ما بين القاسم وأبو حمدية ربع قرن من الوجع فما الذي تغير؟

حجم الخط
0

أثار استشهاد أبو حمدية في سجون الاحتلال لدي شجونا مختلطة مابين الخاص والعام ، فاستحضرت ذاكرتي أستاذي المقدسي الشهيد عمر محمود القاسم الذي درسني اللغة الإنجليزية في مدرسة جنين الثانوية قبل كارثة حزيران عام 1967 حيث سقطت هذه الفترة من سيرته الذاتية التي نشرت على اليوتيوب لا أدري إن كان سقوطها سهوا أم أن تلك الفترة غير معروفة لدى معد سيرة الشهيد النضالية.
كنا شبابا صغارا عندما اخترق عالمنا الساذج مدرس مقدسي أزرق العينين، حاد الملامح، تنتابه لحظات صمت وتأمل، لم ندرك أسبابها في ذلك الحين، كان يحمر وجهه عندما تمر سيارات ( الهدنة ) التي تجوب مدينة جنين و تمر بشكل متكرر بمحاذاة المدرسة متجهة إلى مقيبلة القرية الفلسطينية المحتلة التي كنا نرى أهلها بالعين المجردة يجوبون طرقاتها ومزارعها ولكن يحرم علينا الاقتراب منها، كنا نتوق بشكل رومانسي إلى الأرض المسلوبة ونحلم بعودتها دون أن نعلم متى وكيف، كان أستاذنا الشهيد عمر القاسم المنقول نقلا تأديبيا من مدارس القدس إلى مدرسة جنين الثانوية أول من حرك دماء النضال والوعي في عروقنا، لم يتحدث عن نفسه قط، ولكنه كان يستغل كل مناسبة لإيصال رسالة توقظ وعينا النائم، وكانت أولى تلك الرسائل التي استطاع عبرها فتح نقاش حذر معنا عبر سؤال مباشر: من هؤلاء الذين يركبون سيارات الأمم المتحدة ويجوبون المناطق الأمامية بكل حرية، تعددت الإجابات عبر عصف ذهني تمخض عن نتيجة اتفقنا عليها جميعا (هؤلاء جواسيس يحمون الحدود من أجل إسرائيل) كان هذا هو الدرس الأول، وكانت الدروس متباعدة وبخاصة أن القاسم رحمه الله كان يدرسنا اللغة الإنجليزية وهي مادة يصعب استثمار مضامينها لربط المعرفة بالحياة.
كان رحمه الله يستخدم العصف الذهني الذي يجنبه التلقين المباشر وعيون وآذان المخبرين والمنافقين من المعلمين (الذين عرفناهم حيث لم تكن الظروف تحول دون الإعلان عن أنفسهم في كل مناسبة) عند ذلك بدأنا ندرك سر نقله تأديبيا من القدس إلى جنين.
التقيت عمر القاسم عام 1967 م في شارع السلط في عمان، كانت النكسة طازجة والجرح مازال مفتوحا، كنت أنهيت الثانوية ذلك العام وغادرت جنين للتسجيل في الجامعة الأردنية، رأيته أمامي في لباس الفدائيين، سلمت عليه ونكست رأسي خجلا من هيئته وهيبته، واعتذرت منه بأنني هنا للدراسة بينما هو أدار ظهره للوظيفة ومضى في الطريق الصحيح، أجابني رحمه الله : يا أحمد أنا أكملت دراستي عندما تكمل دراستك اختر الطريق الذي تريد الدراسة واجب ومسؤولية أيضا.
مضى القاسم في طريقه وطوى أيامنا السعي كل في شأنه ونسيت القاسم ولكنه أصر أن يذكر جميع الشعب الفلسطيني بنكبته ونكسته وشتاته، عندما وقع في الأسر عام 1968 ومن ثم قضى شهيدا تحت وطأة المرض في سجون الاحتلال عام 1989.
أثار استشهاد أبو حمدية في نفسي شجونا واستفز نخوتي النائمة، فلم أجد في هذا العمر غير استرجاع الصورة المشرقة لأستاذي المناضل، ولكني في الوقت نفسه بدأت أحسب الفرق الزمني بين استشهادين فوجدته ربع قرن من الوحشية الصهيونية، وجدت أن عدونا لم يغير من ثوابته وأنه يمعن منذ ميلاد وجعنا على اضطهاد أرواحنا وأجسادنا، ووجدت أيضا أننا لم نيأس على الرغم من كل هذا الصمت الدولي على تجاوزات الاحتلال تجاه أسرانا وشهدائنا وأشجارنا وأرضنا لم ولن يتغير هذا العدو مهما تغيرت المعادلات لأن أي تهاون في ثوابته العنصرية تعني خطوة إلى الأمام في مشروعنا الوطني الفلسطيني، لذلك فإن ربع قرن بين استشهادين متشابهين في الأسباب والظروف يقدم لنا درسا بأن هذا العدو لن يغير ثوابته وأن علينا أن نصر على ثوابتنا، ونبحث عن آليات جديدة وأدوات أكثر نجاعة في ردعه، تتجاوزحالة المسخ التي وصلنا إليها من التشرذم والتراشق الغبي، وتتجاوز المراهنين على سلام عادل على طاولة مهترئة في اوسلو. وأكبر دليل على ذلك أن هذا العدو يضن على أسرانا بعلاج يديم لهم الحياة والأمل فكيف يعيد لنا وطنا ودولة وهواء نقيا على طاولة يجلس فوقها ونقبع نحن تحتها.
د.أحمد عرفات الضاوي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية