في العراق ما يطلق عليه بالمسرح التجريبي أو النخبوي أو مسرح المهرجانات، وصل إلى منطقة الانغلاق التام على ذاته بعد أن أصابته لعنة التعالي على واقعه وجمهوره المحلي. ونخبة المسرحيين المنخرطين في هذا النمط من الإنتاج، يعيشون اليوم عزلة تامة عن الجمهور بكامل وعيهم وإرادتهم، وهم في حالة من الانتشاء والمتعة بما توصلوا إلى تحقيقه من قطيعة مع الجمهور العام في ما يقدمونه من عروض مسرحية لا ترى النور إلاَّ في المهرجانات المسرحية، بل وصلت بهم الحال إلى الاقتناع بأن عروضهم كلما أسرفت في غموضها وهلاميتها، كلما كانت الأكثر تعبيرا عن حقيقة التجربة الفنية وأسرارها. هذه الحالة تحمل بين طياتها سمات تشير إلى انكفائهم على ذواتهم وعزوفهم عن الثقة بالآخر/ الجمهور العام، وعدم الرغبة في التواصل معه، فهو لا يعنيهم طالما ينشد الوضوح والبساطة ويعزف عن التعقيد والتركيب والايحاء. إنها صورة مجسَّدة عن ذروة المغالاة والتطرف في التعبير عن التمسك بالقناعات الذاتية والدوران حول الذات بعينين مغمضتين لا ترغبان برؤية الآخر.
مسرحيو المهرجانات مصابون بوهم الشعور بالأهمية والتفوق والنبوغ، طالما أن عروضهم لا يفهمها الجمهور وتحلق عاليا في فضاءات ما يسمونه التجريب والحداثة وما بعد الحداثة. وفي حقيقة الأمر ليس بين أعمالهم أي صلة مع التجريب والحداثة وما بعدها. وإذا كنا أكثر صراحة في ما نرغب قوله، فإن مجمل أعمالهم ليست سوى محاولات متواضعة في مستوياتها الفنية طالما أنها لا تخرج عن تقليد وانتحال لعروض أجنبية مع بعض التحوير. وإذا كان هناك من يجد بين العاملين في المسرح النخبوي أسماء كبيرة وعبقرية مثلما اعتدنا أن نسمع هذه الجمل يتم تردديها في ما بينهم، فإن جولة بسيطة في عالم اليوتيوب لمشاهدة عشرات العروض الأجنبية الغربية ستجعله يصاب بالخيبة، لأنه سيكتشف عدد المنتحلين والمزورين والمزيفين من المسرحيين النخبويين العراقيين الذين يتم الاحتفاء بهم في المهرجانات العراقية والعربية، وسيكتشف غياب أي علاقة تجمع بين التجريب والحداثة وما بعد الحداثة وبين الأسماء الكبيرة التي يتم تمجيدها طالما تخلو عروضها من الابتكار والخلق، وأن كل ما يظنه يدخل في مجال التجريب والتحديث هو في حقيقته اقتفاء وانتحال وسرقة لأفكار وصور من عروض أجنبية.
من جانب آخر فإن هذه النخبة المسرحية التي تتواجد عروضها في المهرجانات الدولية، ما هي إلا أقلية منفصلة ومقطوعة الحواس مع المحيط الإنساني مُمَثلا بالأغلبية من الجمهور والبشر المتواجدين في الأحياء الفقيرة، والشوارع والأسواق الشعبية، وأمام البسطيات وأماكن عملهم تحت ظروف شديدة القسوة وهم يكافحون لكسب الرزق وتأمين لقمة العيش لأطفالهم.
ليس هناك تواصل في الاهتمامات والأفكار والانشغالات بينهم وبين هذا الجمهور الواسع من البشر، كل منهما يحيا في عالم مقطوع عن الآخر وليست هناك علاقة تجمع بينهما.
هذه النخبة المسرحية في كل ما تقدمه من عروض ليس لها من جمهور سوى نخبة المسرحيين أنفسهم لا غير، وعروضهم أشبه بحوار طرشان في ما بينهم.
لا قيمة لجوائز المهرجانات
أما عن الجوائز التي تنالها مسرحياتهم في المهرجانات فعلى الرغم من أنها جوائز حقيقية، تنالها باستحقاق بعد منافسة مع عروض أخرى شبيهة بها من حيث الفهم لطبيعة العرض وعلاقته بالجمهور، لكنها في الحقيقة لا قيمة ولا أهمية لها، طالما أن الجمهور بالمعنى الأدق والأوسع والأشمل لا يستطيع التواصل معها.
فما جدوى عرض مسرحي لا يحترم الجمهور؟ وما جدوى عرض مسرحي يعجز عن التواصل معه؟
فإذا كانوا يربأون بأنفسهم عنه تكبرا واستعلاء فهل هذا يعني أن الدورس والمناهج التي تلقوها في المعاهد والأكاديميات الفنية كانت قد شطبت الجمهور من مثلث التجربة الفنية؟
إن ما يقدم من عروض في المهرجانات يمثل تيارا مسرحيا يحمل في منهجه وأجندته الفنية نظرة قائمة على إلغاء الجمهور من تصوراته، وبشكل عام فإن اشكالية المسرح في المنطقة العربية بعد الألفية الثالثة تكمن في غياب الرؤية لدى المسرحيين في تحديد ما المتوخى من تقديم التجربة المسرحية؟ هذا السؤال يقود إلى أسئلة آخرى; إلى من يسعى المسرحي العربي في الوصول إليه، ومن هو الجمهور الذي ينشده؟ وماذا يريد منه عند تلقي التجربة في أي عرض مسرحي؟
أن معاينة الظاهرة المسرحية في العراق خلال العقدين الأخيرين تشير إلى حصول انحراف حاد في بوصلة المسرحيين، من حيث فهمهم للمسرح وعلاقة ذلك بالجمهور والغاية من تقديم عرض مسرحي. هذا الانحراف في المفاهيم، في ما لو قارنته بما كان عليه المسرحيون في القرن العشرين، بكل الاتجاهات المسرحية التي شهدها المشهد المسرحي العراقي سيصل بنا إلى نتيجة تشير إلى أن مسرح القرن العشرين كان يولي أهمية كبيرة لعلاقته بالجمهور، حتى في العروض التي تحسب على المسرح الطليعي والتجريبي بكل أشكاله ومدارسه، وهذه هي العلامة الفارقة التي تميز مسرح الأمس عن مسرح اليوم.
فمسرح اليوم قد فرض طوقا من العزلة على نفسه بوعي من العاملين فيه وبكامل إرادتهم، وليس خضوعا لسلطة قاهرة وبوليسية تراقبهم وتحسب أنفاسهم كما كان عليه حال المسرحيين في القرن العشرين. ومسرحيو اليوم أشبه بالمصابين بمرض التوحد، تجدهم يعيشون عالما لوحدهم، وصلة التواصل مقطوعة بينهم وبين الذين يعيشون وسطهم، وتصدر عنهم أفعال غريبة يصعب فهمها وتفسيرها.
فما جدوى مثل هذا المسرح إذا كان غريبا عن الحياة الواقعية في شكله وأسلوبه والموضوعات التي يطرحها؟
جيل الرواد والجمهور
أن جيل الرواد المؤسسين في العراق كانوا على قدر كبير من الوعي في فهم التجربة المسرحية باعتبارها علاقة وثيقة مع الجمهور، وهذا ما يتضح في طبيعة الموضوعات التي كانوا يتناولونها والأفكار الجريئة التي يطرحونها، وطبيعة الأساليب الفنية التي ينحازون إليها في تقديم تجاربهم. وليس غريبا أن نجد مسرح القرن العشرين يحتفي بالجمهور مثلما بالمقابل يحتفي به الجمهور، فقد كانت الصالة يجلس فيها شرائح اجتماعية مختلفة، ولم يكن الحضور مقتصرا على نخبة المسرحيين الأكاديميين من زملاء ومعارف وأصدقاء مقدمي العرض وأصدقاء أصدقائهم.
ما بين الأمس واليوم مسافة فاصلة، تغيرت فيها الاهتمامات والمفاهيم والذائقة لدى المسرحيين وجمهور الأغلبية، وإذا كان هناك من خلل قد حدث في العلاقة بين الطرفين، فالمسؤولية تقع على المسرحيين، فهم المعنيون أولا وأخيرا في أن يبحثوا دائما عن كل ما من شأنه أن يديم التواصل مع جمهور الأغلبية، ولن يكون البحث عن التجديد والتحديث والتجريب إلا دافعه الجوهري الحفاظ على العلاقة وثيقة وفاعلية مع الجمهور.
ولو أعدنا قراءة التجارب الأجنبية في البلدان المتقدمة مسرحيا، سنجد أن معظم فلاسفة المسرح من المخرجين أصحاب الرؤى والأفكار التجديدية والغريبة والمدهشة، يضعون الجمهور في أولى اهتماماتهم، أولا لأن العمل بدون الجمهور يعني خسارتهم المادية وإفلاسهم وعدم قدرتهم على الاستمرار في الإنتاج، والأمر الثاني أنهم ينظرون إلى الجمهور باعتباره المختبر الذي يكشف خفايا تجربتهم، وجدوى الوسائط والأساليب التي يبتكرونها في إيصال خطابهم الفني.
أيضا ينبغي أن لا ننسى مسألة بغاية الأهمية عندما نقرأ التجارب المسرحية في الدول الأجنبية وخاصة في أوروبا وأمريكا، والتي نقصد بها الفارق في مستوى التعليم لدى الجمهور بيننا وبينهم وهذا الفارق ليس مرتبطا بأسبقيتهم وريادتهم في الاهتمام بالتعليم، إنما في طبيعة المناهج الدراسية نفسها، فالأطفال من المراحل الأولى يقرأون النصوص المسرحية، وتقودهم المناهج الدراسية إلى فهم تقنيات النص، وعناصره الفنية التي تميزه عن غيره، وسيكون من الطبيعي أن الوعي والذائقة العامة للجمهور يتوفر فيها قدر مهم من المعرفة بآليات وتقنيات التجربة المسرحية، من هنا فإن التواصل سيكون قائما بدرجة مقبولة بين الجمهور وأي محاولة مسرحية فيها من التجريب ما يشط بها بعيدا عما هو قائم من أساليب متداولة. فهل هناك أي وجه للمقارنة بيننا وبينهم من حيث المناهج التعليمية؟
لابد للمسرحيين أن لا يتجاهلوا واقع مجتمعاتهم العربية التي تعيش حالة ارتداد وتراجع في مستوى الوعي والحياة بكافة أوجهها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأن لا يسقطوا في وهم التفرد والمكانة العالية بالشكل الذي يجعلهم هذا الشعور المتضخم للأنا ينظرون باستعلاء إلى الجمهور ويحملونه مسؤولية عدم استيعاب وفهم تجاربهم.
لقد كان رواد المسرح الأوائل، يوسف العاني وقاسم ومحمد وسامي عبد الحميد وابراهيم جلال، على قدر كبير من الوعي في فهم مقتضيات التجربة المسرحية من حيث العلاقة مع الجمهور، ولهذا تمكنوا من إنبات ظاهرة المسرح الغربية في مجتمعهم وتمكنوا من أن يكسبوا جمهورا عريضا يمثل المثقفين والعمال والفلاحين والكسبة وربات البيوت، وعروضهم بقدر ما تحمل تطلعاتهم إلى التجديد في الشكل والأساليب، كانوا يضعون في اعتبارهم أن تكون الصلة حيوية وقوية مع الجمهور ولم يضعوا في حساباتهم أن يكسبوا رضا وقبول وتصفيق زملائهم أو نخبة المثقفين.
ليس في عروض المسرح اليوم إلا ما يعد على أقل من أصابع اليد الواحدة ما يضع في الاعتبار أن يتواصل مع جمهور الأغلبية، طالما الوصول إلى المهرجانات الدولية هو المعيار والمقياس الذي يحدد قيمة وأهمية ونجاح أي عرض مسرحي لدى المسرحيين، فالمهم التواجد في المهرجانات والتنافس على الجوائز، أما الجمهور فلا وجود له في قائمة الاهتمامات، وما يؤكد على ذلك أن جميع العروض التي تقدم في المهرجانات لا تستطيع الصمود أكثر من يومين في ما لو تم عرضها أمام الجمهور على خشبة المسارح بعد العودة من المهرجان. فهل يمكن أن يكون مسرحا إذا كان عاجزا عن الاستمرار في العرض واستقطاب الجمهور لمدة ليومين بينما استغرق العاملون فيه على التدريب والتمرين لفترة زمنية لا تقل عن شهر أو شهرين؟
معظم هذه العروض تعتمد على تمويل الدولة أو جهات داعمة، ولهذا لا تضع في اعتبارها الجمهور، طالما أنها قد ضمنت التمويل الخارجي، ولا يشغل تفكيرها كيفية استرداد رأس المال وتحقيق قدر من الربح حتى تتمكن من إدامة عملها واستمراره، وبكل صراحة إنه مسرح يعتاش على الأموال التي تُغدق عليه بالتالي تذهب هدرا بدون أن تحقق غاية تنويرية في مجتمعاتها.