محاكمة صدام بين مأزقين.. فهل تخرجها استقالة القاضي رزكار منهما؟

حجم الخط
0

محاكمة صدام بين مأزقين.. فهل تخرجها استقالة القاضي رزكار منهما؟

علاء اللاميمحاكمة صدام بين مأزقين.. فهل تخرجها استقالة القاضي رزكار منهما؟ استقالة أم إقالة: جاءت استقالة السيد رزكار أمين القاضي الأول في المحكمة الجنائية الخاصة والمكلفة بمحاكمة صدام حسين ومجموعة المسؤولين في نظامه وقبل عدة أيام من عقد الجلسة القادمة، لتضع أداء هذه المحكمة علي طاولة التقييم والبحث ونشر الشائعات والحقائق. فالقاضي المستقيل تعرض للكثير من النقد والاتهامات باعتماد الليونة والتساهل مع المتهمين خلال المحاكمة، ودافع البعض عن أداء القاضي الذي يأتي مختلفا عن الأداء المألوف في المحاكم العراقية والعالمثالثية عموما في الأنظمة الشمولية والاستبدادية التي هي خليط من عمليات الانتقام السياسي والتشنيع المعادي ضد خصوم حرموا من مواصفات المحاكم العادلة والاحترافية. لا يمكن بطبيعة الحال اعتبار المحكمة التي قادها القاضي رزكار أمين نموذجية وكاملة ولكنها، وهذا ما أثار السياسيين، اقتربت كثيرا من نموذج المحكمة كعملية قضائية مستقلة عن الخلفيات والبواعث السياسية ويمكن إيراد العديد من الهنات التي ارتكبها القاضي الأول ولكن القضية المركزية التي عانت منها المحكمة ككل كانت تقع خارجها وتحديدا في عالم السياسة والأحزاب المتصارعة علي السلطة والحقائب الوزارية والتي آخر ما يهمها إجراء محاكمة شفافة وعادلة لدكتاتور حكم البلاد بالحديد والنار والدم طوال ثلاثة عقود ونصف ولنظام لم يترك أسرة عراقية دون ضحية أو ضحايا إلا في العزيز النادر. اللافت للانتباه أن حجم الاهتمام باستقالة القاضي من قبل الرأي العام والنخبة السياسية والمثقفة العراقية عموما كان كبيرا وكان عدد من المواقع العراقية علي شبكة الانترنت الدولية وفي مقدمتها موقع www.albadeeliraq.com وهو من المواقع العراقية الوطنية المناهضة للاحتلال الأمريكي قد تابعت استقالة القاضي الأول في المحكمة الجنائية الخاصة ساعة بساعة ونشرت الكثير من التفاصيل المتعلقة بهذا الشأن الذي اكتسب أهمية متفاقمة في الشارع العراقي، وذهب بعضها إلي القول أن خطابا حادا ألقاه سماحة السيد مقتدي الصدر، وانتقد فيه أداء المحكمة والقاضي رزكار كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير وسرَّعت عملية تقديم القاضي لاستقالته وإصراره عليها رغم أن محاولات جرت وأخري مازالت تجري بهدف ثني القاضي المستقيل عن استقالته ورغم تعيين قاض جديد رغم عدم بت الجهات التنفيذية بأمر الاستقالة حتي الآن مما جعلها أقرب إلي عملية إقالة دُفع القاضي رزكار إليها دفعا أكثر مما هي استقالة طوعية بادر هو لتقديمها، فهل ستبارح المحاكمة مأزقها المركب بعد أن بارحها قاضيها الأول؟ وما هي طبيعة هذا المأزق؟مأزق مركبثمة مأزق مركب يلف محاكمة الرئيس العراقي السابق وأعوانه المقربين وهو في الواقع يستبطن مأزقين: إذ لا يمكن لأعضاء هيئة الدفاع في هذه المحاكمة ـ وهي عراقية عربية دولية بشكل رمزي أكثر منها فعلي ـ أن ينكروا أو يقفزوا علي التناقض العميق التالي بين أمرين: التشكيك بقانونية وشرعية واختصاص المحكمة من جهة والتعاطي معها ومع سياقاتها الإجرائية بشكل عادي تماما وكأنها شرعية وقانونية. كما لا يمكن لرئاسة المحكمة وممثلي هيئة الادعاء العام فيها أن ينكروا أو يقفزوا علي التناقض التالي بين أمرين: الزعم باستقلالية وحيادية القضاء العراقي وبالتالي هيئة المحكمة نفسها والدفاع عن ذلك الزعم والتعاطي مع جيش احتلال أجنبي يحتجز المتهمين الذين تحاكمهم بل وتحمي ـ تلك القوات المحتلة ـ المحاكمةَ ذاتها في منطقة محصنة. هذان المأزقان سيضببان المشاهد التي ستتري في جلسات ستغدو بالتدريج المقصود والمخطط له معتادة فمملِّة فعديمة القيمة القضائية أخيرا، وبهذا ستكون الاستراتيجية الاحتلالية قد نجحت في إجراء أخطر وأهم محاكمة في القرن الحالي ولكن كلعبة إلكترونية تلفزيونية تقوم علي الفطنة في حبك السيناريو والحيل السينمائية أولا وأخيرا وليس كسياق قانوني وقضاء يبتغي الحقيقة ويحاول تمكين الشعب العراقي وشعوب المنطقة ككل من فهم حقيقة ما حصل للعراق وفي العراق خلال عهد صدام حسين الطويل وما هي مسؤولية الغرب والولايات المتحدة تحديدا عن كل ما حصل. المأزق المركب المشار إليه والدور الأمريكي تحديدا سيجعل فرزَ ما هو قضائي قانوني عما هو سياسي ومصلحي أي مرتبط بمصالح القوي المسيطرة علي الأرض العراقية صعبا إن لم نقل أقرب إلي المحال.مفخرة من هشيم لو لم تجرِ محاكمة صدام تحت ظلال الاحتلال ـ وهذا هو المأخذ الأول لغالبية الوطنيين والاستقلاليين المناهضين للاحتلال عليها ـ لكانت بالفعل واحدة من مفاخر القضاء العراقي نادر المفاخر والذي هشمه الدكتاتور صدام نفسه شرَّ تهشيم !يأخذ البعض علي القاضي الأول في هذه المحكمة السيد محمد أمين رزكار أنه كان رقيقا ولين العريكة مع صدام ومجموعته، ويوسع البعض من هذه الفكرة فيجعل صفة الضعف شاملة للمحكمة ككل حتي بلغ الأمر دعوة بعض النواب إلي التصويت في الجمعية العامة لتغيير القاضي الأول.إن منطق القائلين بهذه الفكرة هو منطق الراغبين بمحاكمة سياسية انقلابية من النوع المألوف في المحاكم الانقلابية الصورية التي لا تدوم إلا بضع دقائق وتنتهي بإطلاق الرصاص علي رؤوس المتهمين ..فلنذكر ـ مثالا لا حصرا ـ المحاكمة الصورية في غرفة الموسيقيين في دار الإذاعة العراقية بعد نجاح الانقلاب القومي اليميني بقيادة البعث العراقي في الثامن من شباط (فبراير) 1963، تلك المحاكمة الدموية والتي لم تدم سوي بضعة دقائق حكم بعدها الانقلابيون علي رئيس الوزراء ومؤسس الجمهورية العراقية الزعيم عبد الكريم قاسم وعدد من رفاقه الأسري بالإعدام رميا بالرصاص. وقد نفذ الحكم فورا ثم عرض الانقلابيون جثث القتلي علي شاشة التلفزيون العراقي في مشاهد مكررة يظهر في نهايتها مسلح من مفرزة الإعدام وهو يبصق علي وجوه القتلي ! حزمة أسباب ملتهبة يمكن لنا أن نتفهم ونفهم دوافع هذه الفئة من العراقيين الراغبين أو المندفعين أو المحبذين لمحاكمة انقلابية سياسية ذات نزوع ثأري وانتقامي أكيد، وهي فئة واسعة دون شك. واتساعها له أسبابه الكثيرة وفي مقدمتها :ـ ضخامة وفداحة الجرائم والممارسات الدموية لنظام البعث العراقي بعد انقلاب 17 تموز (يوليو) 1968 والانقلاب الذي سبقه ذكرا وتاريخا.ـ انعدام أية تقاليد أو ثقافة قضائية راسخة ومستقلة في العراق وعموم الدول العربية ربما باستثناءات نادرة يأتي في مقدمتها القضاء المصري.ـ مضاعفات وتبعات جرائم الاحتلال والإرهاب التكفيري المستمرَين علي جماهير الناس من جهة والحالة الجهنمية للخدمات العامة التي يحيا في ظلها الناس.ـ انتهازية وهشاشة النخبة السياسية وخصوصا قادة الأحزاب الموالية للاحتلال ومحاولتها جعل محاكمة صدام أحد السلالم غير المبدئية لتحقيق وبناء شعبية انتــخابية عاجلة.ـ الموروث المجتمعي القبلي العراقي القائم علي عقلية الثأر والنزعة الانتقامية وطغيان الغريزة علي آليات اشتغال العقل النقدي الحر. يقتضي الإنصاف القول أن القاضي الأول ـ وقد سجلنا تحفظنا بدايةً علي كون محاكمة الطاغية ومجموعته تجري تحت ظلال الاحتلال وفي بلد منزوع السيادة ـ كان مسيطرا علي مجريات الأمور، وكان من الناحية المهنية رصينا وهادئا رغم بعض التوتر والهنات (ونحن نكتب بعد الجلسة الثالثة من المحاكمة). لقد ترك القاضي لصدام أن يقدم استعراضاته السياسية الخطابية ومحاولاته التعويضية لاستخدام المصحف الشريف والاحتجاج علي تصرفات جنود الاحتلال وشرطة الحكومة المتحالفة معهم: واستطاع ـ القاضي ـ أن يسير بالمحاكمة في الطريق القضائي ويكسب نقاطا ثمينة من المتهمين الذين رفضوا في الجلسة الأولي حتي النطق بهوياتهم الشخصية ومن ذلك :ـ سُجِّلَ اعتراف برزان التكريتي مدير المخابرات العراقية خلال مجزرة الدجيل بجلال الطالباني كرئيس للجمهورية وذكر أيضا رئيس الوزراء في معرض تمسكنه وتذكيره بطلبه التحريري بالانتقال إلي مستشفي للعلاج.ـ سجل توقيع صدام علي وثائق المحكمة الخاصة بتوكيل المحامين وبالقاضي الذي كان صدام يخاطبه بعبارة سيادة القاضي الأول .ـ تمكن القاضي والمحكمة ككل من كسر هيبة وعنجهية المتهمين وتقدم كثيرا علي طريق تحويلهم إلي مجرد متهمين عاديين يخضعون للقضاء ضمن منهجية التعويد والتعود.ـ تمكن أيضا من كسب جزء من الجمهور والمتهمين من خلال إحداثه فجوة صغيرة بينه وبين سلطات الاحتلال والحكومة الحليفة له حين احتج علي تقديم المتهمين وهم يرسفون بالقيود والأغلال ووافق علي طلب قراءة الفاتحة علي أرواح المحاميَّين المغتالَين، وحين أمر بإعادة اليشماغات والعُقل والأوراق إلي المتهمين .. ثمة أيضا العديد من الهنات والأخطاء التي وقع فيها القاضي الأول من ذلك مثلا:ـ تكراره لكلمة نعم كلما قال أحد المتهمين شيئا بما فسره البعض بالموافقة علي كلام المتهم في حين أنه ربما كان يقصد التواصل في الاستماع.ـ لم يكن القاضي موفقا حين أعلن عن رفع الجلسة الثانية للتداول لعشر دقائق حول موضوع موعد الجلسة القادمة دون أن يعود من التداول لتأكيد قراره أو طرح قرار جديد.ـ لم يكن حاسما مع ممثل الإدعاء العام الذي أعاد بث لقطة مجزرة الدجيل القصيرة عدة مرات كنوع من البرابوغندا الحزبية، ولا مع المنادي أو المترجمين الذين كانوا يتصرفون بسذاجة وبطء لا يطاقان. خلاصات وتساؤل: ومع ذلك، وعلي الرغم من كل ذلك، وربما بسبب ذلك، يمكن النظر إلي الجلسة الثانية والثالثة والمحاكمة ككل علي إنها:ـ مرفوضة سياسيا وتاريخيا لأنها تجري في ظل الاحتلال الأجنبي وفقدان السيادة الحقيقية والاستقلال الوطني الفعلي.ـ مرضية نسبيا من الناحية التقنية والإدارية والقانونية.ـ تقدم مثالا رياديا وتأسيسيا في القضاء المستقل والحيادي عن السلطتين الأخريين التشريعية والتنفيذية بوصف القضاء هو السلطة الثالثة المستقلة.ـ واعدة وباعثة علي التفاؤل في ميدان تثقيف الجمهور العراقي وسحبه بعيدا عن عقلية الغدر والإدانة الانقلابية المسبقة التي كان البعث وحكوماته مثالا صارخا لها والنأي بالمجتمع والشباب خصوصا عن تقاليد الثأر القبلي والنزعة الانتقامية الغريزية لدي الميليشيات السلفية الشيعية والسُنية ونشر ثقافة الإصلاح والمسؤولية الأخلاقية والتسامح وسيادة القانون والقانون فقط.ـ ممسوكة مخابراتيا من قبل مخابرات الاحتلال بشكل جيد، وقد ظل الجمهور يلاحق شبح المخابرات الأمريكية في بث اللقطات واختيار زوايا التصوير التلفزيونية وفترات الصمت المريب ومحاولات غلق الأبواب التي ألحَّ القاضي رزكار عدة مرات علي ضرورة إبقائها مفتوحة. وأخيرا فقط أظهرت هذه الجلسة الدكتاتور بحجمه الحقيقي، حجم المتهم بجرائم لا تحصي، والفاقد لأي دعم أو سند مما دفعه للبحث عن سند أو دعم في غياهب الوعي الشعبي والمقدسات الدينية ومن ذلك لجوئه لحمل مصحف شريف معه وثم الشكوي للقاضي من إنه كان يعاني من حمل المصحف وهو مقيد بالكلبتشات ويصعد السلم بسبب تعطل المصعد الكهربائي. لا ندري لماذا لم ير العراقيون صدام حسين طوال فترة تسلطه وهو يحمل مصحفا شريفا ؟ اللهم إلا إذا تذكرنا تلك الحماقة الخطرة حين نفذ نذرا نذره بأن يكتب المصحف بدمه جاهلا بأن الدم من الأعيان النجسة مثله مثــــل البراز، الأمر الذي يعرفه أبسط طالب في المدارس الدينية، ولكن علماء الدين من المشتغلين بالقطعة في البرامج الفضائية الخليجــــية وغير الخليجية سكتوا عن تلك الحماقة التي تمثل أكبر إهانة للقرآن الكريم بوصفة الكتاب المقدس الذي توقره وتقدسه مئات الملايين من البشر.حسنٌ، يحق لمن يشاء أن يحمل المصحف الشريف معه ويدخله إلي قاعة المحكمة ولكن هل سيكون حامل المصحف ـ سواء كان في هيئة الدفاع أم الإدعاء ـ قد حل بفعله هذا الاستعصاء الذي هو فيه، وهل بدد المأزق المركب الذي تعاني منه هذه المحكمة العجيبة؟سؤال للتأمل أكثر منه للإجابة السياسية المسلوقة سلقا!كاتب من العراق يقيم في جنيف8

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية