ما وراء تصريحات سترو والحماس الدولي لتدخل جديد في دارفور
د. عبدالوهاب الافنديما وراء تصريحات سترو والحماس الدولي لتدخل جديد في دارفورفي مقالة نشرت في صحيفة انترناشيونال هيرالد تريبيون يوم الجمعة الماضي طالب وزير الخارجية البريطاني جاك سترو الفرقاء في دارفور بالإسراع بعقد اتفاق سلام يوقف التدهور المستمر في الأوضاع هناك، قائلاً إن الأطراف المجتمعين حول مائدة المفاوضات في العاصمة النيجيرية أبوجا هم الوحيدون الذين يملكون القدرة علي وقف العنف المتزايد هناك. واتهم سترو، الذي كان قد التقي المفاوضين في أبوجا مطلع الأسبوع الماضي وحثهم علي ابداء المرونة حتي يتسني عقد اتفاق سلام بأسرع فرصة، أطراف النزاع بخرق وقف إطلاق النار، محملاً الحكومة المسؤولية الأكبر في ذلك. وتقدم للأطراف بخمسة مطالب، هي الإعلان عن مواقع قواتها، واحترام وقف إطلاق النار، ووقف الهجمات علي القوات الإفريقية، وتسهيل أعمال الإغاثة وتسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية. وتوعد من لا يتمثل بخطوات عقابية بعضها وشيك.وتتزامن تحركات سترو الأخيرة مع ما يبدو أنه تحول في موقف واشنطن باتجاه الدعم النشط لفكرة نشر قوات دولية في دارفور لتحل محل قوات الاتحاد الافريقي التي يتهمها الجميع بأنها لم تحقق أي نجاح في وقف العنف عامة واستهداف المدنيين خاصة. وكان أمين عام الأمم المتحدة كوفي أنان التقي الرئيس الأمريكي جورج بوش مطلع الشهر الجاري لمناقشة خطة الأمم المتحدة بشأن نشر قوات دولية في دارفور، وترددت أنباء عن تردد أمريكي في دعم الخطة. ولكن الموقف الأمريكي بدأ يتبلور باتجاه التعجيل بخطوات التدخل الأممي، حيث جري اتصال مباشر بين الرئيس الأمريكي وقيادة حلف الأطلسي للتشاور في الأمر، كما قام بوش بإبلاغ اجتماع لمؤيديه في فلوريدا الأسبوع الماضي برأيه في فشل مهمة الاتحاد الإفريقي، بينما قاد السفير الأمريكي في الامم المتحدة جون بولتون الجهود لاستصدار قرار من مجلس الأمن في هذا الصدد. وكان بولتون قال قبل أسبوعين أنه تلقي تعليمات من واشنطن للتحرك بسرعة والمضي بعيداً في اتخاذ خطوات لاستبدال القوات الإفريقية بقوات دولية خلال شهر شباط (فبراير) الذي تتولي فيه الولايات المتحدة الرئاسة الدورية لمجلس الأمن.وحين يقوم وزير خارجية دولة كبري بنشر مقالة في صحيفة دولية علي خلفية تحركات دبلوماسية محمومة في إطار قضية معينة، فهذا دليل علي أن حكومته تواجه ضغوطاً مكثفة من جهة ما وتشعر بحراجة موقفها، وتريد أن تظهر أنها تتحرك بنشاط دون أن تحمل نفسها كلفة تذكر. وفي حالة جاك سترو فإن الانتقادات الحادة لمتمردي دارفور والتهديد بتقليص دورهم، إضافة إلي التصريح بأن هناك عقوبات وشيكة ستطبق علي مسؤولين حكوميين بعينهم كانت رسالة للفرقاء المجتمعين في أبوجا مثل ما هي رسالة لآخرين يطالبون بريطانيا بالتدخل هناك. وقد انتقد سترو بشدة خروقات المتمردين لوقف إطلاق النار وتغيب قادتهم عن المفاوضات. ومن جهة أخري فإنه أعلن أن مجلس الأمن يدرس إصدار عقوبات بحق مسؤولين حكوميين سلمت ملفاتهم إلي المجلس بموجب القرار 1591 الذي يطالب بفرض مثل هذه العقوبات.المعروف أن الدول الغربية قد تعرضت لضغوط غير مسبوقة (من الإعلام في المقام الأول والمنظمات المدنية ثانياً) لكي تتحرك لوقف ما وقع الإجماع علي وصفه بأنه أكبر كارثة إنسانية معاصرة. وقد فاجأت ردة الفعل الشعبية في هذه الدول المسؤولين الذين كان معظمهم يقضون عطلاتهم الصيفية حين تفجرت الأزمة في صيف عام 2004. وقد افتدي المسؤولون أنفسهم باتخاذ خطوات كانت ذات طابع رمزي في المقام الأول، مثل القيام بزيارات ميدانية لدارفور، حيث لم يحدث قط أن زار السودان مثل هذا العدد من كبار المسؤولين، والتبرع بمبالغ طائلة للمنظمات الطوعية والإنسانية، وأخيراً بدعم قوات التدخل الافريقية. ولكن أيا من هذه الخطوات لم تؤد إلي حل نهائي يبعد الأزمة من صدر صفحات الصحف. وما زالت تقارير المنظمات الحقوقية تتوالي مؤكدة استمرار تدهور الأوضاع، وكان آخرها تقرير هيومان رايتس ووتش الذي صدر الشهر الماضي وانتقد بعثة الاتحاد الإفريقي في دارفور وطالب بتغييرات جذرية في طريقة عملها وتسليحها لتمكينها من حماية المدنيين.ومن الواضح أن الدول الغربية ظلت تقاوم حتي الآن فكرة التدخل المباشر في دارفور لأسباب لا تخفي، أبرزها أن إرسال الجنود إلي مجاهل وصحاري افريقيا ليس مما يثير حماس المسؤولين، وثانيها الكلفة العالية في وقت تتصاعد فيه المطالب علي خزائن هذه الدول من تعدد الكوارث في العالم وتصاعد مطالب التدخلات والحروب. من جهة أخري فإن مثل هذا التدخل يعتبر قفزة في المجهول ويخالف مبدأ باول في تحديد أهداف المهمة ومدتها وطريقة إنهائها. وهي بالقطع تتناقض مع مقولة سترو في ان أطراف النزاع هي الوحيدة القادرة علي التوصل إلي حل فعلي للأزمة.السؤال هو إذن لماذا تجدد الحماس للتدخل الآن في وقت كانت فيه الدول الكبري (وبعضها، مثل بريطانيا، لا يزال) تسعي فيه إلي تجنب التورط المنتظر؟ ولماذا تتكثف الجهود لوضع خطوات التدخل موضع التنفيذ في هذا الوقت بالذات.الإجابة تتمثل في الضغوط ومصدرها. المصدر الأساسي للضغوط حالياً هو الأمم المتحدة التي أنيطت بها مسؤولية مراقبة الأوضاع هناك دون أن تمنح صلاحيات لمعالجتها. هناك أيضاً نتيجة غير مباشرة للسياسات السابقة، وخاصة الدعم الكبير لمنظمات الإغاثة التي انتشرت بكثافة في في الإقليم، وأصبحت مصدر معلومات مستمرة عن تدهور الأوضاع هناك. الوجود الدولي الكثيف علي الأرض، ممثلاً في الموظفين الدوليين وعاملي الإغاثة والمراقبين ظل يبعث باستمرار بمعلومات تتناقض مع تطمينات الحكومة. إضافة إلي ذلك فإن الجهات الدولية فقدت الثقة في حكومة الوحدة الوطنية التي كانت تتوقع أن تقوم بدور بناء أكبر في معالجة الوضع، كما فقد الثقة في حركات التمرد التي أصبحت مصدر صداع للمنظمات الطوعية، بخلاف ما كان عليه الحال أثناء حرب الجنوب حيث كانت حركة التمرد هناك محل ثقة فيما يتعلق بحماية المدنيين وتقديم الخدمات الإنسانية.هناك اعتبار آخر يتعلق بمحكمة الجنايات الدولية ومهمتها في دارفور، وهي مهمة تحتاج إلي وجود فعال لقوات دولية في الإقليم تسمح لها باعتقال المطلوبين وأيضاً بحماية الشهود. ويبدو أن ضغوطاً مكثفة تزايدت في هذا الاتجاه مؤخراً. إضافة إلي هذا فإن تعثر المفاوضات وتعذر الوصول إلي اتفاق سلام ينهي الحرب ويوقف نزيف الصرف علي الإغاثة الذي أصبح يثقل كاهل الدول المانحة حرم المسؤولين من التعذر بقرب الوصول إلي اتفاق للتنصل من ضغوط التدخل. ولعل زيارة سترو إلي أبوجا هي أشبه بتوسل لتزويد بريطانيا وحلفائها بحجة لتأخير التدخل أو تجنبه.من هنا لم يعد بإمكان الدول الغربية مقاومة الضغوط المتزايدة في ظل الأوضاع الحالية. السبيل الوحيد لإخراج الجميع من هذه الورطة هو أن تأخذ الحكومة زمام المبادرة في المسارعة بعقد اتفاق سلام ينهي الأزمة ويرفع الحرج عن الجميع. ولو كانت الحكومة تتمتع بالحد الأدني من الذكاء السياسي لكانت سارعت بوقف المماحكات في القضايا المطروحة (مثل الحدود والإقليم الواحد والمشاركة في السلطة) وقدمت التنازلات اللازمة لكسر الجمود، لأن أكبر مطلب للمتمردين أقل كلفة بكثير من التدخل الأجنبي. هذا مع العلم بأنني لم أتهم حكومتنا الرشيدة يوماً بالحصافة والحكمة، لأنه لو كان في القوم رشد لما وقعت أزمة دارفور أساساً. ولكن الأمر لا يحتاج الآن لكثير حكمة لإدراك أهون الشرين.وبالنسبة لحركات التمرد فإنها بحاجة أيضاً إلي إبداء بعض المرونة والكثير من الجدية بدل الاستمرار في الاتكال علي التحركات الخارجية، لأن تصرفات قادتها في الفترة الأخيرة كانت مصدر إحباط لأنصارها ومؤيديها أكثر منها مصدر إزعاج لخصومها.9