مأساة مظاهرة بنغازي في بلد يمنع المظاهرات!
جمعة القماطيمأساة مظاهرة بنغازي في بلد يمنع المظاهرات!تابع العالم أحداث المظاهرة المأساوية أمام القنصلية الإيطالية في مدينة بنغازي الليبية يوم الجمعة 17 شباط (فبراير)، وما نتج عنها من سقوط عشرات القتلي والجرحي من المواطنين الأبرياء برصاص قوات الأمن والشرطة الليبية. السلطات الليبية هي التي كانت وراء تنظيم وتحريك هذه المظاهرة بدافع الاحتجاج علي تصريحات الوزير الإيطالي (كارديرولي) العنصرية المسيئة للمسلمين ولرسولهم الكريم سيدنا محمد صلي الله عيه وسلم.ولكن عندما صعد أحد المتظاهرين أعلي مبني القنصلية لإنزال العلم الإيطالي، إنهال عليه الرصاص، فسقط قتيلا، الأمر الذي أجج غضب المتظاهرين، فدخلوا في مواجهات غاضبة مبررة مع رجال الأمن وجنود جهاز الدعم المركزي المدججين بالسلاح، الذين بدأوا بدورهم بإطلاق الرصاص في كل اتجاه، فكانت المجزرة التي تابعها وشهدها العالم، وسقط ضحاياها بالعشرات بين قتلي وجرحي. فهل كان هناك أي مبرر لهذه الشراسة وهذا الاستخدام المفرط للقوة مع مواطنين أبرياء تم استدعاؤهم للمشاركة في تظاهرة سلمية؟!تصريحات المسؤولين الليبيين وتبريراتهم وردود أفعالهم كانت مرتبكة وغير مقنعة، ولكن أغرب هذه التصريحات وأكثرها اساءة الي الشعب الليبي هو ما أدلت به السيدة هدي بن عامر (أمينة المؤتمر الشعبي ببنغازي) والمسؤولة الثورية عن مدينة بنغازي لفضائية (الجزيرة) مساء الأحد 19 شباط (فبراير) حين قالت: عندما شعرنا بأن حياة الدبلوماسي الإيطالي داخل القنصلية في خطر، أعطينا الأوامر بإطلاق الرصاص. فنرجو أن يقدر الغرب تضحياتنا، وأننا قادرون علي حمايتهم وحماية مصالحهم !!نحن لسنا مع حرق القنصليات والسفارات، أو الاعتداء علي الدبلوماسيين والمواطنين لأية دولة تكون لنا معها خلافات سياسية، أو يقوم أحد وزرائها أو صحفها بإهانة ديننا ومقدساتنا، ولكن هل يعقل أن نتعامل مع أرواح وحياة مواطنينا بهذا الرخص والهوان من أجل أن تظهر أنظمتنا السياسية للغرب بأنها قادرة علي حماية مصالحه؟! ومن هم الأولي بالحماية والرعاية من قبل حكامنا ومسؤولينا: المواطنون العزل من أبناء الوطن، أم الغرب ومصالحه؟! ولو كانت تصريحات مسؤولة مدينة بنغازي هذه في دولة تحترم شعبها وتقدر شعوره لتم اقالتها فورا.والسؤال الأهم هو: هل كانت هناك دوافع سياسية أخري وراء تسيير مظاهرة بنغازي إلي القنصلية الإيطالية في المقام الأول، وفي هذه الأيام تحديدا؟هل هناك أي علاقة بين تسيير مظاهرة غاضبة ضد القنصلية الإيطالية في بنغازي، والزيارة التي قام بها إلي إيطاليا قبل يومين من موعد المظاهرة كل من السيد (السنيورة) رئيس وزراء لبنان، والسيد (نبيه بري) زعيم حركة أمل الشيعية اللبنانية، والاتفاق الذي توصلوا إليه مع الحكومة الإيطالية لفتح تحقيق مستقل كامل من جديد حول اختفاء الإمام موسي الصدر؟ وهل هناك ما تخشاه ليبيا من هكذا تحقيق جديد في ضوء إصرارها علي أن الإمام الصدر لم يختف أثناء زيارته إلي ليبيا في عام 1978، ولكن غادرها متوجها إلي إيطاليا؟ وهل أراد النظام الليبي توجيه رسالة ضغط للتأثير علي مجري التحقيق؟! هذه أسئلة مشروعة يزيد من أهميتها تصريح وزير خارجية إيطاليا مؤخرا بأن ما حدث في بنغازي هو احتجاج علي سياسات النظام الليبي الداخلية تجاه شعبه!وجب التذكير كذلك بأن النظام الليبي يمنع علي مواطنيه حق التظاهر أو الاعتصام بموجب قانون. وهو القانون رقم (45) لسنة 1972 بشأن تحريم الاضرابات، والاعتصامات، والمظاهرات. علي اعتبار أنها جريمة في حق الوطن، تعرقل مسيرته الثورية! لذلك ربما وجد المشاركون في المظاهرة التي نظمها النظام في بنغازي، وما نتج عنها من مجزرة في حق مواطنين أبرياء، الفرصة المناسبة للتعبير عن الاحتقان القوي بداخلهم، وعن الشعور العميق بالظلم والتهميش والحرمان السياسي والاقتصادي. فتحولت وتطورت هذه المظاهرة إلي مسيرات غاضبة تهتف بشعارات سياسية ضد السلطة الحاكمة. وتم لعدة أيام متتالية تحطيم الكثير من المرافق والمقار الأمنية والثورية، الأمر الذي جعل النظام الليبي يدفع بأعداد هائلة من الجيش وأفراد الصاعقة والأجهزة الأمنية المختلفة في شبه عملية احتلال كامل لمدينة بنغازي من أجل السيطرة علي الوضع فيها.هذه التطورات التي شهدتها ليبيا في الأيام الماضية تطرح أسئلة كثيرة ملحة علي النظام الحاكم في ليبيا، وتؤكد عدم جدوي الكثير من السياسات المتبعة. فلا يمكن أن تستمر سياسة النظام الليبي في التنازل والتصالح مع الخارج علي حساب استحقاقات الداخل الملحة، وبدون التصالح مع الشعب الليبي نفسه الذي يدفع من خزينته، ومن ثرواته، وعلي حساب تنميته، ورخائه، ثمنا باهظا لأخطاء سياسية ومغامرات لم يرتكبها.كذلك لا يمكن أن تستمر سياسات النظام الليبي المكشوفة في محاولة توجيه الطاقة الكامنة لاحتقانات الليبيين الداخلية نحو قضايا خارجية، حتي وإن كانت هذه القضايا مشروعة مثل إهانة مقدساتنا، وثوابتنا الإسلامية، وشخص رسولنا الكريم ـ صلي الله عليه وسلم ـ أو استغلال عواطف المواطنين الإسلامية الجياشة كورقة ضغط سياسي علي دولة ما أو أخري. هناك ملفات وإشكاليات ثنائية عالقة معها. فسياسة تصدير الأزمات إلي الخارج مرفوضة، وسياسة إرضاء الخارج والاستقواء به علي الداخل مرفوضة كذلك.آن الأوان أن يدرك النظام الليبي أن سياسة القمع والحل الأمني ليست هي الأجدي والأنجع في التعامل مع شرائح المجتمع المختلفة الغاضبة، بسبب الاقصاء، والحرمان، وبسبب غياب العدل، وأبسط الحريات. فالشعب الليبي، شعب صغير، حيث أن ثلاثة أرباع أبنائه تحت سن الثلاثين من العمر، وهذه الشرائح الواسعة من الشباب والخريجين المفعمة بالحيوية والطموح، تعاني من الكبت السياسي، والفقر، والبطالة، في وطن وصل دخله من النفط عام 2005 إلي حوالي الخمسين مليار دولار! فأين تذهب هذه الثروات الهائلة؟! ومن المسؤول عن حرمان الشعب صاحب الثروة منها؟! ولماذا هذا التضييق المفرط علي حرية التعبير، والمنع الكامل لأي تنوع سياسي أو فكري داخل ليبيا؟ لماذا هذا الإصرار علي منع حتي أبسط المناشط والمنابر الثقافية المستقلة عن السلطة الحاكمة من التواجد والتعبير عن ذاتها؟إن مأساة مظاهرة بنغازي، والأحداث التي تلتها، تؤكد وجود أزمة حقيقية بين السلطة الحاكمة وشعبها في ليبيا. وأن ما حدث من اضطرابات، وتعبير جماهيري غاضب في الأيام التي تلت المظاهرة، هو مجرد رأس جبل الجليد الذي ظهر لنا وللعالم. والمؤكد هو أنه ما لم يقدم النظام الليبي علي خطوات جذرية في المصالحة مع شعبه، والقبول بإصلاحات جوهرية سياسية واقتصادية واجتماعية، فإن ليبيا مرشحة لمزيد من الاضطراب، والتفاعلات الداخلية العنيفة. وسيثبت للنظام الليبي أن سياسة تصدير الأزمات، والتصالح مع الخارج، والاستقواء به علي حساب الداخل هي سياسة خاطئة وفاشلة، لن تحقق الاستقرار والأمن المطلوب للسلطة والشعب معا. وأنه لا بديل عن القبول بالديمقراطية الحقيقية واحترام حقوق الإنسان في دولة دستور وسيادة القانون، كحل لكل الأزمات علي المدي البعيد. 9