محمد لافي: شاعر الغربة والمراثي والصعلكة!

حجم الخط
0

محمد لافي: شاعر الغربة والمراثي والصعلكة!

يسير وحيدا مترنما بقصائد قصيرة مركزةرشاد أبوشاورمحمد لافي: شاعر الغربة والمراثي والصعلكة!محمد لافي شاعر القصيدة القصيرة، قصيدةالمراثي، والغضب، والصعلكة، والتجوال في المدن.شاعر يقيم وحده في (جمهورية) تتكوّن منه وحده، لا ترفّعاً، ولا أنانيّةً، ولكن لأن مواطني جمهوريته إماّ رحلوا بتغييب الموت لهم ـ الاستشهاد في الميادين، أو باختطاف الموت الفاجع لهم في عّز شبابهم وعطائهم ـ وإمّا لسقوطهم في منتصف الطريق، وتغييرهم لقناعتهم بحيث أنهم ما عادوا يستحّقون سوي اللعنات التي يمطرهم بها (لافي)، لا بأسمائهم، ولكن بصفاتهم التي هي عنوان سقوطهم المدوّي، وفرارهم من الميدان، وإدارتهم الظهر للآمال، والطموحات، والأحلام، وتنكيسهم الرايات ليأس أفقدهم التوازن، فما عادوا يفكّرون بغير الفوز براحة البال، وسعة العيش.يمضي محمد لافي في الطريق وحيداً، مترنّماً بقصائد قصيرة يستذكر بها، ويتقوّي بزاد للمسافة الممعنة في النأي والمشقّة. خسر محمد لافي الكثير من العمر، وإن كان هذا ليس مبعث حزنه وغضبه، فالأفدح عنده: خسارة أجمل الأصدقاء بينما الطريق ممتّد، والهدف لم يبلغ.في الضواحي القصيّةحيث ارتطام السماء بهاماتهم يقفون يصعدون مسالك قلبي ولا يسقطونإنهم أصدقاء المراثي الأخيرةأو أصدقاء الجنونإنهم أصدقائي القليلون(قصيدة: أصدقاء، نقوش الولد الضّال)في شعر لافي طرافة، فهو كشاعر يري نفسه وريثاً للصعاليك، يقسّم نفسه في نفوس كثيرة، وتمعن روحه رحيلاً في الصحراء بعيداً عن خنوع القبائل، وزمن النفط، ودول الحدود المرسومة المفتعلة، هو الذي ذاق الأمّرين من هذه الحدود ـ كمواطن عربي فلسطيني ـ وهو كفلسطيني مشرّد من بلد إلي بلد، تمتلئ ذاكرته بالموت، والدم، ونيران المعارك، والجنازات، والهزائم منذ 48 وحتي الخروج من بيروت عام 82، ناهيك عن الهزائم السياسيّة المدمّرة من (كامب ديفد) إلي (أوسلو)،إلي وادي عربة.هذا الشاعر لا يتعاطف مع أهله في أوقات فراغه، ولكنه يعيش معهم التجربة. ينوب عن أهله في كتابة رحلتهم المرّة شعراً، من زمن بيروت إلي يومنا، من الخيبات، والمذابح،إلي تدمير الثورة، من زمن الأمل والوعود إلي هذه الخيبات التي نراها تحوّل فلسطين أشلاءً.لافي يقول كل هذا شعراً، لا شعارات، فقصائده القصيرة المركزّة، المشحونة، المكثّفة، تكتنز بجمالية جارحة، وخلفها روح ندب لا تتسوّل الشفقة، بل هي تستفّز المتلقّي، وتضعه أمام الأسئلة الرهيبة: أكّل هذا الخراب، والموت، والخيانات، وقعت لنا ولم نفعل شيئاً، وما زلنا نواصل الحياة ببلادة وخنوع ؟!معجزة محمد لافي، ومن هم مثله، شديدة البساطة لكنها تعبّر عن عناد ثاو في عمق النفس:يوميّاً من (مقهي الروضة) حتي (ركن الدين)يمشي مشوارينيوميّاًذاكرة تنتصب علي قدمينيستحضر قائمة العمرخسارات العمرويختصر الأمر: القمر الأول بيروتوالثاني بيروتوالعاشر بيروتلا هو يحيا في جوف الحوت ولا في جوف الحوت يموت(حالة: نقوش الولد الضّال) تلك هي مرحلة ما بعد بيروت ـ بعد الخروج عام 82 ـ تشتيتاً في بلاد العرب، مرحلة اللاحياة واللاموت، مرحلة التيه والضياع والتبديد، مرحلة التفكك والتفتيت، مرحلة الخنوع والمساومة، مرحلة تغييب (يونس) في جوف (الحوت)، فلا الحوت يقيؤه ليعود حيّاً، ولا هو يموت في جوف الحوت ويريح كل أعدائه من حياة تغيظهم، وتخيفهم، وتتهددهم.لم يعد الشاعر في (الفاكهاني) ـ حيث الثورة في بيروت ـ فها هو يتسكّع بين الحي الدمشقي (ركن الدين) ومقهي (الروضة) الشعبي العريق في (الصالحيّة) قبالة مبني البرلمان، أي أنه يعيش حالة بطالة، وانتظار، واجترار أحزان.إنه يهذي بنداءات وصيحات علي من تبقّي من رفاق الأمس:للرفاق القداميلكّل الضحايا علي مذبح الأنظمةأربطوا الأحزمةقدّسوا في الممر الأخير جنونياتبعونيفقد آن أن تعقد المحكمة (نداء: نقوش الولد الضال) بعد تمزيق الثورة وتوزيعها علي الدول ـ القبائل ـ ومذابح صبرا وشاتيلا، والاقتتال الداخلي حيث قتل الأخ أخاه، هل بقيت إمكانية للتعقّل؟ الشاعر يصيح منادياً:اتبعوني فالممر الأخير هو ممر الماراثون لفلسطين، وثمّة من يساوم، ومن يفرّط، ومن يلقي السلاح تحت أقدام الأعداء.الشاعر ينادي: اتبعوني وما هذا بالجنون، بل هي الشجاعة، وروح المقاومة، وأصالة من أبعدوا وتمّ الالتفاف عليهم .يبتدون معييزهرون كمائن في أضلعييكتبون السري والبنادقلا يكتبون النشيجويضيّعهم من يدي في الممر الأخيرالفنادق، والقادة المتعبونونفط الخليج(هم: نقوش الولد الضّال)يفخر الشاعر بنفسه، ويحّق له، فهو:لم أكن رقماً في سجل الوظيفة أو ولداً صالحاً للزواجولم أحسب الحالة المقبلةولذا ظلّ خطوي نشازاًعلي سكّة المرحلة (مفاخرة: نقوش الولد الضّال)هذه المفاخرة تحرج (الموظفين) الذين شعرهم باهت مثل حياتهم، ومن كلماتهم جوفاء، شكل بلا معني، ومن هربوا من الميدان، ومن ينافقون ويبررون المرحلة، ومن لا تعنيهم سوي شهرتهم الفارغة:فليأكلوا لحمي كما شاءواوشاءت حكمة التسطيحلكنني سيّد من تبقّي منهمما دام هذا العمر شاشاً..في مهّب الريح!(هاتف الغيبة: مقفّي بالرماة)مقفّي بالرماة كسابقتها نقوش الولد الضال، صغيرة الحجم كراحة يد فتي، قصائدها صغيرة، وهي إمعان في تجربة الرحيل والشتات، ورثاء من رحلوا، وطرافة الحياة بتفاصيلها الصغيرة الخّاصة جداً.من بيروت إلي دمشق، حيث شرب لافي حسرة الفدائيين الذين (سرّحوا) من الثورة وحوّلوا إلي باعة خضار و(بالة) ـ ملابس قديمة تباع بأسعار زهيدة للفقراء، وهي تجلب من بلاد اوروبا في بالات ضخمة ـ فقادة الفصائل ما عادوا بحاجة لفدائيين، والمال الذي بين أيديهم يكنزونه للأيام (السوداء) انسجاما مع المثل القائل: خبئ قرشك الأبيض ليومك الأسود، وهم يفكّرون ويتحسّبون لأيامهم، ولمستقبل ( ورثتهم) الأقربين!يتحسّر لافي علي الزمن الذي راح، زمن الشجاعة والفعل، ولكن بدون مباشرة، بشجن، وغنائيّة فجائعيّة غاضبة، تعتبر من مميزات صوته الشعري الغني:أعلي من الولد البسيط حكاية المنفيوأعلي من كؤوس الشاي في المقهيوأعلي من محاولة لرسم حبيبة علقت به يوماًلعل همس الكمان ورمشها ذبّاحأعلي من الأمواج فيهومن مشاريع الخليّة والسري معهاوأعلي من زمان راح(أعلي: مقفّي بالرماة)في كلمة الناقد الكبير الدكتور إحسان عباس في مقدمة مجموعة ( مقفّي بالرماة) نقرأ:ولو مضيت أعّد الشواهد في (دفتر ابن لافي النحيل) لأعدت أكثر قصائده، وليس ذلك هدفي، بل أن أوجّه الانتباه، أي أقول كما يقول لافي: انتبه علي ظواهر كبيرة في قصائد قصيرة.أنا أقول ما قاله الصديق الكبير الراحل إحسان عبّاس، الذي سمعته في بيته يتحمّس لقصيدة ( لافي) القصيرة المتميّزة في شعر هذه الأيام.محمد لافي هو شاعر (لا) الدونكيشوتي، الذي مع كّل ما يراه من خراب وسقوط، وربّما لهذا بالضبط، تراه يتشبّث بـ(لائه) ويمضي تحت رايتها، رافضاً الخراب، فاضحاً ومديناً من تسببوا به، محيياً ذكري من رحلوا كي يأتي زمن الحريّة، متشبّثاً بالسير علي الطريق ولو بقي وحده، متسلّحاً بقصائده، وبروح أسلافه الشعراء الصعاليك الذين يستعيد ذكراهم في قصائده، مستلهماً أنفتهم، وصهيل خيولهم، وتحمّلهم الجوع والعطش في صحراء العرب، منشدين بكبرياء، سعداء بحريّتهم وكرامتهم بعيداً عن قبائل الخنوع.مرّ لمع الخنادق مرّ نشيد القريوالشبابيك مسبيّةوالفضيحة أعلي من الناي(يا حيف) لم يتبّق من العمر أكثر مّما مضيلأري قامتي ـ من جديد ـ تشّق مدي القافلةوأري غضبي يكتب الأنبياء الصعاليك بعديعلي راحة القابلة(هاتف المغنّي: مقفّي بالرماة)في مجموعته الأخيرة (لم يعد درج العمر أخضر)، يكتب لافي القصيدة الطويلة، كأنما يقوم بجردة حساب للعمر الآفل، وللتجربة:هدأ الرقصلم يتبقّ سوي قائمة القتلي وخنادق تلعب فيها الريح وخيل أتعبها التصهالشوارع ترحل للضّدوذاكرة زوّجها المنفي للنسيانهدأ الرقص الآنما ظلّ علي المسرح إلاّ طاووسينقصه الريشوقافية ينقصها الشعروكاكي تنقصه الطلقةما ظلّ علي المسرح إلاّ أشباه الفرسان هذا المقطع ـ المدخل للقصيدة الطويلة التي تحمل عنواناً يقول الكثير (من أوّلك إلي ..آخرك)، فـ(هو) الذي ركب الرأس ـ الدونكيشوتي ـ المنحاز (للضواحي)، والذي احتفل بالجنوب المقاتل، هاجي القبائل، يذكرنا بصعلكته، الذي عاش علي بعد خطوة من أن ينضم للملصقات علي الحيطان.هذه واحدة من القصائد التي كتبها في العاصمة الأردنيّة (عمّان) بعد أن غادر بيروت ودمشق، هو يكتب (وحيداً) فلا أصدقاء، ولا رفاق، ولا أناشيد ثورة وأمل، ولا حيّاة تضّج بالوعود، ولا معركة لا تتوقف ليل نهار.إنه مع نفسه، وذاكرته، وذكرياته، وحرقة روحه من كل ما حصل:والآن في مشارف الستين تنحني الخطوطوكل شيء في يدي يموت لا برق قدّامي ولا مدي يؤجّل التابوتوكل ما بنيتهفي العمر.. بيت عنكبوت أهو اليأس، أم الندم، أم القهر من كّل ما حدث؟إنه غاضب، يخاطب (شخصه) الثاني، كأنما هو منقسم إلي اثنين، واحد يمضي علي الطرق التي هي أنثي لخطاه، وواحد ضاع وتبدد عمره:لست ظلّي، ولست شبيهي إذاًدارت الدائرات عليك،ولم تنتبه للذي قتلك لست ساريتي في المسار غداًضاعت الطرقات، وخان الدليلوسبّح باسم الغزاة ولم تقرأ النار في كل شيء هلكولأنه أصيل، فهو يخاطب الأصيل في شخصه، ذلك الذي لا خيار له سوي الناس، والوطن، والكرامة، والصدق:لست فاتحة الصلوات، ولست الملك إذا لم تطف في بيوت الأرامل كل صباحوتلقي التحايا علي ملصقات الخيوللست ظلّي الظليلإذا خطفتك المدينة من راحتي أن يكون مع الناس، ولهم، صوتهم، شاعرهم، مثقفهم العضوي، بهذا يتصالح مع نفسه، و(يخرج) من داخله (حالة) الضعف المتجـــسدّة في شخص يشبهه. إنه هو شبيه نفســــه، لأنه وفي للخيول التي صهـلت وملأت البراري ركضاً، والتي صورها علي الجدران هي التي أعطت شبابها. إنه هو الأصيل الوفي لأرامل من صهلوا، وضحّوا، ونسوا ـ بضّم النون ـ وباعهم الدليل.يستعيد لافي في مجموعته الأحدث (لم يعد درج العمر أخضر) أمكنة عاش فيها في طفولته الشقيّة، طفولة اللجوء في مخيم (العوجا) القريب من (أريحا)، وهو إذ يستعيد المكان يستذكر البنت التي رشقها بنظراته وتولدن معها، وتحضر شخصيّة الأب، لا كما عند بعض الشعراء، بهيّةً، طيبةً، أليفة، يجدر أن تؤبّن كما يليق بها، بمعاناتها، بحدبها ورعايتها وشظف العيش الذي عاشته وكابدته لإنقاذ السرة بعد ضياع القرية مسقط الرأس عام 48:في القلب جائحة وفي الروح انهدامما زلت أركض في شوارعلا يضيء لها ذماموالصحب من ألف هنا ختموا مسيرتهم وناموالا أدّعي شجراً،ولكّني حصانك ينهب الفلوات في المنفيوقد فلت اللجام أبتي، عليك تحيّتي ما أورقت في الشعر قافيةوما هدل الحمامرحل الأب، ومحمد حمل المنافي في روحه و(عاد) إلي (المخيّم) قرب عمّان، محمّلاً بالحزن، والحسرات، والخيبات، وممتلئ الروح بالعناد.الأب، حبل السرّة بالوطن، رحل، وها هو ذا يناديه نادباً مقهوراً:أبتي في المّمر الأخير سلام عليك سلام علي ما مضي من رنين الخطي وقوافي الطفولة، والجنّة الضائعة وسلام علي الموت منتشراً في الكتابة كالشائعة ہہہفي الممر الأخير سلام عليك لم يعد درج العمر أخضر ما عاد ناي الرعاة دليل الفتي لحقول يديك كل ما شيدته السواعد يسقطفوق الرؤوس كما القارعةأبتي، ضيّع الحلم منذ ثلاثين عاماً هنا .. شارعه قصيدة (لافي) واضحة، بسيطة، عميقــة، قصيدة تجـــربة، ومعاناة، و(رؤيـــــة)، تبشّر ولكنها تقــــلق، تهّز الروح، تساعد علي شــــحذ الوعي، وتبصير السارين بمن سيبقي معهم، ومن سيخونهم في منتصف الطريق.قصيدة (لافي) يمكن أن تعرفها في وسط شعر كثير هو (رّص) كلام منمّق أصحابه لم يعيشوا (تجربة)، همومهم قاصرة.هذا شاعر جدير بأن يصل صوته الشعري الكبير إلي القرّاء العرب، فهو صوت معاصر فعلا، حميم، غنائي، محرّض علي التأمّل، شاعر غضب، وشجن.محمد لافي شاعر يعـرف ماهو الشعر، ويقول معرفته شعراً، ويعرف لمن ينحاز بموهبته الكبيرة، ولمن ينشد غناءه.ہ في هذه الكلمة المتواضعة توقّفت عند المجموعات الثلاث الأخيرة للشاعر محمد لافي، وهي : (نقوش الولد الضّال) الصادرة في دمشق عام 1990 عن الاتحاد العام للكتّاب الفلسطينيين، و(مقفّي بالرماة) الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 1993، والمجموعة الأخيرة (لم يعد درج العمر أخضر) التي صدرت عن وزارة الثقافة الأردنيّة في العام 2005.لم أعثر علي المجموعتين الأوليين للشاعر (مواويل علي درب الغربة) الصادرة في عمّان عام 73، و(قصيدة الخروج) الصادرة في دمشق عام 85.0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية