مسرحي نرويجي: أنا لست من الغرب الحاقد!
بعد الضجة في الاردن حول مسرحيته:آرلنك كتلسنمسرحي نرويجي: أنا لست من الغرب الحاقد!في سابقة لم يشهدها المسرح الأردني من قبل، شهد عرض (في السماء.. اضطرابات عقلية) للمخرج محمد بني هاني ضمن الموسم المسرحي الأردني الماضي جدلا واسعا حين ادعي بعض الفنانين الأردنيين مساس العرض بالقيم الدينية، مؤكدين فيها أن المسرحية حملت فكرا الحاديا وكفرا وتجاوزات علي الذات الالهية .بعد أن سمعت وعايشت يومياً ما حدث للمخرج الأردني الشاب محمد بني هاني وبعد أن أطلعت علي ما كتب في الصحافة وما تبرع به البعض في كيل الاتهامات في الإنترنت، وجدت أن من حقي أن أدلي بدلوي في هذا الموضوع، لأنني مؤلف المسرحية التي اتهم مخرجها محمد بني هاني بسببها. وأظن أن الجو السياسي والاجتماعي في العالم العربي مشحونٌ بالظلم والشعور بعدم العدالة. ولذلك فالعرب اليوم أكثر حساسية في أمور تخص الدين والتراث من غيرهم. ولذلك تتلون ردود أفعالهم فكرياً وسياسياً بهذا الجو. ومن المؤسف أن عالمنا الغربي قد خلق علاقة متأزمة بين الشعوب تجعل العرب يجدون صعوبة في التمييز بين الصديق والعدو. ولأنني أتحدث عن مسرحية كتبتها أنا ، فإنني أؤكد أنني لست من هذا الغرب العدواني الذي يؤمن بالاستعمار ونهب الشعوب ويعتمد علي القوة العسكرية بدلاً من الحوار المفتوح الذي يخلق فضاءً للعدالة والتألف والتعاون. وكمثقف من النرويج فأنا ناقد للثقافة الغربية لأنها ثقافة تخلق جداراً يعكس صورة الذات بدلاً من رؤية الآخر حاضراً في الذات ومساهماً في الحضارة الإنسانية.الموت: ومسرحية (في السماء) لا علاقة لها بالاسلام بالمطلق. لقد كتبتها كنقد للمجتمع الغربي ولجمهور نرويجي. إنها مسرحية غير ملحدة. ولكنها بنفس الوقت لم تتناول قضية الدين، بل المجتمع وهي لا تتعارض مع الإيمان، لكنها لا تنسجم مع أسطورة الموت في الحضارة الغربية. فالحياة والموت في الغرب المادي هو مثل زر الكهرباء الذي حين يُضغط ينقطع التيار الكهربائي عن الجهاز ويتحول بذلك الي حجر جامد. أما الموت في مسرحية (في السماء) فهو حياة أخري، بل جزء من حياتنا وحقيقة تعيش بيننا. الحياة والموت بُعدان في حقيقة هذا الوجود. لقد فتنت بالإرث السومري أساس حضارة العراق والمتوسط. وفي الإسلام يعيش الأموات حياة أخري: منهم من يعاني ويتألم، ومنهم من يتنعم في حياة باذخة. هذا البعد ألغته الحضارة الغربية. فالموت فيها هو العدم الأبدي. المسرحية تتناول الموت في محاولة لإحياء بعد غائب عن عالم المادة الغربي. فهي لا تتناول قضية الله. لكنها لا تتعارض مع الإيمان به. وإذا كان ثمة من سبيل الي تأويلها فهي في موسيقاها الداخلية تدعو الي الإيمان، تدعو الي التسليم بالآخر الكبير، تدعو الي الحب. والله خالق نظام محبة… ولذلك يجدر بالإسلاميين أن يكونوا اول من يدافع عن مخرجها محمد بني هاني لأن في داخلهم قوة عادلة تنادي بالخير للجميع وتكافح ضد الفساد في الأرض وتدعو الي التآلف والتعاون والمشاركة في المسؤولية العامة. أليس هذا ما قاله الرسول محمد عندما وعظ حوارييه من أن المجتمع البشري كأنه علي ظهر سفينة كل منهم يملك جزءا منها. لكنْ لا حق لأحدهم في أن يثقب السفينة في الجزء الذي يملكه لأن ذلك سيغرق السفينة ومن فيها. حبكة المسرحية: ثلاث نساء مختلفات. كل منهن اتخذت طريقها في التعبير عن حبها. وكل منهن لها فضاؤها. الحب يرتبط بسياق الفضاء. الحب هنا في مسرحيتي ليس عاطفة. بل قابلية علي وصف فضاء الحياة بشكل صادق وواقعي. الحب خرق لقوانين المجتمع الظالمة. فكما يرغب الإسلاميون في تغيير المجتمع أكافح أنا من خلال الدراما الي تغييره. ولكن: كيف أحاول تغيير العالم؟ هذا هو جنون الإبداع والذي يختلف عن الذين يمارسون الجنون كهواية.الأساس الفلسفي للشكل: المسرحية عرضت في بيروت. البروفسور العراقي عوني كرومي هو الذي أخرجها آنئذٍ. ومن هناك انتقل عرضها الي مهرجان القاهرة. وحصلت علي نقد جيد ونالت إعجاب الكثير من النقاد. السبب في ذلك هو أنني حملت رسالة المسرحية من خلال شكلها اللغوي. فقد تحديتُ قواعد لغتنا والمفاهيم المعتادة. جعلت اللغة تلقائية ومحتواها مباشرا، لكنني جعلت أقول الأشياء بطريقة غير متوقعة. فالشكل يفضح الأشياء التي جمدت وتكلست في العادة. الشكل يفسر الأسطورة في الدراما ويخلق فضاءً جديداً. وبهذه الطريقة دخلت الي المشكلة الجمعية التي ربما لم يتناولها الآخرون سيما في عالمنا الغربي. مع ذلك فهي تتناول المشكلة الجمعية للنظام الغربي: فالمجتمع يجيب علي أسئلة معروفٌ جوابها مسبقاً. السؤال يحمل في طبيعته جوابه. لذلك فإن حضارة لا تسمح بطرح أسئلة خارج نظامها تعيش أزمة يمكن أن تصيبها بالتلاشي والتدهور. ومن جانب آخر إن فينا شيئا يؤمن بشيء آخر لا يمكننا التحدث به. أريد خرق الحدود التي وضعتها حضارتنا الأوروبية في داخل الإنسان. ففي تلك الحدود شيء مكبوح ولا يُسمح في التعبير عنه…طبعاً النص الدرامي الذي كتبته مفتوح للتأويل. والتأويل من حقوق المتلقي والمشاهد والمخرج ومن حق الأستاذ المخرج محمد بني هاني.المخرج: التقيته في بيروت. كان طالباً ومن أحد الممثلين المسرحيين عندما أخرجت المسرحية في بيروت. لا أزال أذكر بيروت وذلك المقهي الذي جمعني بهذا الشاب المتميز. كان شعلة من الذكاء يحمل كل تعابير العربي النبيل من الفطنة والأدب والكرم والمسؤولية. ولا تندهشوا من هذا الوصف للعربي. إن ما يخلقه الإعلام الغربي من صورة للعربي هو محض دعاية لا تنسجم مع الواقع. وليس كل الأوروبيين يؤمنون بهذه الصورة. فالعربي مظلوم من قبل الإعلام. والبعض من الجهلة من يساعد الغرب علي خلق انطباع كهذا. لكن محمد بني هاني كان ذلك الصنف من البشر ممن يحطم أساطير الغرب. ظننت في البداية أنه فلسطيني لأننا أبتدأنا نناقش قضية فلسطين والاحتلال وكان متحمساً. فقلت له:ـ أنت تذكرني بصديقي عزت الغزاوي. وعزت كان رئيس اتحاد كتاب فلسطين ومن قادة الانتفاضة وقد رحل عزت الي رحمة الله. وعزت هو الذي نشر المسرحية (في السماء) لأول مرة بالعربية في مجلته آنئذ في فلسطين. لكنني عندما سألت محمد بني هاني عن سبب ولعه بالمسرح أجابني: ـ لأنني أعشق بلدي الأردن والمسرح أداتي في خدمة بلدي. عندئذٍ عرفت أنني ألتقي بأول صديق أردني لأن أصدقائي هم فلسطينيون وعراقيون ومغاربة. وأصدقائي هؤلاء فتحوا لي نوافذ عشق علي بلدانهم ، فأحببتهم وكتبت عنهم شعراً. ولذلك فعندما قرأت في الإنترنت اتهام محمد بني هاني بأنه كافر ويخدم الغرب، حزنت. أصابتني صدمة. ذلك لأن من كتب ذلك يجهل حقيقة مؤلف المسرحية. فأنا من ناقدي الغرب: نظامه وسياسته الخارجية. أنا أول من كتب شعراً عن الإبادة الأمريكية للفلوجة وأول من بكي علي أطفال العراق في شعري. مجموعتي الشعرية الأخيرة مكرسة للهموم الانسانية ونقد فاعليها: كتبت محارباً العنصرية ومدافعاً عن أصدقائي المهاجرين المسلمين في النرويج ونقدت في شعري الرئيس الأمريكي بوش. وحروبه. نعم… أنا أعيش في الغرب لكنني خارج نظامه الفكري. وأنا لست ملحداً بالمطلق. إن العالم والشاعر والفنان يعرفون الله بغريزتهم من خلال الابداع. فالله أعظم مبدع. والحضارة التي لا تؤمن بوجود من لم تكتشف بعد، انما هي حضارة محدودة الأفق. عندما كنت في الباكستان بدعوة لاحتفال شعري لاحظت أن أصدقائي الباكستانيين يسألونني عن ديني وإيماني. وعندما عرفوا أنني أؤمن بالله طلبوا مني الذهاب الي الكنيسة في باكستان. إنهم لم يطلبوا مني التحول الي الإسلام بل الذهاب الي كنيسة. وهذا التسامح هو الذي شجعني أن أصرح لهم أن الله الذي أؤمن به موجود في كل مكان.. وهو إله بلا حدود ولا تحده جدران الكنيسة أو الجامع. الله أقرب الي من مجري دمي. وأنا قد ترجمت الصوفي الكبير عاشق الله جلال الرومي الي النرويجية. ولذلك دهشت عندما سمعت بأن محمد بني هاني الذي يعتز بإسلامه يُتهم بأنه يحمل مقاصد إلحادية من خلال اختياره لمسرحيتي. وعندما سمعت الخبر حول المسرحية لم أصدق. ظننت أنها مزحة من صديقي العراقي الذي ترجم المسرحية الي العربية . لأن المسرحية لا علاقة لها بنقد الدين. إنها تتناول نقد الغرب والقيم الواهية التي بني عليها النظام الغربي. وربما أوّل المخرج بني هاني المسرحية بحيث أنها تتناول نقد المجتمع العربي؟ هذا حقه الطبيعي. فالمجتمع العربي لا بد من أن يمر في مخاض التطور والتحرر من محتل أو جبار، من ظالم أو قامع لحرية شعبه. وهذا بالضبط ما يطمح إليهِ الاسلاميون في عالم العرب اليوم ليؤسسوا مجتمعاً علي أساس بنيان صلد من قيم العدالة. لذلك أجد صعوبة في معرفة أسباب ردود الفعل علي المسرحية.ولا أظن أن من يرمي الآخر بالكفر ويشكك بإيمان وقناعات الآخرين يعبر عن شيم العروبة والاسلام. المسلمون حملوا مشعل الحضارة الي أصقاع الدنيا البعيدة من الصين الي الأطلنطي. إنهم ضحوا بحياتهم، لا بدافع إبادة الكفار لأنهم يكرهون الكفار . فالكراهية لا تبني حضارة. بل إن بناة الاسلام الأوائل كانوا يحملون النور والحب الي إخوانهم في الانسانية وراحوا يحملون مشروع حياة لهم، لا مشروع موت. ولذلك تحدثنا كتب التاريخ أن المسلمين كانوا يحملون معهم التسامح والعدل والنور والعلم أينما حلوا. إن الحركة الاسلامية في العالم العربي هي حركة مطالبة بالعدالة. والعدالة هي مطالبة بالتسامح والعيش المشترك. ولذلك أتمني أن لا تتهاوي هذه الحركة الي العنف والظلم. إننا في الغرب تختلف نظرتنا الي هذا المد الذي يحمل الاسلام كسبيل للمستقبل: فهل سيكون مستقبل المسلمين مظلماً أم سيكون مشرقاً؟ الإسلاميون بسلوكهم هم الذين سيحددون الجواب، أما القدر الذي نقدتُهُ في مسرحيتي فسيكون خارج التاريخ. لأن الإنسان المسلم هو الذي سيصنع تاريخه بنفسه. ولأن مستقبل الشعوب اختيار جماعي.الحوار: ورغم أنني أؤمن بأن النقاش والحوار يأتيان بالثمار المرجوة، لكنني أؤمن أكثر بالحوار في اللقاء وجهاً لوجه. فكما أن الاعلام الغربي يسقط في هوة التعميم، فإن المسلمين أيضاً يفقدون بعض الأحيان في تعميمهم أصدقاء لهم في الغرب. إن ثمة في الغرب جانبا إيجابيا كان موجوداً في أيام حضارتكم الاسلامية: هو التسامح وتقبل الاختلاف. التسامح جعل الشعراء يهجون بعضهم البعض أمام الخليفة. والتسامح أنتج مدارس الفقه العديدة التي احترمت بعضها البعض وتسامح معها السلطان والناس. واليوم يقف المبدع الشاب محمد بني هاني في مجتمعكم وقفة شجاعة .. لذلك فأنا أتساءل: كيف ستعاملون مبدعيكم؟ هل سيستمر في عمله الابداعي ليخدم من خلالهِ وطنه؟ أم أن المبدعين لديكم يضطرهم الجهلاء الي ترك أوطانهم تحت الضغط والمضايقة والمنع والرقابة والتهديد؟ إن المبدع هدية الله لشعبه. والهدايا لا تقدم إلا بالمناسبات.أنا علي استعداد تام للقدوم الي الأردن لأتعرف علي أصدقاء جدد وألتقي بهم لنتحدث عن المسرحية، لكي أستطيع الدخول في أبعاد الآخر والتلاشي فيه. فهل سأجد من يحاول الدخول في أبعادي؟شاعر ومسرحي نرويجي0