محمود الربيعي: البطل في الظل

حجم الخط
0

محمود الربيعي: البطل في الظل

بعد الخمسين عرف طريقه!محمود الربيعي: البطل في الظلعبد المنعم رمضان أستهل وأقول هذه هي المقالة كاملة دون نقصٍ أو اعتداء جهول، أعاود استهلالي وأقول قابلت الدكتور محمود الربيعي مصادفة وعلي غير موعد، مرتين، أولاهما في نهاية التسعينيات، يوم أن قدم الشاعر أدونيس محاضرة دارت حول معني الثقافة، كنا في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، بالضبط في القاعة الشرقية وبيننا منظمو اللقاء أساتذة الأدب العربي بالجامعة، فتن أدونيس الحاضرين من خصومه ومحبيه عندما قرأ قصيدته أول الكلام بمزاج داخليٍّ عالٍ، وفصاحة أصبحت نادرة بين الشعراء، فاكتشفنا نحن الحضور أننا نقف ونجلس متجاورين تحت شجر الحب، وافترقنا غابة أحزان علي حافة الأرض، وكان الربيعي بنحوله وارتفاعه أحد أشجار الصف الأول من الغابة. قابلت الربيعي ثانية في ساقية عبد المنعم الصاوي، والساقية مكان يقع علي نيل أبي الفدا، في رواية قديمة نيل أم كلثوم، وسقف المكان أرضية الكوبري المعلق هناك، كانت الساقية ذلك اليوم تحتفل بصديقي السوداني المصري النمساوي المغترب طارق الطيب، وذلك اليوم يعني يوما من أيام بدايات عام 2005. وعقب كل لقاء من اللقائين، وصلتني من الدكتور الربيعي رسالة. في المرة الأولي حملت الرسالة كتاب في الخمسين عرفت طريقي وفي الثانية حملت رسالته الكتاب ذاته، ويرفقه كتاب بعد الخمسين والكتابان معا يكونان سيرة ذاتية غير كاملة، آمل أن أقرأ في مستقبل الأيام ما بعد البعد .أذكر أن كتابه في الخمسين عرفت طريقي لم يستقر في حوزتي أياما، لأن أحد الأصدقاء طمع في قراءته، وها هو الدكتور يعوضني عما فقدته وبعد أن شرعت في قراءة الجزء الأول، بدأت تتسرب إلي نفسي روائح وطعوم أدركت أنها روائح حلاوة الهدية وطعومها، حلاوة التجلي الأول، ثم حلاوة تجلي ما بعد الخمسين، وعليه فإنه يجوز لي الآن أن أتذكر سنوات الجامعة، أوائل السبعينيات، أتذكرها بريق حلو، ولعاب غزير. كان اليسار أيامها نشطا ويملأ هواء الثقافة ببخار أنفاسه المتلاحقة، ويعكف نقاده الأدبيون علي قراءة الشعر وتفسيره وتوظيفه، ويعكف أكثرهم ذيوعا وأشدهم ستالينية علي إفساده، كذلك كان يفعل مع الرواية، ولم يستطع رشاد رشدي أحد دعاة النقد الجديد، فيما بعد سوي ان يسمي مجلته الجديد وسوف يقول له الشاعر أحمد حجازي: قديمة يا دكتور ، وسوف يصبح تلاميذه حكاما للثقافة الرسمية يفسدونها ويفسدون صورة النقد الجديد، أقول لم يستطع رشاد رشدي أن يحظي بالتقدير، مما جعل مدرسته النقدية محجوزة في زاوية صغيرة يحاصرها حضور محمد مندور، ثم يحاصرها الواقعيون الاشتراكيون في أحسن التسميات والواقعيون الستالينيون في أسوأها، وكان نجيب محفوظ برواياته الجميلة يمثل الساقية التي تحرص أن تديرها بعض ثيران اليسار، فتضخ ماءً مالحاً يقتل بقية المزروعات ولا يسمح لغير النباتات الشوكية والصبار بالنمو. كانت طوائف أخري من اليسار، طوائف تحترم الأدب ولا تراه خادما لأية حتمية، تكتفي بأن تظهر امتعاضها لأنها لا تملك وسائل النشر لوجهات نظرها البديلة. وطوائف ثالثة، من كتاب الستينيات تنفخ هواء جديدا يشغّل الطواحين التي تنزف أوراق شاب عاش منذ ألف عام، وبحيرة المساء، والخطوبة، والزيني بركات، ومالك الحزين، والبساطي وغالب، ونعمان عبد الحافظ، والزعفراني وغيرهم.في سنة 1974 تحديدا لجأنا، أنا وصديقي الشاعر المغبون محمد خلاف إلي كتاب أصدرته دار المعارف، كانت طبعته الثانية أقرب إلي الملاذ، وقرأنا معا مقدمته التي فتنتنا وساعدتنا علي أن نري روايات نجيب محفوظ تتحول من ساقية تُديرها بعض الثيران لحسابها، إلي عالم فسيح أليف يسكنه كل البشر. كنا نهرب من ذلك الجحيم اللافح، جحيم التأملات في عالم نجيب محفوظ الذي يتعنت ويشوي الأسماء والأماكن، قد يتركها علي النيران حتي تتفحم فيسهل تأويلها تأويلا أيديولوجيا ضيق الأفق واسع الانتشار، المشربية والشباك والسطح ونور وزهرة وصابر الرحيمي، كنا نهرب من ذلك الجحيم إلي لوكاندة الفردوس المسماة عمدا قراءة الرواية وخاصة المقدمة. الاسم لم يكن معتادا بعد، والقراءة كانت لستّ روايات هي اللص والكلاب، والسمان والخريف، والطريق، والشحاذ، وثرثرة فوق النيل، وميرامار، وتسهيلا علي عشاق المراحل، كانت روايات ما بعد مرحلة الثلاثية، ليس باعتبارها وحدة واحدة، ولكن باعتبارها ست روايات فتشت ووجدت المؤلف، كان محمد خلاف يعشق الظل، ولا يحب أن يخرج منه، وكنت مثله أعشق الظل، وأسعي كي أخرج منه، ووجدنا في مؤلف قراءة الرواية مثالا جديدا للبطل في الظل، يحبه، أعني الظل، حتي أنه لا يخشي الجلوس تحت نخلة نجيب محفوظ، ولا يهمه ماذا سيحدث بعد سقوط حجارة صيّادي البلح فوق رأسه، وماذا سيحدث بعد سقوط البلح، وماذا بعد إغفال من يطوفون بالمكان له، أو اهتمامهم به. كانت مقدمة قراءة الرواية، فاتحة تحاول أن تخلص أدب نجيب من ضرر الأحكام العامة، ومن ضرر المواقف المتطرفة، ومنحت الأولوية لمحاولة التعرف علي هذا الأدب قبل كل شيء، التعرف علي خصائصه والعلاقات التي تربط بين عناصره وتصميمه الفني حتي ولو انتهي كل ذلك إلي أحكام ليست في صالح هذا الأدب. كانت المقدمة فاتحة تحاول أن تتخلص مما يعاني منه أدب نجيب محفوظ، أن تتخلص من النظر إليه كثيرا باعتباره أفكارا وآراء ووجهات نظر، لا باعتباره قوالب فنية. شغلتنا المقدمة وزهونا بها، كنا أنا ومحمد خلاف الشاعر المغبون نستعيدها، محمد خلاف المريض بكراهية أيديولوجيا فرع اليسار جهير الحنجرة عاليها والذي كان يحكم الحياة الثقافية ويتحكم بشعاراته وسياطه وصياحه ومصالحه، وأنا المريض بالميل نحو يسار غير مطمئن، يسار لا تحكمه أناجيل وكتب مقدسة، يسار تجريبي كتابه محبطون أحيانا وفنانوه حمقي، فيما بعد سوف يساعدنا بشير السباعي علي قراءة جورج حنين ورمسيس يونان وجويس منصور، وسوف يساعدنا كميل قيصر داغر وآخرون علي قراءة الثورة والأدب، والثورة والحياة اليومية. كان يساري الذي يخصني يسارا مشبوها ونقيا، بعد مقدمة محمود الربيعي بحثنا عن كتبه الأخري، ولأننا في أطوار تكوين، وننشد المعرفة ربما كخلاص، وننجذب إلي الغرب الذي نجهل لغاته، ولا نريد أن نجهله، ونتوق إلي لمسات أصابعه، كنا ممسوسين، نسأل حتي عن جيمس جويس وفرجينيا وولف، قرأنا كتاب تيار الوعي في الرواية الحديثة ، ألفه روبرت همفري، وترجمه الربيعي، ثم قرأنا الصوت المنفرد ، لأوكونور والترجمة لصاحبنا، وكذا حاضر النقد الأدبي، مقالات مترجمة، أتذكر الآن أنه اشتمل علي مقالة كتبها إمبرتو إيكو الذي سيصبح بعد عشرين سنة، أي في أواخر التسعينيات، اسما لامعا ومطلبا عزيزا لدي جماعات المثقفين. قرأنا أيضا مختارات الربيعي وبعض نصوص النقد العربي، الغريب أننا كشعراء تحاشينا كتب الربيعي عن الشعر، هل كنا نخشي أن نختلف معه، أن نفقده؟ رأيناه يحب شعر شعراء لا نثق في حُسْنِهم، فانصرفنا بعيدا عن تلك الخيمة، واكتفينا ببقية الخيام، صحيح أن مجموع مؤلفات محمود الربيعي قد لا يتجاوز خمسة عشر كتابا، ونحن قد لا نعرف سبب هذا الإقلال، يقول هشام شرابي في صور الماضي ما يعلل قلة إنتاجه، يقول: أفكاري تتنقل من موضوع إلي موضوع، تقفز كالعصافير من غصن إلي غصن دون كلل أو تعب، فأحاول اللحاق بها. ولأني أكتب ببطء ولا أستطيع الإمساك بها أحيانا، لا اعرف كاتبا أبطأ مني فيما أكتبه إلا صديقي ياسين، فإنتاجه لا يتعدي بضعة أسطر في اليوم، غير أني لا أحسد الذين يكتبون بسرعة، هؤلاء لا يأتيهم الوحي إلا باحتساء القهوة المرة وتدخين السيجارة تلو السيجارة. السريع في الكتابة هو الذي يمتطي الكلمات كما يمتطي حصانا جامحا يسير به في الاتجاه الذي لا يختاره، أما الذي يكتب ببطء مثلي، فيصارع الكلمات وهي تصارعه إلي أن يخضعها أو يترجّل عنها، ويجد غيرها، فيلجمها أو يتوقف عن الكتابة . انتهي كلام هشام شرابي، أحسب أنني قبلته كتفسير لحالة محمود الربيعي، ومع انقضاء فترة الجامعة وحقبة السبعينيات، وسقوطنا في حمأة الصراعات الشعرية والعقائدية، وسقوطنا في حمأة ذواتنا، وهي حمأة اكتشفت أن غبارها لا تسيغه سليقة وفطرة الدكتور الربيعي، إن الرجل الذي يعشق الظل، امتصه الظل، فغاب عني، أخذتني الصراعات في طرق أخري، وابتعدت عنه ما يقرب من عقدين، كانت آنذاك منارات تقوم، ومنارات تسقط، وشعارات تتبدد، وأخري تتجدّد، وأسماء تبزغ ومعها أدوات جديدة تبزغ، وأسماء تصدأ ومعها أدوات تصدأ. لقد رأينا أكثر من موت، ورأينا أكثر من قيامة، وبعد اشتداد الصخب والعنف وبعد انفضاضهما قابلت نفسي، وتعرّفت علي أنها كانت دائما تطلب الإقامة في الظل، وأن تلك السنوات خروج لأبتعد عنها، وأفارقها مؤقتا، وأتذوق حكمة المتصوفة ابتعد لتقترب . أثناء هذه الحالة وقفت سيرة الربيعي جزؤها الأول في طريقي، وأهملتها ففقدتها، كنت مشغولا بالعودة إلي نفسي، وبعد أن تطامنت وغلبتني الأشواق، وقفت في طريقي سيرة الربيعي بجزأيها، كانت السيرة تطلب أمن الداخل، وكنت أطلبُ أمن الداخل، وكان ما يطلبه الربيعي فوق المعرفة وفوق المال وفوق الجاه، وكنت كذلك، كان يحب محمد عبد الوهاب والشيخ مصطفي إسماعيل والمتنبي، وأنا أحبهم. كنت أقرأ السيرة فتطفو علي سطح ذاكرتي كلمات العقاد عن طه حسين، عن كتاب طه حسين المدعو في الصيف ، أعلم أن الربيعي لم يأنس إلي العقاد، ولم يألفه، ولم يشأ أن يقترب من ظلاله. يقول العقاد: وطه حسين كاتب مستقيم الفطرة إن لم يكن في فطرته عمق وخيال، قوي الرأي وإن لم يكن رأيه بالواسع المتعدد الجوانب، نشأته أزهرية وهي نشأة يستفيد منها صاحب الطبع القويم جدّاً وصرامة لأن التعلم في الأزهر مشقة لا يسهل فيه اللعب والاستخفاف، والعلوم في الأزهر علوم تحوطها قداسة الدين فلا يقاربها التلميذ وفي نفسه خشوع وتوقير . ما قاله العقاد عن طه حسين ينطبق في بعضه علي الربيعي، كما لا ينطبق بعضه علي الآخر، ولكنه رأي يطفو علي سطح ذاكرتي، فيعينني علي الرحلة. حرص الربيعي علي ألا يدخل صفحات السيرة قبل أن تدخل قريته كلها، قرية الدميرة، محافظة سوهاج، دخلت بفصولها الأربعة وأفراحها وألعابها وموالدها وشيوخها وبعض من نسائها خاصة المحارم، مازلت أذكر كيف قذف الدكتور باسم خطيبته ليتخلص من عبء الحيرة بين النطق به والصمت عنه، هكذا يقول: عُيّنت معيدا بقسم الأدب، وتقدمت لخطبة نبوية الترزي، بعدها سمعت تنهيدة الربيعي ولمحت عرقه يرفرف فوق وجهه، وسوف يحرص في الجزء الثاني علي ألا يدخل صفحات السيرة قبل أن يدخل معهده العلمي كلية دار العلوم ، ستكون وكالة الكلية وهما تحتله وتتحالف ضده الطبائع وصراعات الطبائع، محمولة علي الأساتذة والطلاب والمكائد والفصول الساخنة والباردة. الدكتور الربيعي عاشق ظل يحب دخول كل مكان بغير أجراس ترن، سوف تمثل الدميرة وسوهاج وبعض أسيوط المثال الأول، أو قل المثال القريب من المثال، الذي لن يفتر وجوده أبدا أو قل مثال الفطرة، وكما كانت الفطرة فاتحة السيرة، سوف تكون خاتمة الجزء الثاني منها، علي هيئة شخصيات في الظل، زهري جبالي إمام مسجد العائلة، محمد جمعة أول مدرب حساب، عبد اللطيف هرون أول مدرس مطالعة ولغة، محمد عبد المتعال عاشق الشعر، أحمد فرغلي ناظر المدرسة الإلزامية، محمد علي الصغير ابن الخالة ومعلم الثقافة الأول، علي الرملي معلم القرآن، فتحي عبد المنعم مدرس الحديث في أسيوط، كلها أسماء تختم السيرة لكي تكون الكريشندو الذي يعزف موسيقي المثال القريب من المثال، حديقة الفطرة. هناك مثال ثان قريب أيضا من المثال سوف يخترق حياة صاحب السيرة ومعه تصبح الأماكن الأخري إما أعرافا وإما شبه جحيم، إنه مثال التحول الكبير في الحياة، إنها لندن يا عزيزي، القرار الدائم لموسيقي يتكرر عزفها، مثال الحضارة. بندول الدكتور الربيعي يتأرجح بين المثالين، الفطرة والحضارة ويشتهيهما، الأصح يحبهما، لا يمكن أن نغفل ما قاله العقاد في معرض كلامه عن طه حسين، وعن أنه ليس كل كاتب بقادر علي أن يلتزم الصدق والسهولة والإطراء المطبوع في وصف ما يقع له وتدور عليه حياته، فليس هذا بالمطلب اليسير علي من لم يتعوده ويطبع عليه، والصدق والسهولة والإطراء المطبوع تظهر كلها في كتب الربيعي أحسن ظهور، وكأنها تذكرني الآن بكتابه قراءة الرواية، خاصة المقدمة. نعترف جميعا أن السيرة أفيوننا في اللحظة الحاضرة، وأن كتب السيرة أصبحت تزخم السلاسل وتملأ الأرفف، منذ وقت ليس قصيرا كتب الدكتور رؤوف عباس سيرته تحت عنوان مشيناها خطي . كان الفساد الجامعي في سيرة رؤوف يزكم الأنوف فنعطس أما الفساد في سيرة الربيعي فقد يزكم الأنوف، ولكن جمال الكتابة وهدوء الطبع، وتواضع الكاتب، كلها أسباب تحمينا من أن نعطس. إننا نستمر في القراءة علي طريقة أبي نواس، الدواء هو الداء، سيرة رؤوف سيرة شجاع، وسيرة الربيعي سيرة إنسان بسيط، الأسماء التي تظهر في سماء سيرة رؤوف أسماء أعلام يملكون أن يرفعوا ويخفضوا، فإذا امتدح أحدهم ارتجفنا، وإذا انتقص أحدهم ارتجفنا، والأسماء في سيرة الربيعي، أعلامها غير متحكمين، وبسطاؤها أغلبية. إنها سيرة لا تبحث عما يمكن أن تحققه بعد كتابتها، لا تبحث عن شهرة ولا عن حماية مصالح، تنبأت منذ نشر رؤوف سيرته، تنبأت أنها سوف تحظي برواج فهكذا يتم الرواج، مياه السياسة تحمل المراكب الصغيرة والقوارب إلي كل الأماكن، ورياح الأيديولوجيات المسيطرة البائدة، تسرع من سير هذه المراكب، عموما ليست سيرة رؤوف هي ما يجب أن ننشغل به الآن، ولكنني أحببت أن أسأل نفسي عن ذلك الكريشندو الممتلئ بشخصيات الظل في نفس يحيي حقي، فمنحها وجودا متفرقا في كتبه كلها، ووجودا مجسما في كتابه ناس في الظل. نعود إلي الربيعي وكتابه بعد الخمسين حيث يقول: وبعد سبع سنوات أخري عدت إلي إنكلترا، وكان القرن العشرون يلفظ أنفاسه، فقصدنا كمبردج، وأقمنا فيها فترة مليئة بالعمل والتأمل، وكمبردج كما هو معلوم مدينة جامعية.. ما عليكم إلا أن تتسمعوا إلي إيقاعها، وصلناها في أول شباط (فبراير) . هكذا يستمر الربيعي في الكتابة لمدة ثلاث صفحات، لكي نعرف ما كنا نعرفه، لكي نعرف أن نا الفاعلين ضمير متصل يعود عليه هو وزوجته، هكذا يكشف الصدق عن خصائصه وصفاته، وعن حسن المحافظة الذي لا يمكن أن تذم بسببه صاحب سيرة، لهذا عجبت أن رقة الرجل خدشتها خشونة كاتب ما لامه علي أنه لم يكتب عن دورة مياه بيته، لم يكتب عن أسراره ومباذله وكأن السيرة محض أسرار ومباذل. إن استنساخ الحطيئة كي يظهر شبيه له في زماننا هو السبب، ومع الإلحاح علي ان المقام الفني للحطيئة أعلي بكثير من مقام الكاتب اللائم شبيهه، إن الحطيئة في رأي أحدهم لم يكن صاحب خير وبر ووفاء، فالكلف به والانصراف إليه كلف بالشر وانصراف إلي من لا يستحق أن يعني به إلا العلماء الذين يدرسون ويكشفون. وحديث الحطيئة في رأي آخر لا يثير ضحكا ولا ابتساما وإنما يثير في النفس رثاء وإشفاقا، فقد كان بائسا أشد ما يكون البؤس، محزونا كألذع ما يكون الحزن، مكتئبا كأقوي ما يكون الاكتئاب، ولو قد استقامت الأمور كما كانت تحب طبيعته أن تستقيم لكان خليقا أن يكون له شأن آخر. أقول ثانية لقد عجبت لأن رقة الرجل خدشتها خشونة شبيه الحطيئة سامحه الله. وها أنذا أتأهب لأكتب شيئا تسعُهُ رقة الربيعي ودقته وتواضعه، فبمثل ما نكون تعاملنا الحياة، والحياة تعامل الدكتور في اعتدال وتهبه راحة البال. إن الجزء الثاني من السيرة بعد الخمسين بدا لي وكأنه أدني مرتبة من الجزء الأول، هل لأن الأول هو الجزء المخصوص بالطفولة والصبا والشباب وأول الرجولة ومنتصفها، وهي بطبيعتها مراحل عمرية أجمل من المراحل التي تليها، ربما أكثر حيوية، وتقلبا ونشاطا، لم أستطع أن أطمئن إلي هذا السبب، هل لأن الجزء الأول هو الجزء الذي يخضع البطل فيه لسلطة يفكر في الخروج عليها، أو يخرج عليها فعلا، أو يتعود أن يألفها، أو يألفها، فيما يظهر البطل في الجزء الثاني مرتديا رغم أنفه لباس السلطة ذاتها، ونحن مجبولون ـ أظن ذلك ـ علي كراهية السلطات، مجبولون علي الشك فيها، وعلي منازعتها البقاء، والسلطة غالبا ما تسببت في طغيان اللون الرمادي علي الجزء الثاني، لون الدفاع عن الذات والتفسير والتبرير، كان اللون في الجزء الأول أزرق سماويا، أو أخضر زرعيا، أو قوس قزح، لم أستطع أن أطمئن كليا إلي هذا السبب، هل لأن الجزء الأول يتناول تكوين الراوي، يتناوله بطرائق لم تخضع لموضوعية فاقدة الذمة، خضعت فقط للهواء الخاص باعتباره الذمة البديلة، الذمة الموثوق بها، أي أنه جزء يغلبه الصوت الخاص، الصوت الشخصي، بينما الجزء الثاني يتناول تطبيق القواعد العامة، والدكتور الربيعي يخرج من بحيرته الهادئة إذا جلس علي ذلك المقهي، مقهي القواعد العامة، وفساد الجامعة، وفساد الأوساط الثقافية والمؤسسات الثقافية، واللجان والجوائز، لأن الفساد يستحق منا أن نذكر أسماء أبطاله، فالأسماء تجسيد لما هو مجرد، وتشهير ضروري لزعمائه وأوصيائه. إن عفة قلم الدكتور جعلته فسادا علي جدار من ريح، فسادا افتراضيا، فساداً دون أشخاص نعرفهم جميعا، أعرف الأسانيد الظاهرة والخفية التي تفند مسألة ذكر الأسماء، وأعرف أنها إلي حد كبير أسانيد بروتوكولية. وعند خروج الدكتور من بحيرته الهادئة بدا وكأنه مصاب بالأنفلونزا الحادة، صوته تحشرج، وسقطت الصوفية العذبة من أعماق كلماته، لأنه داخل البحيرة يكون الدكتور علي ثقة من الإجادة، ما دام لم يعرض لتطبيق القواعد العامة التي يطرقها الخطأ الكثير، والتي تمتلك حصانة لا تسمح باختراقها لمن لا يملك نظرية كاملة في الثورة عليها، أعني علي القواعد العامة، بل نظرية كاملة في الثورة المضادة أيضا، لا تسمح له بإمكان اختراقها، ولا تكفي الآمال الطيبة والنظرات الخاصة في تحقيق ذلك. الفارس الذي يذهب إلي الحرب دون أسلحة الحرب، أكيد سينهزم وغالبا سيُقتل، وأمثال محمود الربيعي من الشرفاء يعصمون أنفسهم بمقدرة أكبر من مقدرتهم علي كسر صدفة القواعد العامة، ولقد أصبح القابض علي عصمة نفسه مثل القابض علي جمرة، هكذا يكشف الجزء الأول في الخمسين عرفت طريقي عن انتسابه الحميم والعميق لفن السيرة. سألت نفسي لماذا يكتب إنسان ما سيرته، هل لأنه عاش حياة استثنائية تفرض عليه أن يعرضها، هل لأنه يريد أن يجعل من تجاربه ونجاحاته وخيباته مثالا يمكن الاقتداء به، هل لأنه يحتاج أن يدافع عن نفسه، هل لأنه بلغ سن الحكمة فلم يعد قادراً علي الفعل وأصبح قادرا أكثر علي التذكر وإعادة السرد، هل لأن حياته تمتلئ بالشاذ الذي لم يصادفه الآخرون، ولأن حجرات بيته تخلو من صالون واحد، كلها دورات مياه، لقد استغلظت الأسباب واعتبرت الكتابة معها فعلا نفعيا بشكل ما، في حين تزهر الكتابة عندما لا يكون النفع عضوها البارز. قلت لنفسي إن كتابة السيرة محاولة جمالية لحماية حياة كاتبها من الضياع، ينظر الكاتب إلي حياته فيراها في حالة سيولة، يراها ماء تتعدد مجاريه وفي كل اتجاه، ويفكر في تحويل هذه الحياة من حالة سيولتها إلي حالة الصلابة، يفكر أن يجعل لحياته شكلا، كنت أظن أن الذي يظل بلا شكل، يظل مائع الوجود، ولكنني الآن وفي حمأة اعتدال أقول إن الذي يظل بلا شكل، يظل مائع الوجود، والبحث عن كتابة سيرة هو البحث عن شكل، بل البحث عن شكل بغير مثال سابق، شكل يشبه صاحب السيرة ويخصه، و في الخمسين عرفت طريقي سيرة رجل عنده هذه المكلمة، عنده هذه العادة، فهو يجيد أحسن إجاداته حين يتناول ما تناوله في هذا الجزء، وحين يختار من الأصوات، ذلك الصوت الخفيض الحييّ الدافئ المتواضع، فينساب الصوت كأنه عجينة بيان وعرفان وعقل، وإذ يتركك تكتشف أنك تريد أن تغني أغنيتك، تريد أن تصاحب ظلك، تريد أن تنصرف وحيدا. تريد أن تهدي مقالتك كاملة إلي العسكري سليمان أو سليمان العسكري.. لا أعلم أيهما أصح، لا أعلم من الضابط الذي يحرضه ويوصيه ولا أعلم من الصبي المنفذ. ہ شاعر من مصر0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية