محمّد شكري: الخبزُ الحافّ أم الخبز الحافي

تثير أعمال محمّد شكري: «الخبز الحافي» و«الشطّار» «زمن الأخطاء» و«وجوه» مسألة «أجناسيّة» شائكة، وبخاصّة ما تعلّق الأمر بهذا النوع من الأدب.
وقد يحارُ أو يتعجّل كل من يقرأ هذه «السير» في تصنيفها من حيث هي»كتابة ذات» أو Autofiction «تخييل ذاتي» على قلق هذه الترجمة التي كنت فصّلت القول فيها في مقالات سابقة. وهو نحت أو تركيب أشبه بتوليف جمعيّ إذ يجمع بين السيرة الذاتيّة والرواية؛ وهو في الفرنسيّة «كولاج» شكلي دلاليّ مأخوذ عن الإنكليزيّة Mot-valiseأساسه الجمع بين شكلين سرديّين متناقضين أو متدافعين بداهة: سرد مبنيّ مثل السيرة الذاتيّة على ذاتيّة الكاتب والسارد (أي الشخصيّة) والإيهام بالواقع، أو بعلاقة ما بين الفنّ والحياة؛ كما هو الشأن في العمل الروائي، حيث شكري يقصّ حياته، وما يدور في خلده من أفكار، ومن عارض أوهام وطارئ بذواتٍ، أو ما تنطوي عليه من غريب الأطوار وعجيب الأسرار؛ لكن بأساليب الرواية وذكر الأسماء أو إخفائها أو الكناية عنها، أو استخدام ضمير الغيبة أو أسلوب الالتفات من عدول من التكلّم إلى الغيبة أو الخطاب أو العكس.
وأشهر هذه الأعمال سيرته «الخبز الحافي» التي ترجمت إلى لغات عديدة، وذاعت بفضل ترجمتها الإنكليزيّة والفرنسيّة خاصّة. واللافت ليس في تأخّر نشرها بالعربيّة التي كتبت بها، إلاّ في مستهلّ الثمانينيات وحسب؛ وإنّما عنوانها هذا أيضا، وهو اليوم خطأ مشهور لا رادّ له، إذ الصواب «الخبز الحافّ». وفي هذه الوقفة اللغويّة العجلى ما يسوّغ هذا «التصويب» الذي أنا بصدده. فالحَفَفُ هو القوت القليل، أو قِلَّة المأْكولِ وكثرة الأَكَلَةِ، أو أن تكون العِيالُ مثلَ الزَّادِ، أو الحاجة والضنك والضِّيقُ في المعاش، أو الكَفافُ من الـمَعيشةِ، أو عَيْشُ السُوء وقِلَّة المال. وفي الحديث: أَنّه لم يشْبَعْ من طعام إلا على حفَف أَي لم يشبع. وواضح أنّ هذه المعاني هي التي تناسب عالم شكري وهو يقصّ سيرته (1935/ 1956) أي كلّ ما هو خلافُ الرِّخاء والخِصْبِ. والخُفُوفُ: اليُبْسُ من غير دَسَمٍ. وهو ما يناسب العبارة الفرنسيّة: Pain sec الذي يأكله صاحبه عقوبة له، أو لقلّة ذات اليد؛ وإن ترجمه يوسف إدريس وصاحبه في «المنهل» بـ»خبز قفار». وفي العربيّة يقال سَوِيقٌ حافٌّ أي يابِسٌ غير ملتوت، وقيل: هو ما لم يُلَتَّ بسمْن ولا زيت ولا ماء أي لم يبلّ أو لم يُبسّ. وحفَّ بطن الرجل: لم يأْكل دسَماً ولا لحماً فيبس. وثمّة أيضا ما قد يكون أنسب، وأعني Pain rassis أي خبز بائت».
ومن الطريف أنّ كلمة «لحم» التي تعني في العبريّة «الخبز» هي كذلك أيضا في العربيّة فالخُبْزة هي الثَّريدة الضَّخمة، واللحم. وللخبز الذي ترجع صناعته إلى آلاف السنين، معان أخرى مثل الغذاء والرغيف وكسب القوت وجراية الجنود وقالب السكّر ومعجون ختم الرسائل، وتلحق بها نعوت مثل «خبز أسمر» و»خبز بالقطعة» و»خبز مقلي» و»خبز إنكليزي»… بل للكلمة أوجه كنائيّة مثل «أمامه عمل كثير يقوم به» وأصلها حرفيّا في الفرنسيّة «أمامه خبز على لوحة التقطيع» أو «كان أنانيّا» والأصل الحرفي «يأكل خبزه في جيبه» أو «كانت بداية عمله ناجحة» والأصل «أكل خبزه الأبيض أوّلا» أو عبارة «بثمن زهيد» أو «في مقابل شيء قليل جدّا» والأصل «من أجل قطعة خبز» أو «من أجل لقمة» أو عبارة «لا ينتهي» والأصل «طويل مثل يوم بلا خبز»… أمّا النعت «الحافي» فيفيد في الاستعمال الجاري على الألسنة حقيقة أو مجازا: العاري أو العريان أو المجرّد من الثياب أو الذي يمشي حافيا أو مكشوف الرأس، أو الشجرة الجرداء، أو الحسام المجرّد من غمده، أو ركوب الحصان بلا سرج، أو الحقيقة الصريحة التي لم تنغمس في الشبهات.
لنقل إذن إنّ العنوان الذي يحسن أن يوسم به كتاب شكري هو «الخبز الحافّ». وأذكر أنّي ألمحت إلى ذلك في لقاء معه في أصيلة؛ وفهمت منه، وذاكرتي لا تخونني عادة؛ أنّ العنوان «الخبز الحافي» ليس من وضعه. ولعلّه من وضع الطاهر بن جلّون، في الطبعة الفرنسيّة الصادرة عن دار ماسبيرو: أي «ليس من أجل الخبز وحده» For bread alone وفي الأنكليزيّة Le pain nu فثمّة اختلاف بينهما، والعنوان الأصلي، كما وضعه شكري هو على الأرجح «الخبز» فلا هو الحافي ولا هو الحافّ.
فمن مصر القديمة إلى بلاد ما بين النهرين في ألواحها السومريّة، وعلى كلّ موائد الطعام وفي كلّ تقاليد «فنّ الأكل» في جميع أنحاء المعمورة، من «الخبز المقدّس» إلى «الخبز اليومي» فرؤيا النبي يوسف في القرآن «ودخل معه السجن فتَيان، قال أحدهما إنّي أراني أعصر خمرا ، وقال الآخر إنّي أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه…»كان الخبز ولا يزال استعارة للإبداع نحيا بها، ورمزا للثقافة والتاريخ والحضارة والأنثروبولوجيا، بل هو رديف الجوع مثلما هو رديف الثروة، بل الحرب والسلام كما في غزّة اليوم حيث «حرب التجويع» التي تخوضها دولة الاحتلال على قدم وساق. فالخبز هو مرادف حقيقي للإبداع البشري ومهارة الإنسان، منذ معالجة بذور الحبوب البرّيّة المطحونة يدويا، أو بالحجر «الرحى» المخلوطة بالماء أو المطهوة بالنار أو في رما الصحراء…
على أنّ المسألة «الأجناسيّة» التي يثيرها هذا العمل الأدبي، تتعزّز اليوم أكثر فأكثر، بعد أن تحوّلت الرواية عند كثيرين إلى «سير ذاتيّة». وليس لي أن أعود، ها هنا إلى البحث في أصول هذا المصطلح، وأن أستدرك عليه، فقد نهض بذلك نقّاد وباحثون أكفاء في شرق البلاد العربيّة وغربها، أداروا هذا المصطلح المخصوص بأدب السيرة، على أوجه، بعضها سائغ؛ فقد ترجمه عبد المحسن طه بدر، بـ»رواية الترجمة الذاتيّة» وهو مقترح منه، فيه مقدار كبير من الصواب؛ شأنه شأن مصطلح آخر ذائع هو «رواية السيرة الذاتيّة» وأقلّ منه ذيوعا «رواية التجربة الذاتيّة»؛ وهو غير دقيق، وأصوب منه «رواية الترجمة الذاتيّةّ». ويشير الباحث السعودي عبد الله الحيدري إلى مصطلح آخر، نحته سلطان القحطاني، وهو «الرواية السيريّة»؛ ويجده مختصرا مغريا؛ لكن تعوزه الدقّة، لأنّ كلمة «سيرة» تحيل في الأغلب الأعمّ على «السيرة الغيريّة» وليس «السيرة الذاتيّة». ولعلّ في تصنيف أدب محمد شكري من حيث هو «رواية السيرة الذاتيّة» أو «السيرة ـ الروايةُ» مقدارا من الوجاهة؛ إذ يجري على أصول، أو قواعد خاصّة من التحوّل السرديّ أو القصصيّ، الذي يحْرِف بنية الترجمة الذاتيّة، أو ما جرت عليه من أعراف ومواثيق، ويجعلها أشبه بالرواية، سواء في لغتها أو أساليبها وتعبيرها الكنائي، أو في علاقتها بالواقع والبيئة.
وشكري يعمد قاصدا متقصّدا إلى انتقاء وقائع وشوارد، بما يناسب حاجاته أو رغائبه أو طموحاته؛ حتّى وهو يوهمنا بأنّه يستجلب الشخصيّة/ الشخصيّات على مقتضى «قانون» التداعي، أو مجرّد علاقة تقدحها الذاكرة بين الأشياء. ومن هذا المنظور فإنّ السرد السير ـ ذاتي، «يخون» رابطة العقد بين الأدب والحياة، إذ ينسى الكاتب أو يتناسى ما يريد أن ينسى، ويتذكّر ما يريد أن يتذكّر. ويتعزّز كلّ ذلك بخطيّة الخطاب، من حيث هي علاقة محسوبة بين شكل ومحتوى، فيؤدّي تغيّر أحدهما إلى تغيّر في الآخر، يكون متناسبا مع تغيّر محتوى الآخر أو شكله. والسؤال: هل من شأن هذه الطريقة أن تؤمّن للسرد «السير ـ ذاتي» نصيبه من الروائي وعالمه المتخيّل؟ ووجه السؤال أنّ طابع أيّ خطاب مرجعيّ، سواء كان عاريا (من البلاغة) أو مبسّطا، في علاقته بما يفيض به الواقع؛ لا يكفي لجعله تخيّليّا. ولو كان الأمر كذلك، لما أمكن أن نتميّز خطابا أدبيّا من خطاب تاريخي من خطاب علمي. ومردّ ذلك إلى أنّ مثل هذا القصّ كثيرا ما ينحو إلى استدعاء شخصيّة، من ناحية من نواحي الماضي القريب أو البعيد، مترسّما جانبا من حياتها أو كاشفا عن مطارح أفكارها وخوالج نفسها، بواسطة الإشارات الدالّة على ضمير التكلّم وضمير الخطاب وضمير الغيبة (أنا/أنت/ هو) وظروف المكان والزمان (هنا/الآن) واسم الموصول واسم الإشارة، والفعل المضارع وما إليها من المؤشرات» التي يصعب تأوّلها إلاّ إذا انتقلنا من الملفوظ إلى مقام التلفّظ.
وعليه فإنّ أدب شكري هو نوع من «كتابة الذات» قد يكون أقرب إلى الأداء الكنائي، أو «القناع» حيث الكتابة نفسها ضرب من تغريب المألوف، أو ما يعتقد أنّه الطبيعيّ في حال المنطوق. والقناع في أعمال شكري واحد وثنائيّ في الآن ذاته: هو واحد من حيث انشداده إلى دالّ (واقعيّ من ماضي الشخصيّة). وهو ثنائيّ من حيث إنّ مدلوله يستدعي دالاّ ما آخر (من الحاضر).

كاتب وشاعر تونسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية