مدن العواطف… أفكار حول التغيرات الحضرية والتدين

على امتداد سنوات طويلة، كان هناك توجه أو قراءة تحاول رصد دور الجماعات الدينية في تطييف أو تديين المجال العام. وفي هذه القراءات غالبا ما نظر للجماعات الدينية بوصفها هي التي تعيد صياغة تفاصيل من المدينة، ما يجعل (الحق في المدينة) وفق تعبير هنري لوفيفر يتقلص ويتراجع بالنسبة لمن تختلف توجهاتهم وقيمهم مع هذه الجماعات. وفي الواقع العربي هناك الكثير من الأمثلة التي تدعم وتؤيد هذا الاستنتاج، إذ تحول العديد من الحركات الدينية إلى حركات أصولية أخذت تنخرط في تكتلات لفرض سيطرتها بشكل يعيد تشكيل الحياة المدنية، ولعل هذا ما نراه مثلا في أمثلة عديدة داخل القاهرة أو الاسكندرية، أو في مدينة مثل بيروت، إذ لاحظ عدد من الباحثين، منى حرب مثالا، كيف قام حزب الله اللبناني في العقود الأخيرة بإعادة رسم تشكيل مناطق في بيروت، في سياق محاولاته فرض نظامه الخاص، وبالأخص داخل الضاحية الجنوبية، من خلال شبكاته، وهو ما أنتج إحساسا بامتلاك الحيز الجغرافي، يسمح بغرس بيئة إسلامية محيطة في الحياة اليومية لسكان الضاحية.
الشيء ذاته نراه في مدن أخرى أيضا مثل، إسطنبول في العقدين الأخيرين، إذ يلاحظ في السنوات الأخيرة قيام حزب العدالة والتنمية ذي الخلفية الإسلامية بإعادة تصميم عدد كبير من شوارع مدينة إسطنبول لتتلاءم مع توجهاته المحافظة، سواء من خلال زيادة بناء الجوامع، أو التركيز على إعادة ترميم بعض المناطق الأثرية الإسلامية، وذلك في سياق التأكيد على أيديولوجيته.
لكن مقابل هذا القراءة لدور الجماعات الدينية في إعادة تديين، أو أسلمة الفضاء العام في الشرق الأوسط، أخذت قراءات أخرى في السنوات القليلة الماضية تركز على فكرة لم تعالج كثيرا في الكتابات العربية كما نظن، وهذه الفكرة تقول إن التدين والمؤسسات الدينية بقدر ما تؤثر في المجال الحضري، فإنها أيضا تتأثر بالتغيرات الحضرية، وهو ما يذكرنا بنتائج شملت مدنا أخرى، وصدرت في كتاب بعنوان «التدين العامي والتغير الحضري: الإيمان في المدينة»، الذي ناقش إعادة هيكلة الدين الأمريكي من خلال دراسة خمسة وسبعين تجمعا في ثمانية أحياء في مدينة شيكاغو، من خلال التركيز على فكرة التفاعل المعقد بين الدين والتغيرات الحضرية، باعتبار الأخيرة مؤثرا رئيسيا في هذا التغيير.
في الآونة الأخيرة، أصدر المركز القومي للترجمة كتابا بعنوان «مدن تثير العاطفة»، للباحث الألماني جوزيف بن بريستيل، ترجمة ريهام أبو دنيا. ولعل في الكتاب ما يتقاطع كثيرا مع فكرة دور التغيرات الحضرية في التأثير على التدين، إذ لاحظ المؤلف، من خلال مقارنته بين برلين والقاهرة في الفترة 1860ـ 1910، كيف أثرت التغيرات الحضرية في كلا المدينتين على ولادة سلوكيات ورؤية أخرى للأخلاق والتدين.

توحي مؤشرات عديدة بأن الحراك الذي شهده التغير الحضري تجلى في القاهرة وبرلين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتتعلق هذه المؤشرات بالتغيرات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية. وشهدت برلين والقاهرة نموا سكانيا كبيرا في الفترة بين منتصف القرن التاسع عشر، حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، ففي الفترة بين عامي 1852 و1910 زاد عدد سكان برلين من 419 ألف نسمة إلى نحو 2 مليون وأكثر، وكذلك الحال في القاهرة التي زاد عددها بين عامي 1848 و1907 من 257 ألف نسمة إلى 655 ألف نسمة، وفي الوقت نفسه خاضت المدينتان عملية إعادة هيكلة اقتصادية، وانعكس ذلك على انتشار وسائل إنتاجية جديدة في كلتا المدينتين مثل، مصانع السجائر في حي شبرا في القاهرة، ومصانع بناء القاطرات في ضواحي برلين، وساهمت إعادة الهيكلة الاقتصادية في انقسام العمالة بشكل أكثر وضوحا، وكذلك ظهور مدن جديدة في العاصمتين الألمانية والمصرية، ومن بينها العمل في مجال التأمين والمحاماة. وعلى خلفية هذه الحيوية ظهرت في المدينة أساليب جديدة من الترفيه ومفاهيم الحلال والحرام. فمثلا نرى من خلال مجلس المدينة وقسم شرطة برلين، أن هذا التغير أثر على أوضاع وأخلاقيات المدينة، إذ تلقى مجلس المدينة في ستينيات القرن التاسع عشر شكاوى متكررة من الملاك لانتهاك رابطة الأخلاق على مقربة من بناياتهم، وقد اشتكى معظمهم من ممارسة الدعارة، كما نلاحظ أن هذا التغير الحضري، أثر على فكرة الزواج نفسها، إذ تظهر الأرقام أيضان خلال هذه الفترة، تراجع نسب الألمان المتزوجين، بسبب صعوبة الأوضاع الاقتصادية التي عانى منها السكان، ما حال دون إقبال العديد منهم على الزواج، مما كان له أثر على الصعيد الأخلاقي، فمن ناحية لجأ سكان برلين إلى البدائل التي ظهرت في ذلك الوقت مثل مكاتب الزواج، وظهور فكرة الحب كبديل عن الزواج المحافظ، بالإضافة إلى تزايد الإقبال على الدعارة.

ولعل الشيء ذاته هو ما نراه في القاهرة خلال هذه الفترة، إذ أدى توسع المدينة الحضري، وقدوم مهاجرين وتدفق رأس المال من الدول الأوروبية، إلى حدوث تغيرات مثل الإقبال على شرب الخمر في مصر، وعلى الرغم من أن المصريين عرفوا المشروبات الكحولية قبل هذه التطورات، إلا انه مع توسع القاهرة أخذت رؤية أخرى تتشكل حول المدينة عن البيرة النمساوية والألمانية، كما أنشئ أول مصنع لإنتاج البيرة في مصر في الإسكندرية عام 1897. تزامن ذلك مع انتشار عدد كبير من الحانات والملاهي الليلية، التي تركزت في حي الأزبكية، واللافت في تقارير الشرطة، أن النشاط داخل هذه الأحياء لم يقتصر على النخب الأوروبية، بل نرى أن الغالبية منهم كانوا من رجال الطبقة الوسطى المصرية في المدينة، كما نلاحظ أن هذا التطور الحضري طال أيضا موضوع الموسيقى، إذ نعثر على كتابات عديدة في هذه الفترة ترى أن الغناء ما هو إلا صدى النفس الصادرة من أعماق القلب، بعد احتكاكه بالعواطف، حتى الزواج وشروط حدوثه تغيرت في هذه الفترة، كما نجد خلال هذه الفترة ايضا تراجعا في ظاهرة الزواج بزوجة ثانية، وتأكيدا من الفقهاء على حسن الزواج بامرأة واحدة، وهذا ما نراه مثلا عند الإصلاحي محمد عبده، الذي رفض فكرة تعدد الزوجات في كتاباته المبكرة، كما لاحظ ذلك المؤرخ كينيث كونو، انطلاقا من فكرة أن الرجال لن يستطيعوا العدل بين الزوجات، كما جاء في النص القرآني، ما يتسبب في انفصال العائلة وتفتتها.
وبعد عشرين سنة من هذه الرؤية عاد عبده مرة أخرى وقدم قراءة جديدة لإحدى الآيات في سورة النساء «ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة، وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما». إذ وجد أن هذه الآية وغيرها من الآيات الأخرى تحمل معنى مضمرا يُعنى بإلغاء تعدد الزوجات، وفي فتوى نشرت بعد وفاته، تحدث عبده عن أولئك الذين يدافعون عن تعدد الزوجات، باعتباره جزءا من الثقافة المصرية، مكررا أن ذلك ليس وقفا على الشرق، بل كان اتجاها بين الحكام والأثرياء في الممالك التي كانت فيها النساء أكثر عددا من الرجال. كما نرى أن الحب أصبح جزءا وعاملا أساسيا في الزواج، وهو ما كان يعكس تغيرا في مفاهيم وقيم الناس وعاداتهم وتقاليدهم، وهو تغير يبدو أنه وليد التغيرات الحضرية التي عاشتها القاهرة. وبالتالي فإن ما يمكن الوصول إليه من فكرة الكاتب، هو أن المدن بقدر ما تتأثر بالجماعات الدينية أو الأيديولوجيات الأخرى التي تحاول السيطرة عليها، فإنها تؤثر أيضا في المقابل في قيم الناس وعاداتهم الدينية وغير الدينية، خاصة عند مرورها بتغيرات حضرية وثقافية جديدة، وهو ما يفرض على الباحثين ربما ضرورة إعادة النظر في موضوع العلاقة بين المدينة والأصوليات، عبر النظر إليها من اتجاهين، بدلاً من اتجاه واحد ما يزال هو السائد في القسم الأكبر من الكتابات العربية.
٭ كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية