مع حرية التعبير وضد التعدي والازدراء

حجم الخط
0

مع حرية التعبير وضد التعدي والازدراء

د. سعيد الشهابيمع حرية التعبير وضد التعدي والازدراءفي الساعات الباكرة من يوم 22 ايار (مايو) 1990 طرق باب منزلنا بوسط العاصمة البريطانية، وما ان فتحت الباب حتي بادرني ضابط بلباس مدني، بصحبته ثلاثة آخرين، قائلا: جئت لأعتقلك في اطار قانون مكافحة الارهاب . في البداية كنت أتصوره مازحا، ولكنه استمر في طرح التعليمات المتبعة في مثل هذه الحالات، وفي غضون ثوان اقتحموا المنزل واقتادوني الي سجن بادينغتون غرين المخصص لكبار الارهابيين. أدركت بعد ذلك انني واحد من ستة أشخاص كانوا مستهدفين لأغراض سياسية، ولكن بحجة التخطيط لاغتيال سلمان رشدي . هذه الذريعة نشرت في الصحافة البريطانية في اليوم التالي، وأثير اللغط مجددا حول الكاتب البريطاني من أصل هندي، الذي كان قد أصدر كتابه بعنوان: آيات شيطانية . كان ذلك الكتاب من أسوأ الكتب التي استهدفت شخصية الرسول الكريم عليه افضل الصلاة والسلام، واستهانت بمعتقدات المسلمين، وأشعلت نار الاحتجاجات في عواصم العالم، من جاكرتا الي لندن. يومها تغاضي الغربيون عن كافة العناوين التي تأثرت سلبا بذلك الكتاب، وكان دفاعهم الوحيد ان اصدار الكتاب مبرر ضمن مقولة حرية التعبير . وعلي مدي اكثر من عامين، بقيت أجواء العلاقات بين العالمين، الاسلامي والغربي، ملبدة بسحب الشكوك وانعدام الثقة والعداء الفكري والديني. جاء اعتقالنا بعد أكثر من عام علي صدور الكتاب وفتوي الامام الخميني باهدار دمه. بعد بضعة ايام أطلق سراح أربعة منا وأبعد اثنان. ومنذ اللحظات الاولي للاعتقال كان واضحا ان التخطيط لاغتيال رشدي كان من نسج خيال الاستخبارات وذريعة لاعتقال سياسي تم في اثر زيارة وفد رسمي من احدي الدول الخليجية الي العاصمة البريطانية. وكان ضمن ذلك الوفد ضابط بريطاني يدير جهاز استخباراتها. في تلك الفترة بلغت العلاقات بين بريطانيا وايران أدني مستوياتها، حيث تم سحب السفراء، وتم تجميد العلاقات بينهما. كانت قضية رشدي مرشحة للاستمرار، لولا الاجتياح العراقي للكويت في الثاني من آب (اغسطس) 1990. ذلك الاجتياح شجع الغربيين علي تطوير الصراع الفكري الي حرب لم يشهد العالم مثلها علي صعيد التكنولوجيا. وكان من نتائجها المباشرة الهيمنة الامريكية العسكرية المباشرة في منطقة الشرق الاوسط، وتصاعد موجات العنف التي استهدفت في بداياتها، ذلك الوجود العسكري.وبعد أقل من عقدين من الزمن، يتكرر السيناريو مجددا، ويتم التعرض بشكل مهين للدين الاسلامي، بنشر رسومات كاريكاتيرية تستهدف رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، بشكل مقزز، وتستفز المسلمين في عقائدهم. ومرة أخري تتذرع الحكومات الغربية بمقولة حرية التعبير لعدم اتخاذ اي اجراء او توبيخ لمن قام بذلك. فاذا كانت الصحيفة النرويجية (ييلاندز ـ بوستن) التي نشرتها في شهر ايلول (سبتمبر) الماضي قد سعت لكسب الشهرة في بداية الامر بجذب القراء بهذا الاسلوب، فان موقف الحكومات الغربية لاحقا شجع الصحف الكبري في اكثر من 24 دولة من بينها فرنسا والمانيا وهولندا وايطاليا واسبانيا علي اعادة نشر تلك الرسومات الهابطة. وبادرت هيئة الاذاعة البريطانية للمشاركة في دعم حرية التعبير ايضا باعادة نشر بعض تلك الرسومات في اطار التغطية الصحافية. وتخرج صحيفة التايمز البريطانية يوم الجمعة الماضية بعنوان يقول: حرب الكاريكاتيرات وصراع الحضارات ، الي جانب شخص فلسطيني ملثم يحمل السلاح ليحمي مكتب الاتحاد الاوروبي في غزة. المشهد مهيأ لبث رسالة واضحة تربط بين الاسلام تارة، والعرب أخري، والعنف، بدون تكلف او عناء. وفي ظل الهيمنة الاعلامية الغربية المطلقة، تتضح ملامح الصورة للانسان الغربي العادي وكأن الاسلام هو الذي يشن الحرب ضد الغرب، ويعلم السياسيون والاعلاميون الغربيون، قبل غيرهم، ان الاسلام هو الضحية، وان الرسومات التي تربط بين الرسول والارهاب عمل استفزازي بدون مبرر. كما يسعي الاعلام الغربي الي الترويج لمقولة ان الاسلام او المسلمين يقفون ضد حرية الرأي، وان دين الاسلام لا يتبني سياسة القبول بالرأي الآخر.ولكن ثمة حقائق لا بد من توضيحها او علي الاقل الاشارة اليها. اول هذه الحقائق ان الاسلام لا يعارض النقد البناء ولا الافكار المخالفة، ولكنه يعارض اساليب الشتم والازدراء والاهانة. ولان الاسلام دين يقر الاديان السابقة، ويقدس كافة الانبياء والرموز الدينية لدي الاديان التي سبقته، ومن بينها المسيحية واليهودية، فانه لا يسمح لنفسه ولا لأتباعه بإهانة أي من الانبياء، فالنبي موسي مقدس، وكذلك النبي عيسي بن مريم وقبلهما نوح وابراهيم عليهم السلام. ثانيا ان حرية التعبير مكفولة لمن لديه رأي مخالف لدين الاسلام، فلو ان كاتبا او مفكرا او سياسيا أعلن اعتراضه علي مبدأ من مباديء الاسلام او حكم من أحكامه، فلن تثور ضده الثورات، ولكن قد يرد العلماء عليه بالدليل والبرهان، وفق قواعد الحوار المألوفة بين البشر. وما يعترض عليه الاسلام والمسلمون هو أساليب الاهانة والازدراء التي تستبطنها الكاريكاتورات الاخيرة او كتاب رشدي قبلها. فالموضوع هنا ليس مرتبطا بحرية التعبير بل بالموقف من الاعتداء بأساليب غير لائقة علي مقدسات الآخرين. ثالثا: الحرية كقيمة عامة مكفولة للجميع، ولكنها مشروطة، في كل الأديان والأنظمة السياسية والقوانين الدولية، بعدم المساس بحقوق الآخرين وحرياتهم. فليس هناك حرية مطلقة لأحد والا لاضطربت حياة الناس ولأصبحوا في مصادمات يومية بسبب تناقض المصالح وتضاربها. فحرية الفرد، في اي مجال، تنتهي عندما تتصادم مع حقوق الآخرين وحرياتهم. فمن حق الانسان ان يستمع الي الراديو والتلفزيون مثلا، وهو حق طبيعي له، ولكن ذلك الاستماع مشروط بان لا يزعج الآخرين. وحق التعبير يتوقف، حتي في الاعلام الغربي، عندما يمثل اعتداء علي حقوق الناس، وكثيرا ما لجأ الاشخاص الي القضاء عندما يتعرض لهم كاتب او صحيفة بالقذف او التشهير، لان حق التعبير هنا قد تجاوز حدوده وأصبح يمثل اعتداء علي حقوق الآخرين. رابعا: ان حرية التعبير مكفولة، لكن الاهانة والتحقير والازدراء واثارة التوتر بين الطوائف والاديان وتهديد السلم المجتمعي، ليس من حق أحد.بالاضافة لما تقدم، هناك أبعاد أخري للغط القائم تنطلق من ازدواجية المعايير والقيم لدي الغربيين عموما. ففي لندن، مثلا، تجري منذ بضعة اسابيع، محاكمة المتطرف أبوحمزة المصري بتهم التحريض علي القتل والارهاب، ويستند الادعاء في القضية المرفوعة علي عدد من الأدلة المسجلة أغلبها مستمد من خطبه وتصريحاته. وهذا يعكس ان الغربيين انفسهم لا يسمحون للأشخاص بقول كل ما يريدون قوله، وان حرية التعبير تقف عند حدود يرسمها القانون احيانا بوضوح، وفي حالات أخري، تخضع لأذواق المسؤولين في السلطات المعنية وفهمهم. في هذا الوقت بالذات برأت محكمة بريطانية رئيس الحزب القومي البريطاني ذا التوجهات اليمينية المتطرفة والمتهم بالعنصرية، من تهم وجهت اليه بالاساءة الي الاسلام والمسلمين. هذه التهم تم توجيهها الي الشخص المذكور بعد الاطلاع علي تسجيلات لما قاله في احد الحوانيت، وفي تصريحات اخري علنية، وصف فيها الاسلام بالعفريت تارة، والارهاب تارة اخري. ووصف المسلمين بالعنف والارهاب ايضا. وفهم من تلك التصريحات ان من شأنها اثارة السلم الاجتماعي في البلاد. كلام السيد نيك غريفين، تم التعامل معه باسلوب يختلف عن التعامل مع ما قاله ابوحمزة، ولذلك تمت تبرئته من تهمة التحريض علي البغضاء العنصرية. وبغض النظر عن مدي ممارسة العدالة في القضيتين، فان الموضوع المستفاد منهما ان حرية التعبير مشروطة وليست قيمة مطلقة، وبالتالي فكل قول يؤدي الي تقويض السلم الاجتماعي يعتبر جريمة، يعاقب القانون من يقوم بها. وعندما يتعلق الامر بالأديان، فان مشاعر أتباعها عرضة للاثارة بشكل خطير اذا تعرض أحد لها بالازدراء او الاحتقار او التوهين والاهانة. ونشر الرسومات التي تستهزيء برسول الاسلام، وهو الرمز الأول لأكثر من مليار مسلم في العالم، لا يمكن اعتباره نمطا من حرية التعبير ، فالهدف منه استهداف المسلمين في معتقداتهم بشكل واضح، خصوصا انه جاء بعد سبعة عشر عاما علي اصدار كتاب رشدي الذي أدي الي قتل عدد كبير من المتظاهرين في الهند وباكستان. ولم تكتف النخب الاعلامية بدعم الصحيفة الدنماركية التي نشرت الرسومات في البداية، بل بادرت صحف اخري الي نشرها في عدد من البلدان بشكل استفزازي لا يمكن تبريره ابدا. وما يفهم من تلك التصرفات ينحصر بالرغبة في استفزاز المسلمين، في ضوء تجارب مماثلة سابقة.لماذا يتصرف الغربيون بهذه الاساليب؟ أليست هذه التصرفات عاملا لتأجيج الصراع ودفع الامور الي التوتر والاضطراب والتأثير السلبي علي علاقات البشر؟ لماذا يواجه الغربيون الدعوات الاسلامية المتواصلة للتفاهم والحوار بين الحضارات بالاستفزازات الدينية تارة؟ والسياسية تارة أخري؟ والتهديد بالعقاب المادي ثالثة؟ لماذا تواجه دعوات السلم المنطلقة من شعوب العالم الاسلامي بدعوات الحرب؟ من الذي شن الحروب في العقود الثلاثة الاخيرة ضد الآخر؟ لماذا يتم ضرب اية دعوة للتآلف والتحاور والتقريب بأساليب العدوان الفكري والسياسي علي نمط الرسومات والاسلاموفوبيا؟ فبعد ان طرح صمويل هانتنغتون تصوره للصراع المستقبلي بين الحضارات، طرح الرئيس الايراني، من علي منبر الامم المتحدة، اطروحته التاريخية التي دعا فيها الي حوار الحضارات، وبعد تصاعد دعوات الحرب من واشنطن ولندن، طرح اطروحته الأخري بعنوان التحالف العالمي من أجل السلام . وسعي علماء المسلمين في الازهر وقم والنجف لتقوية العلاقات مع المسيحية، لمنع سوء الفهم وخلق ارضية مشتركة للعمل الديني التقريبي. لماذا تحدث الرئيس الامريكي، جورج بوش، عن مشروعه في اطار حرب صليبية ؟ أحقا كانت زلة لسان ام تعبيرا عن اجندة غير معلنة لاثارة الصراع في العالم وفق المقولة التي يتبناها المسيحيون الصهاينة التي تسعي لملء الارض اضطرابا وفتنة للتعجيل بقدوم المسيح عليه السلام؟ تفسيرات كثيرة يمكن طرحها لظاهرة الاعتداء السياسي والديني علي منطقة الشرق الاوسط، ولكن الحقائق تفرض نفسها لتصيب دعاة التقريب والحوار بالكثير من الاحباط وخيبة الامل، ولتوفر للمتطرفين من الجهتين، فرصا لتنفيذ خططهم وايصال العالم الي مواجهات عسكرية تأتي علي الاخضر واليابس.وثمة أسئلة تفرض نفسها في هذا المجال؟ هل هذه التصرفات فردية ام ان وراءها جهات تسعي جاهدة لتوفير مناخات الاختلاف والتحارب والاستعداء؟ وأين هو موقف الحكومات من كل ما يحدث؟ ولماذا رفضت الدنمارك حتي الآن تقديم اعتذار للمسلمين، وتبعتها بقية الدول الاوربية التي تمترست وراء مقولة حرية التعبير مع علمها ان هذا الشعار لا يصدقه الواقع، وان تلك الحرية محكومة بان لا تتعارض مع حريات الآخرين وحقوقهم؟ ثم لماذا لا يتم توسيع القوانين التي تجرم ازدراء الاديان لتشمل الدين الاسلامي ايضا؟ هذه التساؤلات لن تجد لها اجابات سريعة او وافية، لكنها تعكس حالة التوتر التي تسود المسلمين بسبب ما يرونه من استضعاف لهم من قبل القوي الغربية، وظاهرة التكاتف بين الاعلاميين والكتاب الغربيين الذين يستهدفون مقدسات المسلمين، والسياسيين الذين يرفضون اتخاذ مواقف مسؤولة لوقف تلك الاعتداءات والاهانات. الأمر المؤكد ان الغرب الذي يزهو في حلل السلاح التكنولوجي المتطور يشعر بقوة عسكرية وسياسية واعلامية مفرطة، تجعله قادرا علي ممارسة سياسات انتقائية تطالب ايران بوقف مشروعها النووي وتغض الطرف عن اسرائيل وتتهم حماس بالعنف والارهاب، وتستثني قوات الاحتلال الصهيونية من ذلك، وتسمح بالاعتداء علي مقدسات الاسلام، وتمنع اي تشكيك في تفصيلات الهولوكوست . بهذه السياسات اصبح العالم أقل أمنا، وأقرب الي الصراع الذي تنبأ به هانتيغتون، وأصبح الغرب أقل استعدادا للتعايش السلمي في اطار الاحترام المتبادل وأكثر تهديدا للعرب والمسلمين بشن الحروب والحصار والاستضعاف المتواصل. فالتحدي لم يقتصر علي قيام الصحيفة النرويجية بنشر الاهانات للمعتقدات الاسلامية، بل تعمد الغربيون تكرار تلك الاساءة باعادة نشر تلك الاهانات. ومن يبحث عن الامن والاحترام والسلام لا يفعل ذلك، بل يراعي مشاعر الآخرين، ولا يبحث عما يزيد من ازعاجهم. كما ان الاحتجاج بمقولة حرية التعبير بشكل انتقائي ينطوي علي تناقضات في المفهوم من جهة وفي دوافع المتشبثين به من جهة اخري، وبالتالي اصبحت ذريعة لتبرير التهجم علي الاسلام والمسلمين وعقائدهم، بدون ان تتحول الي قيمة مطلقة. ان حالة الاستقطاب الناجمة عن الاسلاموفوبيا الغربية من شأنها ان تزيد الامور تعقيدا، ولن تخدم مصلحة الامن والسلام والدوليين، فليبادر العقلاء من المسلمين والغربيين لاحتواء هذه الظاهرة بالاتفاق علي ميثاق شرف يجعل احترام الاديان والعقائد ميثاقا دوليا ملزما لجميع الدول، تقره التشكيلات الاقليمية مثل الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي والاتحاد الاوروبي باشراف الامم المتحدة، المعنية بالامن والسلام الدوليين. فقد يكون ذلك خطوة فاعلة علي طريق التفاهم والحوار. 9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية