مقعد الأبلهايد 50 فهرنهايت

حجم الخط
0

اسمحوا لي أن أقدمّ لكم نفسي. اسمي مقعد الأبلهايد. لا أعرف من سمّاني ولا من رماني هنا وسط هذه الغابة الموحشة في عمق الجبال العليا. حتى أنني لا أذكر أنّي سمعتُ أحدًا، على مدى قرون، قد ناداني بهذا الاسم. كلّ ما في الأمر أني كلّما أطبقتُ جفنيّ مستسلما للنوم سمعتُ من الجهة الأخرى لأحلامي رنينا ثقيلا يقطعه صوتٌ واهنٌ:
‘ أنا الأبلهايد. غادرتُ ولن أعود قبل ثمانية قرون. بامكانكم مراسلتي في الأحلام.’
دائما ما بدا لي الرنينُ بعيدا جدّا، كما لو كان يتردّد من جهاز هاتف قديم في واحدةٍ من غرف الله الفارغة. كان واضحا أنّ أحدهم غادر ولم يترك وراءه غير هذا الجهاز المتهالكِ، وهذا الخذلان الذي تمشّى في الهواء بما يشبه رائحة قطن عطن. جرّبِ الاتصال بشخص لم يعد على الخطّ وستصعد منك تلك الرائحة العطنة. جرّب ذلك مرّة وستطفر عيناك بالدموع لأجل أولئك المخذولين في الجهة الأخرى. ستودّ لو ترفع سمّاعة، أيَّ سمّاعة وتقول لهم كلاما، أيَّ كلام. المهمّ أن يسمع المخذولون صوتا، غمغمة، اشارة، أيَّ اشارةٍ تنهي لوعة انتظار أن يرفع السماعة أحدٌ ما. لا يهمّ إن كان بشرا أم مَقعدًا أم جدولا أم سمكة… كلّ ذلك لا يهمّ. المهمّ أن يكون في الجهة الأخرى للأحلام أحدٌ ما ينصتُ.
أنا ذلك الاحدُ الذي ينصتُ. يحدث في النهار أن أكون مجرّد مَقعدٍ مهمَل وسط غابة موحشة في عمق الجبال العليا، وفي الليل عندما أطبق جفنيّ وتوقظني الأحلامُ، شبحَ موظف صغير في دائرة تلغراف لا وجود لها. لطالما كان الليلُ فرصتي كي أتذكّر من أنا. يكفي أن أنعس كي أتحرّرَ من شموس الغابة وأمطارها ووطواطها ونعيق غربانها وأدخلَ دائرة التلغراف تلك رافعا سمّاعة تالفة متلقيا آلاف الرسائل نيابة عن الأبلهايد الذي غادر منذ قرون.
كيف يمكن أن تستمرّ الحياة عندما يغادرُ الأبلهايد؟ عندما لا تجد الشجرة من يفسّر حلمها ولا يجد المجنّدُ النائمُ في الثكنة من يحمل حزنه إلى منام أمّه، عندما لا تجدُ امرأة ليلة ترمّلها من يصل مصيبتها بقاع نهر جفّ كما يوصلُ سلكٌ بسلكٍ كيف يمكن أن تستمرّ الحياة؟ أنا مقعد الأبلهايد، جئتُ كي أصل الأحلام ببعضها كما توصل أسلاك التلغراف لإتمام مكالمةٍ مستعجَلة. ها أنا أبوح لكم بواحدٍ من أسراري الأقلّ خطورة. الأنهارُ لا تجفّ إلاّ إذا خلا العالم ممّن يقول صادقا: ‘إذا اكتأبتُ من غير موجب فثمّة عاشقٌ في الأرض يتمزّق’. هاكم واحدًا من أسراري الأشدّ خطورة.
ذلك الجزءُ من حياتي السابقة الذي حسبته مات ودُفن إلى الأبدِ، كان يعود ليلمع فجأة كقطعة بيزو ذهبية. بلفّتين خفيفتين شبيهتين بلفّتي بَكرة أفلام تُدار إلى الوراء كنتُ أطرح صورة المقعد جانبا وأستعيدُ ذلك الموظف الشاحبَ الذي كنتُه. ليس في وسعيَ الجزم إن كان ذلك الشخص الذي استعدتُه حقيقيّا أم محض خيالاتِ مَقعدٍ مهمَل وسط غابةٍ موحشة في عمق الجبال العليا. في المقابل بوسعيَ الجزمُ أنه إذا كان ثمة ما يضفي على ذلك الشخص روحَ الواقعية فهو ذلك الريبُ، لا شيءَ اخرَ. مركزُ التلغراف بدوره بدا غير مرئيّ، لكنّ ذلك لم يمنعني من ملاحظة التبدلاتِ التي طرأت عليه. الساحة الصغيرة التي كانت أشبه بدغَل نائم بين دفّتي كتابٍ للأطفال غدت محضَ خرابةٍ والمكانُ بأسره.
لم يكن ثمة ما يوحي بأن المبنى الجيريّ كان قائما، ما سهّل عليّ المرورَ بمكاتبه الأرضيّة من دون أن أثير ضجّة من شأنها أن تزعج أرواح مستخدَمين كانوا هنا. لم يكن لي وجودٌ عندما رحتُ أصعد السّلمَ الخشبيّ مثيرا تحت قدميّ طبقة رقيقة من الزمن سرعان ما انتشرت في الجوّ. أدهشني أنني كنتُ أترك دعساتي مطبوعة في غبار السّلّم الخشبيّ وبصماتي الطحينيّة على كلّ ما تلمسه يداي اللامرئيتان. هكذا كنتُ أصعدُ خفيفا. كلّما تقدّمتُ خطوة انضغط الماضي واتسع الكادر في مهابةِ واحدةٍ من لقطاتِ لوتشينو فيسكونتي. في الطابق العُلويّ كان ضوءُ مساءٍ زعفرانيّ بتدرّجاتٍ أرجوانيةٍ يسبح في الممرّ. الهواءُ بدا نديّا ومضبّبا. ومثلما يحدث كلّما صرتُ هناك في الأعلى، انبعثت أغنية ألمانية مجهولة بصوت شديد العذوبة: ‘ الآن وقد تركتني لم يبق لي سوى هذي الغيومُ. هذا الطقس القاتمُ. خمسون فهرنهايت. هذا كلّ ما تبقّى !’
في نهاية الممرّ، حيث ‘مكتبُ الاتصالات التي لا تفضي إلى شيء’ بدا أنني أبصرتُ الموظّف البائسَ الذي كنتُه. لم يكن مرئيا لكنني استطعتُ أن أميّزه من بين كلمات الأغنية الألمانية المجهولة ورنين اشارات النداء التلغرافي المستعجَل. لثمانية قرون قادمةٍ سأظلّ أعشّق الخطوط التلغرافية، أصلُ الحالمين ببعضهم، أرملة بقاع نهر، شاعرا بقصيدته التي لم تأتِ بعدُ، محاربًا قديما بقدمه التي بُترت في الحرب، موسيقيّا ميّتا بجمهورهِ، مُحتضرا بمذكراته التي سُرقت أمام عينيه في الرمق الأخير…
إلى أن يعودَ الأبلهايد، سأظلّ أصل الأحلامَ ببعضها كمن يصلُ سِلكا بسلكٍ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية