معجزة حدوث الاشياء التي حدثت منذ زمن طويل

حجم الخط
0

معجزة حدوث الاشياء التي حدثت منذ زمن طويل

عناية جابرمعجزة حدوث الاشياء التي حدثت منذ زمن طويلفي فصل الشتاء، يستغرقني الاستماع الي تسجيلات لمطربين عراقيين، حسين نعمة تحديدا، ثم سليمة مراد ويوسف عمر والقبانجي. في الشتاء اجدني تلقائيا اسمع الغناء العراقي، والكردي والايراني واسمع البلوز . كلما اشتدت برودة الطقس انبش تسجيلات لزهور حسين ومائدة نزهت وحضيري ابو عزيز وزكية جورج وداخل حسن وسواهم، التشوش القريب من الذهول وكأنما شرّع ضعفي أبوابه. نوع من الجوع يستبد بي، توقا الي سماع خاص.في الاغنيات العراقية الجيدة، ما من انين يجري تبديده، وليست هناك شكاية واحدة، او تنهدة واحدة تفتقر الي الفجور الشعوري. وحتي اذا لم تكن احداها فاجرة (فجور الشكاية) فانها في اذني، وفي الشتاء القارس، تحظي بامكانية ان تكون شعورية فاجرة بشكل لا عودة عنه. عالم الاغنيات العراقية يعج بالغرام الي درجة الاختناق. درجة الموت، ويغلي بالنداءات والمناشدة والبذل. ثم انني انا من استمع، من أصغي، ولا يعود يقتصر الامر علي أي المطربين العراقيين هو الذي يُغني، بل هي رغبتي التي تتطلّع من ذاتها الي ذات المغني وتطالبه بأن يكشف الحب عن سره لي. وعلي امتداد عمري المدمن علي سماع الاغنيات الغريبة نوعا (ليست بالضرورة جيدة جدا من الناحية التقنية) كنت اعيش في قلب هذا التلاعب الشعوري. الشتاء، الصمت المُضمر (لا علاقة لصخب الرعد او صوت العواصف والمطر بالصمت، فهذا صمت من نوع آخر) الذي تثيره ألوانه المرمرية يسمحان بدخول محارة القلب في الدعوة الملحة للشجن العراقي، وفي اغواء التجوال دون هدف في التباسات المشاعر اللاهبة، وفي براءة ما قبل السقوط، وفي عالم العشق الذهبي، وفي الظلال والشر الجميل.لا استطيع تحديد العلاقة فعلا، بين رغبتي بالغناء العراقي وبالبلوز (زي تشارلز، فيتزجيرالد) والكردي والايراني والارمني بفصل الشتاء. لعل الامر بأسره لا يعدو ان يكون وهما، ولكن مصالحة روحية ما تكمن في هذه العلاقة، ثم ان التأكيد الحاذق من جهتي علي اختيار فصل الشتاء، امر يترفّع عن التفسير، ويناسبني تماما، وهو اكثر بهجة وتحررا من اختيار (ليس اختيارا بالمعني الحرفي ) فصل الصيف علي نحو لا سبيل الي فهمه.ما ان تبدأ سليمة مراد بـ هذا مو انصاف منك حتي ادرك انني لم أتوقف مرة واحدة عن التفكير في السر المراوغ للغرام، وأعلم انه كان قابعا في داخلي طوال الوقت. حسين نعمة لا تصلني تماما معاني اغلب اغنياته، لا افهم عراقيته المتوحشة. هذا لا يعني انني حين استمع اليه يُغني: سبتني الحلوة و فرد عود و كون السلف ينشال و نخل السماوة يكول و يا حريمة و يا نجمة لا تنتابني تلك الرعدة المتلجلجة بين البرد والنشوة.هناك ايضا لسليمة مراد باشا يانبعة الريحان . مراد وحدها تستطيع ان تقوض كل حصونك الاخلاقية في مساحات صوتها المتهتك الفخم. تقول مراد ايضا: يا الماشي الله وياك و خيه لوصي المار و أنا ياناس و خدري الجاي و علي شواطئ دجلة . يوسف عمر في علي جسر المسيّب و كليّ يا حلو ـ وهي اغنيات عرفت ترديد كل المطربين العراقيين ـ يجعلك تسعد بالسماء الممتدة فوق رأسك، تقلقلات السحب التدريجية التي تهبك المطر، فيما صوت عمر يصفو في مناخاته القائمة. اشعر لدي سماع صوته بأنني الان في الداخل أي داخل؟لا اعلم. غير انه الموضع المريح، وانني أنا نفسي جزء من العالم، حقيقية مثل حجر او بحيرة او زهرة.من المضني تعداد ما تفعله اغنيات يوسف عمر هاليلة حلوة و شلون حالي وسواها.. او اغنيات حضيري ابو عزيز سلّم عليّه بطرف عينه وحاجبه او مامرّ ولا ودعني او يا نايم الليل و اريد اكتب كتاب . الحقيقة ان تعداد المغنين العراقيين الذين احب، يُدين خفة وقتي الان، ويسلخ قلبي حزنا.ما العلاقة بين الشتاء والعراقي والبلوز فعلا؟ ولماذا اشتّمُ عطرا مُربكا تظل رائحته عالقة في الهواء بعد انتهاء الاغنيات؟ وكيف يتسني ان تحضر غابات مبللة وحقول، واتحول انا المصغية، الي فكرة تجتاز شيئا صلبا، ويغدو لكل شيء في اذني لونه الخاص، ولأناملي حرارة بيضاء، وتحلّ معجزة حدوث الاشياء التي حدثت منذ زمن طويل، ثم جسدي يرشح عجيبته، وفجأة لا تعود هناك مسافة بيني وبين أي شيء. اعلم فقط انه في المتع الباهظة غير المكلفة تكمن اللذة. من مُتعي، تلمّس الصوت الرطب لزكية جورج علي جدار قلبي. المطر في الخارج حاد يلذع الزجاج.0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية