مثقفون ضحايا وجلادون مقوضات النظام الاشتراكي العالمي : في ذكري الراحل العراقي عامر عبد الله

حجم الخط
0

مثقفون ضحايا وجلادون مقوضات النظام الاشتراكي العالمي : في ذكري الراحل العراقي عامر عبد الله

محمود البياتيمثقفون ضحايا وجلادون مقوضات النظام الاشتراكي العالمي : في ذكري الراحل العراقي عامر عبد اللهبعد موت ستالين خضع عهده، طوال النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع القرن الحالي، لدراسات وبحوث مستفيضة، بينها بحث المرحوم عامر عبد الله: مقوضات النظام الاشتراكي العالميہہ. لم ينل البحث ـ الكتاب اي اهتمام، لا من رفاق عامر عبد الله، ولا من معارضين لرخاوة موقفه المحزن من الحرب المستمرة علي العراق منذ عقدين ونصف.قبل تفكيري بعرض الكتاب شاهدت مرة اخري في التلفزيون والفيديو دكتور زيفاغو المقتبس من رواية بوريس باسترناك (1890 ـ 1960). الفيلم من اخراج دافيد لين وبطولة عمر الشريف. اما الرواية، وهي اعمق من الفيلم، فصدرت بسبعمئة صفحة عام 1957، ونالت جائزة نوبل في العام التالي، لكن باسترناك رفضها بضغط من سلطات موسكو في عهد خروتشوف والحرب الباردة.تعقيباً علي هذا الرفض يسترجع الكساندر بورشاغوفسكي (1) بالتفصيل دقائق ذلك اليوم الذي اجتمع فيه كتّاب موسكو ليطردوا باسترناك (الشاعر والروائي والمترجم الفذ) من اتحاد الكتاب. تم فعلا طرده بالاجماع (شخص واحد امتنع عن التصويت) بدون قراءة دكتور زيفاغو ، وهي التهمة الرئيسية او الوحيدة، وبدون اخذ رأي باسترناك ذلك الانسان النقي والنزيه الي اقصي حد . يقول بورشاغوفسكي باستخفاف: اعلم ان البعض يتبجح بالتغيب عن ذلك الاجتماع، ويتبجح آخرون بانهم لم يرفعوا الايدي، بل دسوها في اعماق الجيوب، لكن هذه مراوغات رخيصة لا اكثر. فقد اقتَرفَ جريمةً اخلاقية مئات الكتاب الذين كانوا اما خائفين من خروتشوف الذي لم يقرأ الرواية هو ايضا او طامعين برفاه مادي او بطبع مخطوطات او بمنصب.يضيف بورشاغوفسكي: لم يُلحق الطرد الخزي بالشاعر باسترناك بل بمن طردوه. اشيع لسنوات ان رواية دكتور زيفاغو تعادي الثورة، وهي لم تكن كذلك، بل كانت تعادي ثوارا وآذوا تطلعات الثورة بسلوكهم المتعسف وتنكيلهم بابنائها الشرعيين.وماذا عن بولغاكوف، مبدع المعلم ومرغريتا الشهيرة؟ يرد الكاتب والمخرج يفغيني غبريلوفيتش: ـ لقد نُبذ وعزل وسحق مع آخرين، كتشوستاكوفيتش، بودوفكين، فرتوف، ارنبورغ، ومئات غيرهم.جوزف برودسكي، اتهم بالتهرب من العمل، امضي سنوات في معسكر اعتقال، وبعد الافراج عنه (خضوعا لمطلب الرأي العام المحلي والعالمي) هاجر الي امريكا وفاز بجائزة نوبل للآداب.آنا أخماتوفا، مكث ابنها في معسكر اعتقال 15 عاماً، قتل زوجها السابق في السجن، منعت هي من النشر 17 عاماً فأحرقت، في لحظة يأس، بعض قصائدها، وتوقفت عن الكتابة فترة طويلة. لم تكن تتكلم مع الأصدقاء إلا بالقلم والورقة، لوجود أجهزة تنصت في بيتها كما قيل.مارينا تسفيتايوفا، عادت من فرنسا إلي روسيا قبل الحرب العالمية الثانية، مات زوجها في المعتقل، وفقد ابنها، وامضت ابنتها سنوات في معسكر أعمال شاقة.يقول سولومون فولكوف: علي خلاف الكثير من القادة السياسيين في القرن العشرين، يمكن اعتبار ستالين من المهتمين والمعجبين بالثقافة (…) كان يولي الفنون اهتماماً كبيراً، ويحترم الثقافة الرفيعة ومبدعيها. لكنه كان يتخلي عن موقفه هذا، أحياناً، لأسباب سياسية (2).احيانا. بهذه الـ (احيانا) تتعلق وقائع تنكيل لا تحصي في كتاب عامر عبد الله مقوضات النظام الاشتراكي العالمي الذي لم ينل للأسف ما يستحق من اهتمام واشادة منذ صدوره عام 1997.مقوضات النظام الاشتراكي العالميهذا كتاب / صدمة، ذو مناخ مفعم بالحزن والقسوة والعبر. تكاد تحس، وانت تقرأ، خفقان قلب جريح يهفو الي سرد التاريخ بكل وقائعه، ورد الاعتبار الي الحقيقة التي لا يمكن مجافاتها الي الابد.يشخص عامر عبد الله الأصول النظرية للقمع الذي اقترن (بالتطبيق المشوه للاشتراكية) معتمداً علي ادبيات ماركس، انجلس، لنين، ستالين وغيرهم. كما يستعرض، بالحاح مقصود وصائب، وقائع مروعة شهدها النظام الاشتراكي منذ بدايات التأسيس في 1917، والي الانهيار المدوي عام 1991.وإذ يحدق القارئ بانبهار وحرج الي ذلك الركام المذهل من الانحطاط والفظائع والانتهاكات، التي اقترفها الحزب الشيوعي السوفييتي، سيتذكر حتماً (الشيوعي العراقي علي الاخص) انتهاكات مماثلة اقترفتها قيادات احزاب (وهي خارج السلطة) بحق اعضاء ومثقفين وكوادر ذكية وحتي قادة لا شك في نزاهتهم. سنتجاوز منجزات اكتوبر المعروفة، فهي لا تلطف ما حدث رغم عظمتها، بل سننتقي امثلة ترسم ـ بالاسود والابيض ـ مقطعاً من مأساة يميط اللثام عن بعضها هذا البحث.ہہہلمّا تسلم (بيريا) رئاسة لجنة أمن الدولة، تابع نهج الاسلاف في الاجهاز علي رفاق في قيادة الحزب. كما اتهم سلفه (ياغوم الذي نحي مع آخرين عام 1939) بأنه كان مخبرا للقيصر، واكد هذا ميكويان فاقتنع ستالين وأمر بارساله الي مصح للامراض العقلية حيث وجد ذات يوم معلقا الي غصن شجرة مع بطاقة تتدلي من العنق، تقول انا جيفة نتنة! .وخلال التصفيات والملاحقة، ابتُدعت تهم جديدة كالاحجام عن نقل الاحاديث الشخصية، او التعامل مع عناصر مشكوك فيها. وكانت تقطع الروابط بكل من يطرد من الحزب، فضلا عن تحريض الزوجة علي الانفصال عن زوجها، وتحريض الابناء علي الاباء. وتم طرد قادة من احزاب شيوعية اخري لعدم وقف العلاقات مع يوغسلافيا (بزعامة تيتو المتهم آنذاك بالانحراف عن النهج الماركسي اللينيني) ومن هؤلاء، مثلا، المفكر والاديب اللبناني (رئيف خوري) الذي مات منبوذا من الحزب، والمناضل الشيوعي البارز (هاشم الامين) الذي مات بعيدا عن وطنه.الذين كانوا يُقصون عن مواقعهم القيادية او من الحزب يوصفون كأناس وهنت عزائمهم، كلَّت سواعدهم، نفدت ذخيرتهم، وتعطلت مواهبهم . طالت هذه المظالم عددا كبيرا من الكتاب الموهوبين امثال (زمياتين) الروائي الذي وصف بـ العدو الطبقي، الكولاكي، المبتذل، الرجعي، الجاسوس، والثور المتوحش . كان ستالين، الذي يتحكم في ميدان الثقافة عيَّن (يازيف) وهو عامل عادي، مشرفا علي شؤون الادب والفن. شاع هذا الازدراء للمثقفين في العشرينات. وترسخ اتهامهم بالازدواجية، والركاكة، والتسكع وراء الزمن! اما المحاكمات فقد اتهمتهم بالعمالة. كان بين هؤلاء العالم الكبير (مولتسوف) رئيس معهد (البايولوجيا). اتهم بمحاولة تكوين حزب لأنه دعا منتسبي المعهد الي الحوار، والنتيجة كانت ملاحقة، اعتقال،اعدام. وسأل كريلينكو المدعي العام ابنة الروائي الفذ تولستوي (الكسندرا): ـ ماذا فعلت اثناء لقائك مع هؤلاء؟ أجابت ببساطة وصدق وعفوية: ـ كنت اغلي الماء علي السماور! (4)صدر حكم عليها بالسجن ثلاث سنوات والابعاد الي معسكرات الاعتقال. كان (الكسندر فاديف) رئيس اتحاد الكتاب السوفييت انتحر (1956) بعد مواجهة مـــــع زملاء سخــروا من مواقفه التي بررت الاضطهاد واسهمت في ابعادهم الي معسكرات الاعتقال. بعث قبل الانتحار رسالة الي اللجنة المركزية: كنت اظن اني احرس معبداً، واذا بي احرس مرحاضاً في ثكنة عسكرية .ولكي يبين لنا الباحث (عامر عبد الله) حلكة السواد، يضع اللون الابيض علي نفس القماش بإدراج قول ماركس: ان انتسابنا الاول، انا وانجلز، الي خلية شيوعية سرية تم وفق شرط حتمي اشترطناه، وهو ان يحذف من النظام الداخلي كل ما قد يؤدي للخضوع الي اصحاب السلطة او ذوي المقام . ومعروف ان لينين لم يلجأ، طوال وجوده علي رأس الحزب، الي اسكات المعارضين، لم يدعُ الي معاقبة او اقصاء أي معارض داخل القيادة. بالعكس، احتفظ بعلاقات ود وصداقة مع من كانوا موضع تنديده. لم يفرط بعضوي المكتب السياسي (زينوفيف وكامينيف) رغم معارضتهما العلنية للثورة. ويروي الكثير عن حرصه علي الانصات الي الآراء المناقضة لآرائه. كان يتذمر لدي تغيب المعارض تروتسكي عن الاجتماع: اني لا اكاد افهم الامور جيدا بغياب تروتسكي. كان يصف خلافات الحزب الداخلية بأنها امر طبيعي، وستالين اعتبرها انحرافا، جريمة، ارتدادا، وخيانة . كان يضع الحواجز بين الخلافات السياسية والعلاقات الانسانية. لذلك امر بمساعدة مارتوف (3) مالياً حين عولج في المانيا من داء السل. ولدي مرض بليخانوف طالب بتأمين العلاج في مصح، وعند الوفاة، طالب بإقامة تمثال له، وبقي يلوم الزملاء علي اهمالهم قبري بليخانوف واكسيلرود. لم يكن يتواني عن انتقاد النفس. فعل ذلك وهو يراجع قسوة المواجهة مع (مارتوف) والمناشفة في المؤتمر الثاني للحزب، قال: لماذا واجه بعضنا البعض كأعداء ألداء. فأنا حين اتذكر هذا المؤتمر وانطباعاتي عنه، اري اني تصـرفت غالبا تحت تأثيـر الغضـب وببلاهة. وها انا الان مستعد للاعتراف بخطأي هذا الذي نتج عن جو المؤتمر، وردود الفعل، والاجابات السريعة، والصراعات…انجز عامر عبد الله البحث استنادا الي مراجع عديدة بينها مؤلفات الروائي (سولجينستاين) الذي حُبس وابعد الي معسكرات الاعتقال، واضطر للهجرة الي خارج البلاد عدة سنوات، ومع ذلك ظل يؤكد انه لم يقتنع او يؤمن بغير مذهب الماركسية والاشتراكية. ثم يدلي الباحث، كشاهد عيان، بإفادة مؤلمة: ـ ليس هناك، كما اري، من اسلحة فتاكة، او قوة غاشمة ـ سواء كانت سيفاً، ام مقصلة، ام رصاصة ـ قادرة علي تهشيم البنية الاخلاقية والانسانية للانسان، او اضعاف مروءته وصدقه وشجاعته، او تشويه خصاله وسجاياه، او تحطيم عزيمته، ما يوازي فعل واحكام واجواء الحزب، او نزعات ونزوات بعض قادة الحزب. هذا ما وقع وتكرر في معظم الاحزاب، وطال مواقف زعماء وقادة افذاذ وشجعان (…) وقع لبعض قادة الاحزاب العربية ايضا، منهم الشهيد (فرج الله الحلو) الذي اُكره علي ادانة نفسه، والشهيد (محمد حسين ابو العيس) الذي واجه الموت بشجاعة خارقة بعد انقلاب شباط المشؤوم (الذي جاء بحزب البعث الي السلطة في العراق عام 1963 بدعم امريكي ـ م أ) كان يبدو مستهينا بالموت ولكن يقول، انه ليأسي ان يموت وهو مدان بالتكتل والانحراف اليميني من قبل قادة الحزب!وفق هذا الايقاع المأساوي ـ يقول الباحث ـ دان نفسه المرحوم زكي خيري (احد كبار مفكري الحزب الشيوعي العراقي) في نقده الذاتي عام 1962: (…) لم تستطع سنوات السجن ان تصهرني كجندي من جنود الحزب والحركة الاممية (…) اما العامل الثاني الذي ساقني الي سلوك سبل المعارضة الانتهازية فكان النقص في تصلبي الفكري والسياسي فضلا عن ضيق الافق القومي والجمود العقائدي (…) كما ان طموحي غير المشروع قد اعماني احيانا (…) وكذلك استخفافي وعجرفتي ثم دفاعي عن التسيب الليبرالي وافتقاري الي الجرأة الشيوعية . وتحدث عن محاولة فرض الخط المارتوفي الصارخ بدلا من القواعد اللينينية والضبط البرولتاري . ومضي قائلا اشجب بكل قواي سلوكي الخاص الذي اتسم بالوصولية، والسلوك اللامبدئي الغريب عن الاخلاق الشيوعية والذهنية البروليتارية .ويتساءل عامر عبد الله بمرارة، هو الذي يعرف عن كثب رفيق الكفاح: هل كانت هذه الحقيقة؟ هل كان زكي خيري حقاً كما وصف نفسه؟ونتساءل نحن: تري ماذا لو تجرأ عامر عبد الله ونشر خمس صفحات فقط من هذا الكتاب (وليس 405 صفحات) قبل تقويض المعسكر الاشتراكي؟ أكان سيرغم هو ايضاً علي وصف نفسه بمفردات مماثلة؟ ام سيتهم بالعمالة… لمن؟! لأمريكا؟!كاتب من العراقهوامش:1 ـ انباء موسكو 1987.2 ـ ستالين والموسيقي ، علي الشوك الحياة 2004/11/103 ـ مارتوف احد قادة الحزب. انتقد مع كاوتسكي وآخرين سلطة السوفييت. فضحوا تخلي ثورة اكتوبر عن الديمقراطية. عارضوا دكتاتورية البروليتاريا ونددوا بسحق الاكثرية الاقلية، او محاولة قمعها بالعنف، كما اكدوا عدم نضج البلاد للاشتراكية. لذلك تعرضوا مع اكسيلرود الي نقد لينين اللاذع: ان من له المام بالادب المنشفي يري بأية مذلة وحقارة يستنسخ كاوتسكي واكسلرود وشركائهم… م ب.4 يذكرني رد الكسندرا برد الكاتبة سعاد الجزائري حين طالبتها منظمة الحزب الشيوعي العراقي برفع تقرير عما دار من احاديث في خلال سهرة امضيناها في بيتهم في براغ (كانت لا تزال آنئذ زوجة الشاعر صادق الصائغ)، وكنا: نوري عبد الرزاق، مهدي الحافظ، عبد الحسين شعبان، احمد كريم، وربما خالد السلام ايضا. كل المذكورين كانوا طردوا من الحزب الشيوعي العراقي، في ثمانينات القرن الماضي، فأسسوا تيارا يدعي المنبر يتسم بطابع وطني اوضح. لم اكن منتسبا لهذا التيار (رغم تعاطفي عموما) ولا صادق ولا سعاد التي ضغطت عليها منظمة الحزب لترفع تقريرا عن تلك السهرة، فاعتذرت بقولها: ـ لم اسمع شيئا. كنت اغلب الوقت اهيئ الطعام في المطبخ.كان امتناعها عن افشاء مضمون احاديث تلك السهرة ينم عن خلق رفيع بالتأكيد.ہہالكتاب: مقوضات النظام الاشتراكي العالميالمؤلف: عامر عبدالله إصدار: مكتبة رمضان ـ لندن0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية