ماركيز.. يعتزل!
أمجد ناصرماركيز.. يعتزل! لو صحَّ خبر توقف ماركيز عن الكتابة، يكون آخر كتابين صدرا له في الاسواق، وفي وقت متزامن، هما ذكريات غانياتي الحزينات (رواية) و عشت لأروي (سيرة)، وهما، بحق، مسك الختام الذي يأمله أي كاتب متطلبٍ لنفسه.ولا أظن ان اي كاتب، مهما كان ذا منجز عظيم، يتمني لنفسه ختاما أفضل من هذا.في روايته ذكريات غانياتي الحزينات يقدم لنا ماركيز السبعيني أكثر رواياته سهولة ومباشرة، حتي نكاد ان نستغرب توقيع أبرز روائيي الواقعية السحرية عليها. فهنا، لا أثر لـ عقد الأسلوب، وإلحاح التقنيات اللذين يلاحقان، عادة، الكتاب في مستهل مسيرتهم الابداعية. فبعد ان صار ما صار، لم يعد يهم ماركيز ان يثبت شيئا. فقد اثبت، بجدارة، ما كان يريد اثباته. فاذا كان هم الكاتب التجديد في شكل الكتابة واسلوبها، فهو سجل هذا التجديد في مدونة الرواية العالمية، حتي تحول تجديده تياراً له اتباع ومناصرون، اما اذا كان هم الكاتب ترك اعمال روائية تتناول زمنا عريضا وشخصيات متعددة ومتشابكة المصائر، فماركيز حقق ذلك في اكثر من رواية،ولمن يهتمون بالشأن العام وصراعات اللحظة المحتدمة فبامكانهم ان يضعوا علي لائحة اعمالهم المفضلة اكثر من كتاب ملتزم من توقيع ماركيز.واخيرا.. اذا كان الحب يمثل تحديا كتابيا وتوقا داخليا سريا يستبد بالروائيين فيقدمون عليه، وايديهم علي قلوبهم، فان ماركيز ترك اثرا روائيا لا ينسي في هذا الموضوع.طبعا، هناك روائيون يرغبون في التخفف من عبء الشخوص ومصائرهم، فيلجأون الي انواع كتابية اخري.. كالصحافة.. مثلا.. وهذا ايضا، فعله ماركيز.فأي جنس سردي ونثري لم يجربه ويبدع فيه هذا الكاتب الكولومبي العظيم؟لا يوجد.فهو كاتب قصة قصيرة من الطراز الاول.روائي لا يشق له غبار.كاتب زاوية صحافية من طراز رفيع.مدبج ريبورتاجات ادبية جمعت الوقائع اليومية بأفضل اشكال السرد الروائي. كاتب سيرة ستظل درسا في هذا الباب. الشيء الوحيد الذي لم يفعله، علنا، أو يقدم علي نشره، هو الشعر.يندر ان تجد حوارا مع ماركيز لا يتحدث فيه عن تأثير الشعر في تكوينه الادبي، ولكنه، للغرابة، لم يكتب الشعر.قد يكون جمع الشعر (بمعناه الاصطلاحي) بالسرد كجمع ما لا يجتمع عند الأدباء العرب، لكن ذلك، يكاد، ان يكون ممارسة معتادة عند الأدباء الأجانب (الغربيين خاصة) والأمثلة اكثر من ان تحصي.وفي امريكا اللاتينية جمع عدد من الروائيين، بنجاح، بين الرواية والشعر، أو بين القصة والشعر، وبين هؤلاء أصدقاء لماركيز.. لكن الأخير لم يفعل.ومن يقرأ سيرته عشت لأروي سيجد ذكرا متكررا للشعر.. الشعر وهو يحفظ عن ظهر قلب، الشعر وهو يتقدم كعتبة لدخول العالم الأدبي، وأخيرا الشعر كمعترك للتغيير في الاشكال والواقع.كل هذا الشعر في حياة ماركيز.. لم يتحول الي كتابة.. ويخطر لي، من خلال اشاراته المتكررة للشعر في عشت لأروي ان الوجل، الذي يصل حد القداسة، هو الذي حال بينه وبين كتابته. لكن هذا ليس مهما.فالشعر مبثوث، ومتخلَّل، في لغته وصوره واخيلته، ولا اظنه كان سيكتب شعرا اجمل من هذا لو اضاف القصيدة الي قائمة ابداعاته الطويلة. ذكريات غانياتي الحزينات ليست مجرد رواية اخيرة لماركيز، ولا رواية اخري تضاف الي اعماله، وانما هي رواية نادرة في مقاصدها. فلم أسمع من قبل ان روائيا حيا روائيا آخر بكتابة رواية علي وقع رواية له. قد يحصل هذا في القصيدة، ولكن، علي الأغلب، ليس في الرواية.شاع في النقد العربي الحديث مصطلح نص علي نص .. اي ذلك النص القاريء الذي يغويه النص المقروء، فينتهي الي الوقوع في غرامه او، في الاقل، مجاراته في نص آخر يتمثله. ماركيز يقدم لنا، هنا، امثولة اخري في الوقوع بغرام عمل آخر وينتج عن ذلك الغرام ما يمكن ان نسميه مجازا رواية علي رواية . من قرأ رواية ذكريات غانياتي الحزينات يعرف ان ماركيز أضمر، طويلا، رواية الياباني العظيم كاواباتا الجميلات النائمات كأمنية، او كحسرة، في نفسه. طبعا، رواية ماركيز ليست مجرد صورة في المرآة لرواية كاواباتا.. كما انها اكثر من تحية لروائي احبه.. فبمقدوره ان يفعل ذلك في مقال (فعل ذلك فعلا في مقدمة الترجمة الاسبانية لـ الجميلات النائمات )، وانما هي عمل يحاول ان يصل بأطروحة التعلق بجمال الفتوة ونضارتها الي اقصي حد ممكن، وان يختبر وقع هذا الفاتن المتعب الذي يسمي الحبَّ عند النقطة التي ينهي فيها الجسد والروح دورتهما المضنية ويتأهبان للرحيل.عند هذه النقطة يقفز الرسم البياني لقلب العجوز التسعيني من مستواه الافقي في خطوط طالعة ونازلة تنم عن شيء آخر غير استعادة الجسد المنهك وظائفه الحيوية مرة اخري.قفزة الخطوة البيانية علي الشاشة الالكترونية الافتراضية تأتي من ذلك الشعور المستبد والمجهول الذي لم يتوقع ان يعرفه في غسقه الكبير.في السبعينات من عمره عكف ماركيز علي رواية سيرته كأنه يكتب رواية اخري. يصعب ان تفرق بين اعمال ماركيز الروائية (المتخيلة) وبين سيرته (الواقعية)، فالمتخيل والواقعي يشكلان، هنا، وشيجة، يستحيل فك اسلاكها المكهربة بعضها عن بعض.الرغبة في القص والحكي مستبدة.تلحظ ذلك في اول صفحة في الكتاب.والعودة الي نقطة الصفر لا تتم من نقطة الصفر، بل من نقطة ما علي الطريق الذي سار عليه الكتاب، ما تبقي له من العمر: نقطة الكتابة.عودته، مع امه، الي اراكاتاكا لبيع بيت العائلة، تبعث ذكريات الماضي المسحور كله.. فنعرف ان هذا البيت والكائنات التي سكنته ردحا من الزمن كان مسرحا لاكثر من عمل روائي، لاحق، للكاتب..معظم الشخصيات الواقعية، أو المتخيلة، الاحداث التي وقعت فعلا في ذلك البيت المتداعي، او تلك التي كان مسرحها المخيلة فقط، سيضمها عمله الخالد مئة عام من العزلة .استعادة الحياة الاولي، او اختراعها، تتم انطلاقا من تلك العودة لتصفية آثار الماضي.. حينها كان ماركيز قد كتب روايته الاولي.. ثم لتصبح تلك العودة جنبا الي جنب مع الأم، مدخل روايته الثانية.ما هو مدهش في عشت لأروي ليست تلك الذاكرة الحديدية التي تستعيد، بعد سبعين سنة، ادق تفاصيل الطفولة والشباب، ولكن العصب المشدود الذي يتخلل الكتابة، ويرفعها الي مستوي من التوتر الدرامي العالي. ليس ذلك عصب الشيخ الهرم الذي وصل الي منتصف السبعينات من العمر، ولكن الشاب نفسه الذي كان يندفع بشعر مثعث وسروال من الجينز وقميص مشجر وصندل جلدي مهتريء في شوارع بارانكيا متمتما بأسماء شخصيات وامكنة، متخيلا احداثا كبري، ستنتقل من فضاء كاريبي محلي، شبه مغلق، الي مدار كوني. شاب في مستهل العمر، بعصب متوتر، وباحتشاد داخلي متفجر وبنظرات تلتهم وتهضم كل ما تراه، هو الذي وضع سيرة تقع في نحو سبعمئة صفحة.. علي نفس واحد.0