكمل عملية الطرد عام 48 لتشمل الضفة وغزة. اي ان الرجل لا يكتفي بتأييد الطرد، بل يتمني لو كان اكثر اتساعا، معلنا انه كان ضروريا من اجل اقامة الدولة اليهودية، نازعا عنه اي ادانة اخلاقية!الواقع ان بعض عناصر الخطاب الما بعد صهيوني، وخصوصا خطاب بني موريس تذكرنا بجابوتنسكي وبالحركة التصحيحية التي كانت علي يمين حزب العمل في مرحلة تأسيس دولة اسرائيل والتي قامت بمذبحة دير ياسين جاعلة منها احدي علامات فخرها الوطني.شعرت وانا اقرأ مقابلة بلاطة في الأيام ، واتمني ان يكون شعوري خاطئا، انني امام نسخة جديدة من لا اخلاقية التعامل مع الفلسطينيين.هنا يصير الوجود الفلسطيني مدينا لرأفة باحثين واكاديميين اسرائيليين. هذا ما حاولت ان توحيه لنا الضجة التي اثيرت من حول المؤرخين الجدد. صارت النكبة والطرد اكتشافا اسرائيليا! وتتعرض الثقافة الفلسطينية بدورها لانتحال مطلق. الفن التشكيلي يصير مثل الفلافل، اي انه يعرف في العالم بسبب ان الاسرائيليين استذاقوا طعمه!الجهد الفكري والثقافي الذي بذله كاتب وفنان فلسطيني من اجل ان يكشف كنوز الحركة الفنية الفلسطينية، ويؤرخ لها كمثيلاتها في بلاد الشام، باعتبارها جزءا من حركة النهضة في القرن التاسع عشر، هذا الجهد الذي جسده كمال بلاطة في عشرات المقالات والابحاث باللغتين العربية والانكليزية، وتوجه بنصين كبيرين، الأول نشر في الموسوعة الفلسطينية، والثاني كان كتابا اصدرته الاليكسو بعنوان: استحضار المكان، دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر ، يتعرض للسرقة المباشرة من قبل كاتبة اسرائيلية استعانت بالفنان الفلسطيني من اجل بحثها، فاذا به يجد نفسه وهو يقرأ المخطوط قبل صدوره امام من ينسب كل شيء لنفسه، متجاهلا ان دحض اسطورة عدم وجود فـــن فلسطيني قبل النكبة، قام بها فلسطيني مقدسي وجد نفسه بعد احتلال القدس عام 1948 في المنافي.المسألة ليست في النوايا الحسنة، جهنم مبلطة بالنوايا الحسنة ، والمسألة ليست في الاعتراف بالوجود الفلسطيني، فالكاتبة الاسرائيلية تريد ان تستخدم كتابات كاتب فلسطيني من اجل ان تثبت ما سبق له ان اثبته من زمان. لكن الاثبات يتخذ الآن شكل اعتراف اكاديمي. فيصير حال الفكر كحال الحمص والتبولة والفلافل، فضل اسرائيل انها عولمتها عندما تبنتها.كمال بلاطة كشف السرقة والانتحال قبل صدور الكتاب، مما اجبر الناشر البريطاني علي تأجيل نشر الكتاب، وتقديم وعد باحداث تعديلات عليه.علينا الآن ان ننتظر.لكن ذلك الزمن حيث كانت الثقافة العربية تتفرج علي انتحالها وتشويهها، انتهي ولن يعود. 0