في عام 1963، جرى تدوين أول دستور للجزائر، في قاعة سينما اسمها ماجيستيك، في الجزائر العاصمة (وهي القاعة التي صار اسمها الأطلس). في تلك القاعة كذلك سوف يجري اختيار أحمد بن بلة كأول رئيس للبلاد. إذن في قاعة مظلمة، تختلط فيها أفلام الهزل والمأساة، جرى اتخاذ القرارات الكبرى في البلاد. ثم توالت السنين، ولا تزال القوانين تسن في أمكنة مظلمة، ولا تزال الحريات في تقلص في الجزائر. والغريب في الأمر أن من الكتاب من يدافع عن هذه الحال، على الرغم من أن هذه القوانين تضع الكاتب والأدب في مجمله في مأزق. فلا أحد يعترض عليها، بل تناغمت الأصوات في الدفاع عن تلك القوانين، كأنها نصوص مقدسة، لا يصح الخوض فيها. وهذا الوضع ليس طارئاً، لا بد من العودة إلى الوراء، إلى السنوات الأولى التي أعقبت الاستقلال، كي نفهم تنشئة الكاتب السياسية، وكيف أوصلته ظروف إلى الحالة التي يعيشها في الوقت الراهن.
ولد الأدب في الجزائر، عقب الاستقلال، لاسيما الأدب المكتوب بالعربية، ولادة حزبية. فالجيل الأول من شعراء أو روائيين، كان ينتمي إلى الحزب الواحد. انخرطوا في «اتحاد الكتاب الجزائريين»، وهي هيئة تفرعت من حزب جبهة التحرير. والحزب كان سخياً مع الكتاب، أتاح لهم المناصب والمراتب، البعثات والسفريات، أتاح لهم الرواتب والمساكن، كما إن دار النشر الوحيدة بين 1962 و1985، كانت دار نشر حكومية، بالتالي فإن أولوية نشر كانت للكتاب المتحزبين.
وساد اعتقاد بأن الكاتب الناجح هو كاتب في خدمة الحزب، في خدمة النظريات السائدة، في مديح الاشتراكية والثورة الزراعية، وهو الكاتب الذي يغض البصر عن نقد السلطة. هكذا صار الكاتب يدافع عن السلطة ضد الأصوات التي تنتقدها. ففي منتصف الستينيات، عندما أبدت آسيا جبار ملاحظات عن سياسة التعريب، وقالت إن تعريب الجامعة لا بد أن يكون تدريجيا، لا أن يتم دفعة واحدة، انتصب ضدها كتاب في إدانتها والإساءة إليها، ما اضطرها إلى المنفى لبضع سنين.
وكذلك مفدي زكرياء (مؤلف النشيد الوطني) اضطر إلى المنفى جراء التضييق. وعندما عارض الشاعر بشير حاج علي انقلاب 1965، تعرض إلى حملة إنكار من زملائه الكتاب، قبل أن يجري سجنه، ثم يرد إليه الاعتبار في سنين لاحقة. وعندما انتقل رشيد ميموني من النشر في المؤسسة الحكومية إلى دار نشر فرنسية، واجه حملة تشويه من زملائه. وفي كل المرات، عندما يريد كتاب النيل من زملاء لهم في الجزائر، يجري الترويج للشائعات، كالقول إن فلان أمبريالي الهوى أو أنه رجعي. فالشائعات هي أفضل طريقة في تشويه سمعة كاتب. ولكن غالبية الكتاب الذين تعرضوا إلى تشويه، في سنين خلت، رد إليهم الاعتبار، في سنين لاحقة. كما إن الجيل الأول من الكتاب المتحزبين، توارى وفسح المجال أمام أجيال أخرى. كيف نبرر إذن أن الممارسات القديمة لا تزال قائمة لحد الساعة؟
ميراث الكتابة
انتبه الساسة إلى دور الثقافة من أجل كسب معاركهم في الداخل، لذلك سارعوا إلى احتوائها، وبعدما انسحب الجيل الأول من الكتاب عن المشهد، وجاء جيل آخر عقب 5 أكتوبر/تشرين الأول 1988، وهي السنة التي انتهى فيها الحزب الواحد، تحركت ماكنة جديدة في تكريس المناهج القديمة، ومن بين أساليبها، الترويج للجيل الأول، بحيث أن غالبية التكريمات التي يحظى بها كتاب في الجزائر، إنما هي تكريمات تخص كتاباً خدموا الحزب الواحد، تقام باسمهم ملتقيات، ويطلق اسمهم على منشآت، يعاد طبع أعمالهم، التي أدرجت كذلك في الكتب المدرسية. ثم ترسخ اعتقاد أن الكاتب الجيد في الجزائر، هو كاتب يسير على نهج الجيل القديم. يكتب مثلهم ويتبنى مواقف مثلهم، ويعلن الحروب ضد من ينتقد أو يعترض أو يمارس حقه في حرية الرأي.
لكن التهم القديمة بالإمبريالية أو الرجعية لم تعد صالحة، فالعالم تغير، وتوجب ابتكار شائعات جديدة، على رأسها «التخوين»، التي ترددت بكثرة في الماضي، بينما في الآونة الأخيرة طرأت تهم «العمالة»، «محاباة الغرب» «خدمة أجندات أجنبية».
هناك العشرات من كتاب جزائريين ألصقت بهم هذه التهم، لأنهم ببساطة خالفوا السائد ورفضوا الانصياع إلى آراء الغالبية. لقد عمت فوضى في المفاهيم وأعمت العقول، وتحول الكاتب في الجزائر إلى جندي، يكرس وقته في خوض حروب ضد من يكتب، بل أن ينشغل في شؤون الكتابة. تنازل عن حقه في الشك وبات ضحية للسوشيال ميديا. يسير في هوى ذباب إلكتروني، متنازلاً عن حقه في التريث. صار يمعن في المغالاة، في الإساءة إلى كتاب من مواطنيه، ويطلق الأحكام بدل أن يدعو إلى التفكير.
ناطقاً باسم شعب
في مطلع التسعينيات، مع صعود الإسلام السياسي في الجزائر، ظن بعض الكتاب أن الإسلاميين في طريقهم إلى حكم البلاد، فانضموا إليهم في نشر مقالات مساندة لهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، لكن الأوضاع سرعان ما انقلبت وأزيح الإسلاميون من الواجهة، ففقد الناس الثقة في جيل 5 أكتوبر 1988، وهو جيل كان متقلباً في رؤاه، ثم دخلت البلاد دوامة عنف، أطلق عليها العشرية السوداء، التي أفرزت جيلاً جديداً لا يؤمن بالشعارات السياسية، جيل يواجه العبث بالكتابة، بالإخلاص إلى الأدب. جيل أنهكته سنين المجازر ودماء الأبرياء التي سالت في الطرقات. جيل يكتب بالعربية ويدافع عنها في جماليتها وليس بوصفها نقيضاً للغة أخرى.
وعندما شعرت الأجيال السابقة أن البساط قد سحب من تحت أقدامها، بادرت إلى التقليل من شأن الجيل الجديد، بإطلاق مصطلح «الكتابة الاستعجالية»، وهي كلمة تضمر استخفافاً بمن يكتب عن العشرية السوداء. ثم بالقول إن الجيل الجديد لم ينضج، وكأن النضج يحسب بسنوات العمر، مع أن كبار الكتاب أصدروا أهم أعمالهم في سنوات مبكرة من أعمارهم. كما إن المأزق الآخر الذي يواجه الكتاب الجدد في الجزائر، أنهم لا ينتمون إلى أي تيار سياسي، بالتالي يصيرون محل النيران كلها. فالجميع يريد من الكاتب أن يصير ناطقاً باسمه. السلطة تريد منهم أن يصيروا ناطقين باسمها، الإسلاميون يريدون ذلك كذلك، ومثلهم يفعل اليساريون.
لكن الكاتب يدافع عن حريته، عن حقه في اللاانتماء، لذلك فإنه يتعرض إلى شائعات من الأطراف كلها. السلطة تنعته بالخائن، الإسلاميون ينعتونه بالمرتد، اليساريون يلصقون به تهمة العمالة للخارج، وهكذا دواليك. فقد صارت الكتابة مهنة خطيرة في الجزائر. وبما أن دستور البلاد قد خرج من قاعة مظلمة، فنحن ننتظر الخروج من العتمة إلى النور.
أن تصير الكتابة مهنة مستقلة، لا تخضع إلى تجاذبات أو استقطاب، أو إلى حروب خفية يدفع ثمنها الكاتب. أن يصير الكاتب محل نقد، أو نرد على قوله أو كتابته، فذلك من حق الجميع، لأن من شعارات الجزائر هي الديمقراطية، أما أن يصير محل تشهير وإساءات، فذلك لا يسيء إلى الكاتب في حد ذاته، بل إساءة إلى الأدب في الجزائر في مجمله. فمتى يستعيد الكاتب حريته، من غير أن تنهمر على رأسه الشائعات ولا تنصب له المشانق على السوشيال ميديا؟
كاتب جزائري