ملك وكتابة .. وجهان لسينما مختلفة!
الموهبة في مواجهة النظرية الأكاديمية ملك وكتابة .. وجهان لسينما مختلفة!القاهرة ـ القدس العربي ـ من كمال القاضي: المسافة بين الدراسة الأكاديمية والموهبة شاسعة، فليس ضروريا للأستاذ الأكاديمي بمعهد الفنون المسرحية أن يكون موهوبا في التمثيل لأنه يعلم طلابه ويدربهم ويلقنهم دروسا في فن الأداء والإحساس والانفعالات، إذ أن الموهبة والدراسة ليسا وجهين لعملة واحدة، وإنما يختلف ميكانيزم التفكير والتعبير لدي المدرس الأكاديمي عنه عند الممثل الذي خاض تجربة التمثيل بإلحاح ذاتي فكرس كل أدواته في تقمص الشخصيات مستغلا ملكاته الفطرية ومستندا علي قواعد الدراسة النظرية التي لا تمثل أكثر من خطوط رئيسية للشخصيات التي يؤديها داخل الإطار الدرامي سواء بشكله الأكاديمي المدروس أو المرتجل.. بينما يظل الأستاذ متشبثا بنظرياته وقوالبه فيصير جزءا من حياته مبرمجا لا يخرج قيد نملة عن حدود المسموح به منهجيا.. وعادة ما تتصف هذه الشخصيات بالالتزام والنمطية الشديدة لكونها تعتبر ذلك التنميط سلوكا قويما لا تتخلي عنه ولا تحيد عن تطبيقه.. ملامح من هذا التكوين الإنساني انطبقت علي شخصية الدكتور محمود عبد السلام الأستاذ بالمعهد العالي للفنون المسرحية أو محمود حميدة في فيلم ملك وكتابة للمؤلفين أحمد الناصر وسامي حسام اللذين رسما واقع الرجل الخمسيني الذي تعامل مع حياته العائلية بمنطق ناظر المحطة يخضع كل تصرفاته لتوقيتات زمنية كأنه يسير علي قضبان السكة الحديد فوقع في المحظور وتعرض لصدمة نفسية عنيفة إثر اكتشاف خيانة زوجته له بمحض الصدفة أثناء سفره مع شاب صغير في شقة الزوجية التي طالما شاهدت علاقته السوية مع أول امرأة في حياته عايدة رياض التي لم تظهر سوي في مشهد واحد فقط!كانت الصدمة بمثابة تحول خطير في حياة أستاذ الجامعة مضرب الأمثال في الجدية والانضباط والخلق الكريم.. حيث انطوي الدكتور وترك شقته بعد أن طلق زوجته دون أن ينبس بكلمة عتاب واحدة ليغرق فيما بعد في شتات وشرود راجعا بذاكرته إلي الخلف مستعرضا تفاصيل غائمة مرت عليه بحلوها ومرها لا يفصح عنها إلا لصديقه الوحيد لطفي لبيب الذي ساعده كثيرا علي تجاوز المحنة.. وتشي الأحداث في الجزء الأول من الفيلم بفلسفة الحياة ومفارقتها التي تجعل أكثر الناس التزاما هو نفسه أول ضحايا السقوط الأخلاقي كأنه المعني المراد تعريفه هو عدم وجود معيار ثابت للمسألة الأخلاقية ولا يمكن التكهن بردود فعل الشخصية من خلال العرض الظاهر.. فليس السكوت أو الصمت دليلا علي الوقار ولا الاحتشام مسوغا أكيدا للاستقامة.. وإنما تظل كل الأشياء والسلوكيات سرا كونيا تضمره النفس البشرية يتفجر في لحظات مفاجئة وفق ملابسات وظروف خاصة ربما لا يعرفها الإنسان عن نفسه إلا إذا وضع في تجارب ومحكات حقيقية.. تلك هي نقاط الارتكاز في الدراما السيكولوجية التي طرحتها بحرفية عالية وفهم عميق لأغوار الشخصيات الرئيسية للمخرجة كاملة أبو ذكري في فيلمها ذي المستويات المتعددة ملك وكتابة ، خاصة فيما يتعلق بحياة البطل المأزوم الذي أدخلته التجارب الحياتية في أطوار مثيرة وموجعة أكسبته تعاطفا جماهيريا كبيرا برغم عنفوانه وجديته المنفرة قبل ظهور البطلة هند صبري في حياته بعد مشاجرة كلامية دارت بينهما حول مفهوم التمثيل واستخدام الممثل لأدواته، إذ وقفت هند علي نقيض نظريته الأكاديمية مؤمنة بأن الموهبة أسبق علي الدراسة وهي الأصل في توهج الفنان وتمكنه من أدواته فيما يري هو، أي الدكتور محمود، أن الموهبة يجب أن تتبع النظرية العلمية ولا تنحرف عنها طبقا لما هو ثابت في المناهج الدراسية وما تقره كل الأكاديميات في الدنيا. علي هذا الأساس التقي البطلان وتحولت بينهما العلاقة الجدلية إلي لغة حوار هادئ سرعان ما انقلبت إلي مشاعر عاطفية توثقت عراها في ظل احتياج كل منهما للآخر، برغم ارتباط الفتاة هند بعلاقة أخري مع خالد أبو النجا الذي شغل حيزا ضيقا في الفيلم لا يتعدي كونه ضيف شرف، ولكن كان وجوده حتميا في الأحداث، فهو يمثل النوع الثاني من البشر، ذلك النموذج العاطل للباحث عن نفسه والتائه في خضم الأحلام والأوهام، لكنه لا يخطو خطوة واحدة في اتجاه أحلامه وينتظر الفرصة لتأتيه علي طبق من فضة، الأمر الذي أدي لارتباك العلاقة بينه وبين محبوبته الرشيقة الجميلة التي تهوي التمثيل وتؤمن بصعود سلم المجد تدريجيا. ونعود إلي محمود حميدة أو الدكتور محمود عبد السلام الذي استطاع أن يملأ فراغ هند بنضجه وعقلانيته، إلا أنه ظل رافضا لتغيير منهج حياته لولا أن بواعث الأمل والحب قد نبتت من جديد في وجدانه، فبدأ يتخلي شيئا فشيئا عن تحفظه ويعيش حياته بروح الشباب نافضا عن كاهله غبار المسؤولية والهموم.. وفي إطار هذا التحرر من القيود حاولت هند أن تدخله دائرة التمثيل ليجرب حظه أمام الكاميرا فتكون الانتكاسة الكبري في عدم قدرته علي التعبير التلقائي فيسجل رقما قياسيا في الفشل كممثل، ولكنه في اللحظات الأخيرة وتحت إلحاح الحبيبة يدخل البلاتوه مرة أخري ويستدعي كل أحزانه وشجونه ويسقطها علي الشخصية التي يؤديها فيبدو أدواؤه عفويا مقنعا ويتغلب علي حاجز الرهبة والخوف وتتحقق بداخله المعادلة الصعبة بين الأكاديمية والموهبة.. ويعود بنا الفيلم أو تعود بنا كاملة ابو ذكري مرة أخري فتغلق الدائرة المفتوحة علي المعني المستهدف، وهو أن لكل إنسان ملكات تحركه في الاتجاه الذي يري نفسه فيه أو ربما يتحرك أيضا علي عكس ما يريد نتيجة لظروف قد تكون أكبر منه مثل الخوف والضعف، فيلجأ إلي تعويض نواقصه باختيارات مغايرة لميوله فإذا ما عجز عن تحقيق النجومية في التمثيل اتجه إلي التدريس أو أنه يفشل في إقامة علاقة رومانسية مع فتاة فيختار التأدب ملاذا بديلا عن الوقوع في براثن الحب.. وهكذا تكون الظواهر الإنسانية للبشر ساترا لحقيقتهم الأصلية فيمنعون من التشدق بها لإثبات صحتها وجدارتهم بها فيما يعانون هم في واقع الأمر من شيزوفرانيا ويعيشون بروح مزدوجة، غير أنهم لا يصرحون بذاتهم الشخصية جدا إلا تحت ظروف ضاغطة وعوامل نفسية بعيدة عن دوائر إدراك العقل، ولكنهم يعبرون عنها في عقلهم الباطن في أحلام اليقظة أو أثناء النوم أو تحت تأثير المخدر أو بعد تأثير صدمة ما.. وكلها أسرار لا يستطيع الإنسان الإحاطة بها إلا فيما ندر شريطة أن يكون صاحب فراسة إيمانية ومتصلة اتصالا روحانيا بما وراء الحجب. في هذا الفيلم قدمت المخرجة رؤية شديدة العمق والفلسفة استخدمت فيها مؤثرات الضوء والتصوير والموسيقي بشكل دقيق ووظفت إمكانيات مدير التصوير أحمد مرسي والموسيقي خالد شكري توظيفا محسوبا بالسنتمتر، وقد نجحت في خلق جو نفسي مشحون بالانفعالات الهادئة، كما أنها سيطرت علي اداء الأبطال محمود حميدة وهند صبري ولطفي لبيب وخالد أبو النجا فبدوا كأنهم أوركسترا يعزف سمفونية بلغة التأثير لبتهوفن وباخ. والغريب أنه برغم كل هذا التميز الفني السينمائي ظل الجمهور علي الضفة الأخري لم يتجاوب مع الفيلم التجاوب المطلوب ليثبت أن الملك والكتابة وجهان لعملة واحدة لكن يظل الفارق بينهما قائما فالملك هو الملك والكتابة هي الكتابة لا يعوض كلاهما الآخر ولا يحل محله! 0