مسافة بين السيرة وغموض الوعي بالشعرية!

حجم الخط
0

مسافة بين السيرة وغموض الوعي بالشعرية!

حائط مشقوق لنجاة علي:مسافة بين السيرة وغموض الوعي بالشعرية!القاهرة ـ القدس العربي ـ من محمود قرني: الصورة شديدة الرومانتيكية التي تتصدر الديوان الثاني للشاعرة نجاة علي، لا تعبر بحال عن مضامينه الأكثر عنفا وغرائبية وتركيبا، وربما كانت اللوحة هي أولي المداخل الخاطئة للديوان، في سياق الاساءات المتكررة التي تهديها هيئة الكتاب المصرية لكتابها وفنانيها ومفكريها، بحيث وصلت صناعة الكتاب علي أيدي جيلها الراهن الي أقصي حالات تدهورها ورداءتها، ولا يحسب القارئ أن ثمة شططا في الاشارة الي هذه المسوخ حال تناول ديوان شعري جديد صادر عن احدي السلاسل المهمة التي تصدرها الهيئة ، وهي سلسلة كتابات جديدة التي تترأس تحريرها الآن الشاعرة سهير المصادفة والتي أمست احدي الكبار في الهيئة، دون أن تحسن ـ في الكثير من الحالات ـ الي هذه المساحات الواسعة من السلطوية التي تقاربها ساعة بعد ساعة، فالاخراج الأشد رداءة بين كتب الهيئة كان من نصيب هذه السلسة الفقيرة التي تتبني علي الأغلب أصواتا شبه طالعة قيد التكوين، رغم أنها في عهود سابقة نشرت مختارات ودواوين وقصصا وروايات لمبدعين استقرت أسماؤهم في ساحة الابداع العربي، ورغم ذلك لا أحد يعير انتباها للتردي الذي بدأ من كارثة الشكل الي كارثة المضامين، حتي باتت الهيئة كلها جزءا لا يتجزأ من كارثية الثقافة المصرية في سنواتها الراهنة.أعود الي غلاف ديوان نجاة علي حائط مشقوق هذا الغلاف الأزرق الباهت ، حيث تتوسطه لوحة شديدة الرومانتيكية، تجاهل المخرج الفني للكتاب أن يذكر اسم صاحبها.اللوحة يقف علي يسارها عامود له رائحة الأثر وتبدو من خلفه فتاة رائعة الجمال شبه عارية، تضع أصابعها الشمعية أسفل ذقنها، وتتأمل البحر والمساء الخاليين الا من زرقة السحب والصمت الأكثر شاعرية وتطوحا وابتهالا.هذا المزيج من التعبيرية التي تشق الواقع شقا وتقف الي جوار الوضوح كتفا بكتف، تبدو وكأنها النقيض الملغز لتركيبية ديوان نجاة علي، وكأن اللوحة أو من اختارها أرادا معا أن يقولا رأيا صامتا فيما يحتويه الديوان، وهو استقراء مبكر لما يمكن ان نسميه تأليف الروابط غير المؤلفة علي طريقة تأليف القلوب غير المؤلفة أيضا.ومع ذلك فان ديوان نجاة علي يظل صاحب زخم مائز وملون، رغم ما أرادته له هيئة الكتاب. فالشاعرة صاحبة الحائط المشقوق تبدو أكثر انخلاعا من جذرها الشعري التقليدي الراسخ، وتبدو الي جوار رفيقاتها ورفقائها علامة مثيرة علي الحنق الذي أصاب كثيرين من سطوة ماضيهم، وها هم يحاولون جاهدين رسم صورة جديدة من ركام ما خلفه غبارهم وغبار أسلافهم، دون تجاهل ما أسفر عنه هذا الغبار من أوشاب وأعطاب في الرئة التي تتنفس.اذن تنطلق نجاة علي من الخروج الساخر علي ما اقتضته الطبيعة الواقعية المباشرة للفن عكس ما أرادت لوحة غلافها في المقام الأول، وفي المقام الثاني هي تحاول جاهدة رسم صورة أبعد قليلا من مباشرة اليومي السردي وسطحيته.. محاولة النفاذ الي جوهر الشعرية عبر النفاذ الي جوهر المأزق الوجودي مباشرة، لذلك تبدو سرودها أكثر تعلقا بما هو أبدي وسرمدي في التجربة الانسانية وفي المقابل لا تتبدي تجربة الشاعرة كثوب مهترئ تخرقه ذكورة النمط لاجتماعي الأكثر كابوسية، علي العكس تماما تبدو الشاعرة أكثر عنفا مما يمكن أن نتوقع لشاعرة ناعمة في مجتمع يتحسس أنوثتها ظاهريا ويمتهنها باطنيا.وأستطيع أن أستشعر الكثير من هذا العنف الذي يصل الي أبعاد دموية أحيانا في كثير من نصوص الديوان، الذي بدأ من كونه حائطا مشقوقا علي ما في العنوان من دلالات متعددة ومتراكبة، فلا نعلم اذا كان الحائط مشقوقا بسبب قِدَمِه، أو هو مشقوق في عدسة الرائي فحسب، كما لا نعلم ما اذا كان الشق الذي ميز صورة الحائط هنا هو القدر نفسه الذي يمثل فرقا جوهرياً بين البني المتراصة في الوعي الانساني لعلاقة بشرية منتظمة ومتسقة، أو هو الشق الذي يعبر عن انهيار كلي لمنظومة قيمية تتبدي جلية في الرصد الحزين والمعتم للشاعر عبر قصائد ديوانها.ان نجاة علي الأقل طنطنة بين بنات جيلها عن الشعر وعن المنظومة الحقوقية للمرأة بصفتها كائنا مقموعا، تبدو الأكثر جذرية ووعيا في موقفها الشعري سواء كان ذلك علي المستوي الحالي من زاوية النظر الي الكيفية التي تقع بها علي أقانيمها الشعرية، أو علي المستوي الشكلي الذي حدد انحيازها لقصيدة النثر منذ ـ أن دلفت الي حقول الشعر الشائكة.تبدو الشاعرة في ديوانها أكثر استمساكا بصورة قديمة للرجل أو لفتاها القادم من بيئة لا تتمني الاقامة فيها، فالرجل القديم الذي تشير اليه القصائد، ليس شابا فنيا بالضرورة ولكنه وتر مشدود الي المعني، معني الذكورة التي تفتقدها الشاعرة، رغم أنه ربما يكون رجلا ميتا أو في عداد الموتي، أو هو رجل قابل للاستقطاب مما يحيل الي فعل الخيانة بمعناه الأخلاقي، وربما هو رجل مهزوم كالجنرال الذي حمل عناوين أول قصائد الديوان الذي يمثل صورة الأبتقول نجاة في قصيدة الجنرال:تأخر كثيرا عن وعدههذا الجنرال الطيبالذي يشبه أبيسيبدو رائعا هذا المساءفي حلته الرماديةكأن الموسيقي تعزف فالس الربيعله وحدهوكأن الحفل منعقد من أجله .ولكن الي أي مدي تستطيع صورة الجنرال/ الأب أن تصمد في مواجهة سؤال القوة، سؤال الشعر، سؤال الحياة والموت، سؤال العاشقات الجميلات اللائي أضعنه، وسؤال الحروب التي خاضها مضطرا كما تشير نجاة علي.انه الجنرال الذي أصبح وحيدا، أصبح حقلا للوحدة، ومن ثم فهو يعيش أيامه ينتظر الموت.تقول نجاة في ختام قصيدتها: لا حاجة به اذنلأن يقاطعهذه الكائناتالتي لا تسلي وحدتهصارت الآن تشبهحياته العاريةوالتي تدربه جيداعلي البكاءقبل أن يتهيأ للموت .تنتقل نجاة علي بصورتها التي تبدو أكثر تشوشاً من مرفأ الركون الي الصورة المتكلسة للعاشق، الي صورة تبدو أكثر عنفا، تبدو مرجعيتها شديدة الاتصال بالكتابة الهستيرية، أو التأملات العالقة بالسرد الآلي أو الكتابة المشوشة كما يراها السيرياليون، ويتبدي ذلك جليا في سياق العديد من قصائد الديوان وبينها قصيدة وجوههم في اتجاه الحائط عن هذه الشهوانية الخائبة التي قتلت نفسها شهوة حيث: لا تدهشها أعضاؤهاالمتساقطةولم تعد تخاف في سطوة الشتاءالذي لا ينتهيوصارت لا تكلم أحداالا الله هذه الصورة الأكثر عنفا تتكرر في القصيدة التالية مباشرة المحترفة.. أهرب من صورتها حين تلجأ الي وكأن القصيدة استكمال لسابقتها، حيث تبدأ من حيث انتهت هذه المرأة الشهوانية التي باتت لا تكلم أحدا الا الله، حيث تتصدر ملامحها مطلع القصيدة، لكنها في هذه المرة ليست بمنأي عن غريمتها / الشاعرة، بل هي تجلس الي جوارها، وكأنها في هذه المرة تؤكد علي أن التحولات التي لحقت بالقصيدة الأولي عبر ضمير الغائب، ليست هي التحولات التي لحقتها بفعل ضمير الأنا/ أو المخاطب، فهي هنا المحترفة الي جوار صديقتها تجلس فرحة بصيدها الجديد، وما من مغزي لوقوعها فريسة لمرصد رفيقتها التي تتفرج عليها وهي تظفر بقنص حبيبها منها سوي أنها ارادة أخري تلتف علي الجانب لتحوله الي مقتول، وكأن عيني ميدوزا في الأسطورة اليونانية تمتدان الي الحياة فتجمداها لتتحول الي حجر، والمعني النقيض يقتضي النظر في هذه الاستعلائية التي فصلت ـ عبر سنتميترات ـ بين الجلاد والضحية، أو بين القيمة وعلامات زوالها. تقول الشاعرة: كنت أتسلي فقطبأن أسخر منهاومن الولدوأعد السنتميتراتالتي تفصل بينناوأتأمل ثقوبا قديمةتتوهجبصدرها العاري .وعلي ما يبدو فان الاختزالات التي تسقطها النصوص من عبارات الانشاء والترهل تبدو مدببة في القضية المحكمة التي لا يأتيها قدر آخر تحكمه المصادفات، بل هو قدر محكوم برغبات احترافية علي القتل، وهو المعني الذي لم يكن مستبطنا في النص بل أفصحت عنه الشاعرة بشكل جلي، وكأن لعبة الاتصال الانساني بمواقع وجوديته محكومة بقدر آخر هو مدي قدرتنا علي صناعة الخيال الذي يحكم تصوراتنا عن أخطائنا.ان فضيلة الخيال هنا أنه يلعب دورا بالغ الحساسية، باعتبارها محكمة الميتافيزيقا ومحاكمته في نفس الوقت، أو هو محكمة تقابلها منظومة القيم الانسانية في تغيراتها وتبدلاتها.لذلك تبدو القصيدة وهي تقيم محكمة للغرماء وكأنها ماضية في اصدار أحكامها المبرمة والانتهائية، كبديل للجنون والقراءة السيكولوجية هنا تشير الي أن عمل العقل الباطن يستدعي ـ لكي تستمر الحياة طبيعية ـ آلاف الصور المكثفة التي تلعب دور المجرم أحيانا ودور الراهب أحيانا أخري، لذلك ربما بدا النص من هذه الناحية علاجا لهذا الشتات، أو هو صورة مركبة للمارد الجاني دائما.لذلك تختتم نجاة علي قصيدتها قائلة: صرت الآنأهرب من صورتهاحين تجيء اليفي الحلمبعينين ذابلتينوجسد نحيلبعدما احترفت سرقةعشاقهالأتولي تعذيبهمبدلا منها .وربما كشفت القصيدة القصيرة مفصلة عن تعزيز موقع المارد في نصوص نجاة علي، بل هي تعزز مشاعر أكثر حدة من ذلك، في سياق التغييب العلني والقسري لرومانسية قصيدة النثر الرائقة، التي تبحث عن فرديتها وسط ركام الخطاب الجماعي، فهل يمنح هذا التغييب القسري للشاعرة الحق في اقامة مقصلتها.. تعالوا لنري.تقول قصيدة نجاة: هؤلاء الملاعينلم يعودوا صالحينلشيءسأرفعهم الي المقصلةولن أتسامح مع أحدولا حتي هذا الولدالذي يحمل صليبهمن أجليمنذ خمسة أعوام .وأظن أن الاستظهار الأولي الذي تمنحه لنا المقصلة بقسوتها الدالة، يبدو مدببا الي حد غير محتمل ربما لأن الفعل هنا يغيب عنه التاريخ الشخصي/ الشعري الذي يبرره، ولا ينفع الشاعرة في ذلك أن يبرر عنفها المجاني بأسئلة غيبها النص حتي بدا كلوحة غير مكتملة للمشاعر لمناهضة اللاشيء.أيضا تتنامي مشاعر الكراهية في قصيدة مسافات للحزن لكن هذه المشاعر تجيب عن سؤال افتراضي لم تطرحه القصيدة بالأساس، لكنه سؤال يغني اللوحة، عندما يبني الكراهية علي أسباب حاصلها فعل المعرفة، ما الذي يؤازره حزن اكتشاف الحقيقة وتعريها:تقول الشاعرة:سأضع بيني وبينكمسافاتثم أملأها بكراهيةلا يطفئها شيء.أو ربما بحزن ينموفي رئتيـ دون توقف ـ كي أراك جيدا .وتتنامي ـ في تناقض ـ غير يسير، مشاعر مُنْبَتَّة وقطعية في قصائد الديوان الست عشرة، وكأن النقائض هنا تستظهر بواطن الفعل الشعري.وفي الاجمال تبدو المشاعر المترفة البوهيمية التي صاحبت قصيدة النثر، متوارية عن شعرية نجاة علي، فهي ـ دون رطانة ـ تجدد اتصال حبلها السري بالماضي والحاضر، ولا تري في الشيوع الذي صاحب نمطها الشعري فضيلة كبري تقتضي الاستنامة الي ما أفرزه الأقران لذلك فهي تنهض بمشكلات تبدو في سلم الابتداء فريدة ونفقية، وتشي باقتحامات قادمة، لا سيما وأن حائط مشقوق هو الديوان الثاني للشاعرة.وربما ـ بكثير من الابتسار ـ نستطيع القول أن شعرية الديوان ليست نقية من أوشاب الأسلاف ولا خُطاهم، فعلي قدر الانحراف بالغرض الشعري، كان هنا ركون الي نموذج ليس شائعا بالضرورة، هذا النموذج أنجزته القصيدة التعبيرية الفضفاضة والمحتمية بالسؤال، وكذلك القصيدة الرومانسية، في شكليهما الغربيين، وان كان نضال الشاعرة في ديوانها يبدو أكثر قوة في مقاومة هذا الماضي كلما كانت أكثر اقترابا من ملمح المكان ومن السيرة الشخصية، وهي مناطق لم تشبع شعرية الديوان، حيث كان الصوت الأكثر سيطرة بيد النموذج الذكوري الذي سبق تجسيمه بخشونة ودموية، وكذلك النموذج الأنثوي الذي يبدو جارحا في سفوره.ولا أعرف ما اذا كانت الشاعرة واعية بتغييبها لعنصر المكان، وما هي القوة الكامنة خلف نزوعها لغرائبية الصورة الشعرية وهي صورة ممتدة وكلية، والغرائبية هنا لا تتعلق بدرجة المفارقة التي ترسخها الصورة، بل تتعلق باغترابها في الذائقة العامة، التي تكشف آليات وعيها عبر أسئلتها الخاصة التي لا يمكن أن نجدها في ثقافة الآخر بنفس الدرجة من الاتساق.في النهاية ـ ورغم كل الملاحظات التي علي الشاعرة ان تخيط منها ثوبا سقراطيا أقل عنفا ـ تمضي شعرية ديوان نجاة علي حائط مشقوق الي ما شاءت ارادتها الشعرية من تمايز وصفوية، فالديوان يعكس شعرية غنية بالتجربة المحتدمة والمتبسطة بعوامل لا بد أنها ستفصح عن نفسها، عندما تتيقن الشاعرة من أهمية عناصر خصوصيتها، سواء كانت هذه العناصر مرتبطة بما هو خاص كالسيرة الشخصية التي يجب أن تكون اكثر افصاحا وأشد تعرية وعراء، وكذلك مثل عنصر المكان الذي لا يمكن فصله عن هذه الشخصانية، وكذلك ما يتعلق بما هو عام، مثل اعادة النظر في مستويات اللغة وقدراتها التعبيرية واكتشاف طاقاتها الكامنة، ولا أظن ذلك يمكنه أن يتحقق تحت وطأة المفهوم السائد عن اللغة الانعكاسية.0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية