مع السياسات المتأرجحة والبندول الإقليمي..هل ستؤثر هوية الرئيس الأمريكي المقبل على الشرق الأوسط؟

حجم الخط
0

“في فترة ولايتي كان هناك سلام في الشرق الأوسط، وفي القريب سيكون لدينا سلام مرة أخرى. سأحل المشكلات التي أوجدتها كمالا هاريس وبايدن، وسأوقف المعاناة والدمار في لبنان. سنعود إلى سلام حقيقي ودائم وسنفعل ذلك كما يجدر بحيث لا يكرر نفسه كل خمس أو عشر سنوات”، هذا ما بشر به ترامب في 30 تشرين الأول أكثر من 30 مليون متابع له. في الواقع، وجهت أقواله إلى الجالية اللبنانية الكبيرة في ميشيغان (الذين وعدهم بأنه “سيحافظ على الشراكة المتساوية بين جميع الجاليات اللبنانية”). ولكن ترامب يعرض رؤيته وكأنها بشرى لكل الشرق الأوسط.

رغم أن ابنته تيفاني متزوجة من ابن رجل أعمال لبناني، فثمة شك كبير إذا كان ترامب يدرك تعقيد بنية التجمعات الدينية والطائفية في لبنان ومنظومة القوى السياسية فيه بصورة تساعده في الدفع قدماً بـ “صفقة جيدة” تهدئ الدولة وربما كل المنطقة. حتى في لبنان نفسه، تصعب ملاحظة الانفعال من احتمالية أن يكون ترامب هو الرئيس الأمريكي القادم للولايات المتحدة.

كمالا هاريس أيضاً لا تثير الكثير من الآمال في المنطقة. بشكل عام، دول الشرق الأوسط (بما في ذلك الدول غير العربية مثل تركيا وإيران) لا تنقسم بين مؤيدة لترامب ومتحمسة لهاريس، بل منقسمة بشكل تخطيطي إلى كتلتين أساسيتين، التي ليست سنة وشيعة، أو مع أو ضد أمريكا كما هو دارج الاعتقاد، في كتلة منهما توجد “دول قائدة” التي بدأت بتخطيط الاستراتيجية استعداداً لتبديل النظام في واشنطن. وفي الكتلة الأخرى دول تنتظر المخلص الذي سيخلصها من الحروب التي تغرق فيها منذ سنوات كثيرة. في العالم الأول في الشرق الأوسط توجد دول النفط الغنية مثل السعودية والإمارات وقطر، إلى جانب دول مثل تركيا ومصر. في المقابل، “العالم الثالث” في الشرق الأوسط يشمل دولاً مثل اليمن، ولبنان، والعراق، وفي الضواحي أفغانستان وتونس أيضاً. في رزمة منفصلة هناك إيران وفلسطين، بؤر المواجهة والتهديد التي لا تؤثر فقط على الشرق الأوسط، بل على استراتيجية العالم التي تشمل أيضاً دولاً عظمى مثل روسيا والصين.

هذه “الرزمة” تنتقل بالوراثة من إدارة أمريكية إلى أخرى، ولم يتم حتى الآن العثور، ويبدو أنه لن يتم، على الساحر الأمريكي الذي سينجح في تحرير المنطقة من شرنقة النزاعات الممتدة منذ سنوات. في ميزان نجاحات وإخفاقات الإدارات الأمريكية (بشكل ملموس – مقارنة بين إدارة بايدن وإدارة ترامب) تصعب الإشارة حتى إلى انتصار بالنقاط. والإنجاز السياسي الكبير لترامب، “صفقة القرن”، التي أوجدت اتفاقات إبراهيم، لم تجلب أي تغيير حقيقي في نسيج التهديدات الإقليمية. خلافاً لاتفاق كامب ديفيد، فإن اتفاقات إبراهيم لم تنه أي حرب ولم تقض على أي مواجهة عنيفة. إضافة إلى ذلك، لم تبعد العبوة الناسفة الرئيسية الكامنة في النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين، الحرب في غزة تهدد أركان اتفاقات السلام بين إسرائيل ومصر والأردن، والخطة الإيرانية تتقدم بكامل الزخم، ومواجهات محلية تغلي دون صلة بهوية من جلس ومن سيجلس في البيت الأبيض.

أمل أن يحدث الرئيس الأمريكي الجديد ثورة استراتيجية تُحل “السلام العالمي”، أو على الأقل الاقليمي، يتجاهل التقديرات القاسية التي تعلمها رؤساء الولايات المتحدة، فضلاً عن تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط.

هذه الأمور تقال أيضاً في نفس هذا الحلم حول حلف الدفاع الإقليمي الذي يشمل التطبيع بين إسرائيل والسعودية، والذي يهدف إلى إقامة جدار دفاع ضد إيران. ترامب في ولايته السابقة لم يدنسها، وإدارة بايدن قفزت بلطف خلال الأربع سنوات عن نفس “الخطوة” التي فصلت بين القدس والرياض ولم تنجح في اجتيازها. وقد تبين أنه نزاع محلي تم إهماله، نفس هذا الإسفين الفلسطيني، ما زال منغرزاً بين أجزاء نفس السياسة متعددة القوميات ويزعج اللعبة الرئيسية.

ضغط ترامب الذي شمل سلة جزر وعصي للفلسطينيين لن يرضيهم، لا سيما بعد نقله السفارة الأمريكية إلى القدس واعترافه بضم هضبة الجولان. ولم يتمكن من تقريب نتنياهو من الاعتراف بحق الفلسطينيين بدولة. بايدن (الذي تجاهل القضية الفلسطينية في بداية ولايته، غير الاتجاه وحاول استغلال الحرب في غزة للدفع قدماً بحل الدولتين) تحطم على صخرة وجود نظام نتنياهو. مثل أوباما وكلينتون وبوش، تعلم كل من ترامب ونتنياهو، الدرس الصعب الذي يثبت بأنه لا علاقة حقيقية بين حجم المساعدات التي تحصل عليها إسرائيل وبين قدرة الولايات المتحدة على الحصول في المقابل على إنجاز سياسي حقيقي. هذا ليس درساً متميزاً يميز علاقات الولايات المتحدة – إسرائيل. الأموال الطائلة التي صبها دافع الضرائب الأمريكي في العراق وأفغانستان، لم تضمن تحالفاً بعيد المدى بين هذه الدول والولايات المتحدة. فالعراق، الشيعي في معظمه، أصبح دولة حماية إيرانية، وأفغانستان السنية تسيطر عليها “طالبان”.

دول “العالم الأول” العربية، التي تمتلك قوة سياسية واقتصادية كبيرة، اعترفت بأن بنية الولايات المتحدة التكتونية هي حزام الأمان الثابت لها، تعاني من شروخ تجبرها على إجراء فحص داخلي لرؤيتها الاستراتيجية. وترامب، الصديق المقرب والشريك الاقتصادي للسعودية، عزز مخاوف الرياض عندما أدار ظهره لها بعد أن هاجم الحوثيون منشآت النفط فيها في 2019. بدأ بايدن حملته الانتخابية بتعهد، وهو تحويل السعودية إلى دولة منبوذة عقب قتل الصحافي جمال خاشقجي، وحول ولي العهد محمد بن سلمان إلى شخص لا ترغب به واشنطن.

والإمارات، عروس اتفاقات إبراهيم، لم تحقق طموحاتها لعدم حصولها على طائرات اف 35 التي وعدت بها. هاتان الدولتان فتحتا لأنفسهما آفاقاً جديدة عندما حسنتا العلاقات مع الصين وروسيا واستأنفتا العلاقات الدبلوماسية مع إيران. وهما استخفتا بالعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا (أصبح الأوليغاركيون الروس من أهل البيت في دول الخليج). هذه الدول، إلى جانب الأردن ومصر، لا تعتبر شريكة في الحلف العسكري الذي أقامته الولايات المتحدة في البحر الأحمر لصد تهديد الحوثيين. وكلها أكدت أنها لن تسمح باستخدام سمائها أو أراضيها كقاعدة انطلاق للهجمات ضد إيران. خلافاً لدول “العالم الثالث” العربية، فإن دول الخليج التي قامت بتحديث استراتيجيتها، رسمت خارطة مصالح جديدة، أصبحت فيها الدول العظمى التي أُبعدت في السابق إلى خلف الجدار، صديقة للأغراض الاقتصادية أو التكتيكية. وهي إشارات إلى الولايات المتحدة بأنها الشريكة المفضلة في منافسة بحقل النفوذ الإقليمي، لكنها لم تعد تمتلك الامتياز الحصري.

أي رئيس سيدخل إلى البيت الأبيض يجب عليه الحذر في معالجة العبوات الناسفة السياسية والعسكرية التي تنتظره في الشرق الأوسط. يدور الحديث في الوقت الحالي عن مرشحين لم يعرضا بعد خطة تقنية منظمة للطريقة التي ينويان تحسين وجه الشرق الأوسط من خلالها وحل النزاعات فيه. التقديرات القائلة بأن كمالا هاريس “أكثر خطورة” على حكومة إسرائيل الحالية، وأن ترامب أخطر على العرب، ليست سوى تقديرات. هذه التقديرات تفترض أن هاريس جاءت مع ملف أعمال مرتب صيغ على يد بايدن (الذي يركز على حل الدولتين وإنهاء الحرب في غزة واتفاق في لبنان وعملية معينة مع إيران). ربما يعرض ترامب أعمال شعوذة هستيرية، يعطي فيه يداً حرة لإسرائيل لتسوية قطاع غزة وإقامة “نفيه ترامب” فيه، واحتلال منطقة أمنية في لبنان وقصف المنشآت النووية الإيرانية.

لكن هذه النظرية تفترض، رغم الدلائل المتناقضة، بأن التجربة المخبرية ستنجح هذه المرة؛ وأن واشنطن ستلوي ذراع اللاعبين الرئيسيين وصهرهم في تحالف أخوي سعيد. ولكن هذه النظرية مرة أخرى، لا تأخذ في الحسبان حركة البندول الإقليمي التي يمكن لأي نزاع محلي فيها أن يشعل الحرب الشاملة، وحقيقة وجود وزن ومكانة لدول المنطقة تمكنها من تقرير الكثير من قواعد اللعب دون صلة بهوية الرئيس الأمريكي الجديد.

تسفي برئيل

 هآرتس 5/11/2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية