ما تمخضت عنه الانتخابات العراقية

حجم الخط
0

ما تمخضت عنه الانتخابات العراقية

د. بشير موسي نافعما تمخضت عنه الانتخابات العراقية عقدت الانتخابات العراقية وسط دعوات واسعة ومتكررة من عدد من القوي السنية لتهدئة نشاطات المقاومة. وقد عزز هذه الدعوات رغبة جلية لدي قطاع كبير من السنة العرب للمشاركة في الانتخابات. لم تكن الرغبة في المشاركة نابعة من الإيمان بشرعية النظام السياسي الجديد، ولكن سعياً إلي تخفيف وطأة هذا النظام (الذي اجتمعت فيه حفنة من الطائفيين والحاقدين والمرضي وقادة العصابات) علي المناطق السنية. وجدت هذه الدعوات استجابة من قوي المقاومة، بما في ذلك لجم جموح جماعة الزرقاوي، التي تردد قيامها باغتيال مفتي الأنبار الشيخ العيساوي علي خلفية مساندته للانتخابات ومعارضته نشاطات مجموعات القاعدة في العراق. تمت إذن الانتخابات بسلام، وأخذت القوي العربية السنية الراغبة في الانخراط في العملية السياسية فرصتها كاملة. في بغداد، في واشنطن، وفي عدد من العواصم العربية والإسلامية والغربية، صدرت تصريحات الإشادة بالانتخابات من أعلي المستويات؛ بل انها اعتبرت منعطفاً جديداً في تاريخ العراق وبداية الخروج من الأزمة المستحكمة منذ بداية الاحتلال. ولكن نتائج هذه الانتخابات جاءت لتخالف آمال وتوقعات كل أطرافها، العراقية والعربية والدولية، بما في ذلك الإدارة الامريكية، الطرف الدولي الرئيسي ذي العلاقة.أقيمت الانتخابات السابقة في مطلع 2005 علي أساس ان العراق كله دائرة واحدة، ولكن المحافظات أصبحت هي الدوائر في الانتخابات الأخيرة. السبب الرئيسي وراء تغيير النظام الانتخابي كان تحديد حجم التمثيل السني في البرلمان وتأمين التفوق العددي الشيعي، وهو ما انعكس في توزيع عدد المقاعد البرلمانية التي تستحقها كل محافظة. هذا بالرغم من ان تعداد السكان الذي نص قانون إدارة الدولة سيئ السمعة علي إجرائه قبل الانتخابات، قد تم تجاهله نهائياً. ولكن ذلك لم يكن كل شيء، فبالغياب الإرادي لقوي المقاومة عن الشارع العراقي، استفردت الميليشيات التابعة للأحزاب المختلفة في التأثير. في المحافظات الجنوبية، عصفت العناصر والميليشيات التابعة للقوي الشيعية بفرص منافسها الرئيسي الممثل بقائمة علاوي والمتحالفين معه. أما المرشحون السنة في المناطق المختلطة (كالبصرة والكوت وبابل) فلم يكن لديهم مجرد فرصة ولو ضئيلة، سواء للعبث بصناديق الاقتراع أو بسبب اغتيال بعض المرشحين وتهديد الناخبين. وعلي مستوي آخر، استخدمت الفتاوي ذات النفس الطائفي لحشد أصوات العرب الشيعة وراء قائمة الإئتلاف، التي اعتبرت بعض الفتاوي ان التصويت (وحتي التصويت المتكرر) لها هو تصويت للإمام علي. في مناطق أخري، مثل بعض دوائر محافظة نينوي (الموصل)، استخدمت الميليشيات الكردية وسائل مشابهة لـتأمين فوز مرشحيها في الدوائر المختلطة سكانياً.وبالرغم من ان النتائج الرسمية لم تعلن بعد، إلا ان ما أعلن منها حتي الآن يشير إلي حقيقة التزييف الواسع لإرادة الناخبين. فمن المتوقع ان يصل عدد مقاعد الإئتلاف الشيعي إلي ما يقرب، أو يزيد عن 140 مقعداً، وهو فوز يفوق الفوز في الانتخابات السابقة التي لم تشارك فيها أغلبية السنة العرب. وستتراجع قائمة علاوي عن الأربعين مقعداً، بالرغم من أنها خاضت الانتخابات بتحالف اوسع بكثير من الانتخابات السابقة. فازت قائمة الإئتلاف الشيعي في منطقة الكرخ من بغداد، التي تقطنها أغلبية سكانية عربية سنية، بينما لم تصل الأصوات التي حققتها القوائم العربية السنية عن 5 في المئة من أصوات العراقيين المغتربين، بالرغم من وجود مئات الألوف من السنة العرب في الأردن وسورية وكافة مناطق المهجر العراقي الأخري. بذلك لن يقدم السنة العرب في البرلمان باعتبارهم أقلية ضئيلة وحسب، ولكن تشكيل حكومة عراقية جديدة أصبح غير ممكن بدون مشاركة القائمة الشيعية، حتي لوتحالفت كل الكتل البرلمانية الأخري مجتمعة. ولأنها ستكون الكتلة البرلمانية الأكبر فستتحكم القائمة الشيعية تحكماً كبيراً في الحكومة الجديدة. لن تستطيع القائمة الشيعية تشكيل الحكومة بمفردها (لأنها لا تتحكم بالثلثين) وهو ما يستدعي تحالفها مع الكتلة الكردية، ولكن لا حكومة بدونها علي أية حال. ان من المخجل قراءة السياسة العراقية من المنظار الطائفي والإثني، ولكن العراق يجني اليوم ما زرعه نظام الاحتلال وحلفاؤه. والأرجح ان الساحة السياسية العراقية ستبقي علي هذا الانقسام إلي زمن غير قصير. ولذا فلا بد ان تقرأ نتائج الانتخابات باعتبارها استمراراً لحالة التأزم العراقي، وأنها ستترك أثرها بالتالي علي كافة جوانب الأزمة وأطرافها.أكدت الانتخابات النهاية المريرة لمشروع تحويل العراق إلي نموذج ديمقراطي موال للولايات المتحدة، يحتذي به في المنطقة ودول الجوار. فقد أصبحت الديمقراطية العراقية الموعودة مباراة بين نفوذ الميليشيات والفتاوي المتصارعة وجهود التزييف، وصراع الطوائف والإثنيات، في بلد دفع دفعاً للانقسام علي ذاته. ليس ثمة دولة أو شعب في المنطقة، ولا حتي في أكثر البلاد استبداداً، يرغب اليوم في السير علي النهج الأمريكي في العراق، بل ان الهم الأكبر لشعوب ودول المنطقة بات محاولة حماية أنفسها من اتساع نطاق الكارثة التي أوقع الامريكيون العراق فيها.ووضعت الانتخابات القوي العربية السنية التي روجت لجدوي المشاركة في النظام السياسي في موقف حرج. فقد كذبت الانتخابات أمانيهم، وأثبتت من جديد ان نظام ما بعد الغزو قد صمم أصلاً لاستبعادهم وإخضاعهم. بل أكثر من ذلك، فقد عززت نتائج الانتخابات من منطق قوي المقاومة، القائل بأن ليس من الممكن بناء عراق جديد حقاً في ظل الاحتلال وفي ظل النظام الذي نجم عنه. ومن المستحيل الآن توقع خروج العراق القريب من دائرة العنف والعنف المضاد، ليس لأن هناك قوي تسعي لتحويل العراق إلي نقطة انطلاق لعنف أوسع في المنطقة، بل لأن العراق الحالي قد ولد وهو يحمل عوامل تفجيره وتأزمه. وليس من المستغرب ان تتزايد عناصر الحزب الإسلامي (الداعي الأكبر للمشاركة بين القوي العربية السنية) المنحازة لخيار المقاومة، وان تجد قوي المقاومة دعماً شعبياً أكبر وأوسع في المحافظات ذات الأغلبية العربية السنية، بعد وصول طريق العمل السياسي إلي نهاية مغلقة.وسيشهد العراق خلال المرحلة المقبلة مزيداً من التوجهات الانقسامية والتدافع الدموي الداخلي. فمن أجل تأمين سيطرتها علي الحكم، ستضطر كتلة الإئتلاف الشيعي إلي تقديم مزيد من التنازلات للكتلة الكردية، لا سيما في منطقة كركوك المتفجرة. وستوفر سيطرة قوي الإئتلاف الشيعي علي البرلمان والحكومة فرصة سانحة لضم محافظات الجنوب في وحدة فيدرالية أو كونفدرالية. وفي حال بدأ تنفيذ هذا المخطط، سيشهد جنوب العراق حركة تطهير طائفي وطائفي مضاد، لاسيما في المحافظات ذات الوجود العربي السني الملموس. وبالرغم من انضمام التيار الصدري القلق للإئتلاف، فليس من المستبعد ان ينفجر الصراع السياسي الشيعي ـ الشيعي من أجل السيطرة علي مقدرات الحكم والثروة في المحافظات الجنوبية. أما إن جرت محاولة لتقسيم العاصمة بغداد نفسها إلي كيانات فيدرالية (كما اقترح عبد العزيز الحكيم قبل أسابيع)، فستتحول بغداد إلي ساعة صراع لا أول له ولا آخر.أكدت الانتخابات ان الامريكيين لم يغرقوا في العراق فحسب، بل ويغرقون اليوم حتي في الساحة السياسية التي ساهموا في بنائها، وان استراتيجية تأمين المصالح الامريكية في العراق الجديد قبل الانسحاب الامريكي العسكري منه قد انهارت. فواشنطن، التي ربطت بين الانتخابات ونجاحها الاستراتيجي في العراق لن تستطيع التراجع عن نتائج الانتخابات، التي تدرك أكثر من كافة الاطراف الأخري أنها نتائج لا تعكس حقائق الواقع. وهنا يتجلي المأزق الامريكي المحكم. فخيار واشنطن الأول، إياد علاوي، خرج خاسراً من الانتخابات؛ أما أحمد الجلبي، الخيار الذي أعيد له الاعتبار الامريكي مؤخراً، فمن المستبعد ان يحصل ولو حتي علي مقعد برلماني واحد. القيادات الشيعية تضم بالطبع أصدقاء حميمين لواشنطن، ولكن إدارة بوش لا تنظر إلي الإئتلاف الشيعي في مجمله بعين الرضا والاطمئنان، نظراً لعلاقة قواه الوثيقة بطهران. وإن استمرت الضغوط الامريكية لتحجيم نفوذ وسيطرة الإئتلاف الشيعي علي حكومة المنطقة الخضراء الجديدة، فمن المرجح ان تسعي هذه القوي إلي المطالبة بإقرار جدول انسحاب للقوات الأجنبية. يدفع إلي مثل هذا التطور التغيير الواقع في السياسة الإيرانية منذ تولي أحمدي نجاد رئاسة الجمهورية، والتقدير الإيراني بأن حالة الهجوم الامريكية في المنطقة وصلت إلي ذروتها، وهي الآن في حالة انحسار. وإن قررت قوي الإئتلاف الشيعية المطالبة بجدولة الانسحاب الامريكي، فقد يزداد التوتر بين الامريكيين وبعض قوي الإئتلاف، مثل التيار الصدري. كما قد يتزايد ارتباط القوي الشيعية الاستراتيجي بإيران وثوقاً من أجل حماية السيطرة الشيعية علي الحكم. علي أية حال، فإن الفشل الامريكي الأمني، والفشل في هزيمة قوي المقاومة، بات مقروناً الآن بفشل وتخبط سياسيين؛ وبدون تدخل أمريكي عسكري سافر، سيكون من المستحيل وصول علاوي وشركاه إلي السلطة. ولذا، فسيكون مصير العراق مرتبطاً بقوتين رئيسيتين: مقاومة تناصب الاحتلال العداء، وتحالف شيعي لا تطمئن واشنطن لولائه.المسألة الاهم التي أكدتها الانتخابات ان العملية الديمقراطية ليست سبباً ولا قاعدة للاستقرار، بل هي نتيجة له. إن آخر ما يحتاجه العراق اليوم هو انتخابات وبرلمان وتوزيع مقاعد حكومة ما علي القوي السياسية. حاجة العراق الأولية والحقيقية هي إعادة بناء الإجماع بين قواه وفئاته المختلفة. وهذا لن يتأتي بالقهر الطائفي، والسيطرة الإثنية، وتوظيف أدوات الدولة المسلحة لاضطهاد الناس وقهرهم. لأسباب عدة، يتعلق بعضها بإدارة الاحتلال وبعضها الآخر ببنية ودوافع قوي المعارضة العراقية التي سلمت مقاليد الأمور عشية الاحتلال، بات العراقيون منقسمين علي أنفسهم كما لم ينقسموا من قبل. ينقسم العراقيون علي الموقف من الاحتلال، علي معني الوطن، علي هوية الدولة الوطنية ومستقبلها، علي أسس الوعي الوطني، كما علي السلطة والثروة وأسس علاقة الفئات العراقية ببعضها البعض. وليس ثمة استقرار ممكن في العراق بدون التوصل إلي حد أدني من الاتفاق علي مجمل هذه المسائل. الشرط الأول للتوصل إلي مثل هذا الاتفاق هو نهاية الاحتلال؛ إذ ليس من الممكن ان يستشعر قطاع كبير من قوي العراقيين وفئاتهم المختلفة الاطمئنان والثقة بينما تحتل البلاد قوة تصل إلي أكثر من 150 ألف جندي أجنبي، احتلت البلاد في شكل غير شرعي، وأخذت من بداية الاحتلال موقفاً من الاختلاف الداخلي، بل وساهمت مساهمة مباشرة في تأجيجه. أما الشرط الثاني فهو الانطلاق من وحدة العراق وشعبه، والاقتناع بأن كل محاولة لتقسيم بلد موحد أصلاً لن تعود إلا بالكارثة علي جميع عناصره. بعد ذلك، وبعد ذلك فقط، يمكن الحديث عن دستور يلتف حوله العراقيون، عن دولة تعامل كل مواطنيها بالعدل، وعن نظام ديمقراطي يجري التداول فيه علي الحكم سلماً وبإرادة أكثرية العراقيين. ہ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية