لنخلخل بعض المسلمات فـ الأنا ليست سيدة بيتها !
رد علي عوني بلال حول موضوع التحليل النفسي والادب:لنخلخل بعض المسلمات فـ الأنا ليست سيدة بيتها !حسن المودن ہ ردا علي تعقيب الأخ الكاتب الفلسطيني عوني بلال علي مقالتي: تطبيق الأدب علي التحليل النفسي، أتقدم بهذه المحاولة اغناء للنقاش المعرفي وتوضيحاً للرؤي الجديدة الي مسألة التحليل النفسي والأدب كثيرة هي الدراسات التي وقفت عند هذه الثنائية: التحليل النفسي/ الأدب، ومن أهم ما صدر في العقود الأخيرة:Mario Lavageo,Freud a l epreuve de la lierature,Seuil,2002Philiلنخلخل بعض المسلمات فـ الأنا ليست سيدة بيتها !e Willemart,Au-dela de la psychanalyse,les arts et la lierature,Harmaan,1998 Paul-Laurent Aoun,Lierature et psychanalyse,Ellipses,1996John Lechete,Writing and Psychoanalysis,Arnold,1995Max Milner,Freud et l interpretation de la lierature,20 Tirale,Stde-cetv du Paris,1980Jean Le Galliot,Psychanalyse et langages lieraires,Nathan,1977وأقترح علي القارئ الكريم الوقوف عند ثلاث دراسات معاصرة القاسم المشترك بينها أنها تغير النظر الي: فرويد، التحليل النفسي، الأدب، وتعيد بناء العلاقات القائمة بين هذه الأطراف، بما يسمح بفتح آفاق جديدة أمام فهمنا للنفسي والأدبي وما بينهما من علاقات.الدراسة الأولي للناقد الفرنسي جان بيلمان ـ نويل، وهي تحت عنوان: التحليل النفسي والأدب، وصدرت طبعتها الأولي باللغة الفرنسية سنة 1978، وقد ترجمناه الي اللغة العربية، وصدرت الترجمة العربية عن المجلس الأعلي للثقافة بمصر سنة 1997. وأهمية هذا الكتاب تكمن في كونه أعاد قراءة فرويد، وأعاد فحص العلاقة بين التحليل النفسي والأدب بطريقة تجمع بين التاريخ والنقد، بمعني أنه استحضر تاريخ هذه العلاقة من سيغموند فرويد الي جاك لاكان، ولم يكتف بالعرض التاريخي قدر ما قام بقراءة تاريخية تقويمية، انتهي من خلالها الي تقديم منهج جديد في النقد النفسي سماه التحليل النصي يسمح بالانتقال من الاهتمام بمؤلف العمل الابداعي الي تركيز النظر علي العمل الأدبي نفسه.ما يهمنا من هذا الكتاب في هذا المقام هو جوابه عن سؤال أساس شغل الكثير من الدارسين والباحثين: هل هناك علاقة بين التحليل النفسي والأدب؟ والدراسة الثانية عبارة عن مقالة مركزة جريئة تحت عنوان: فرويد شاعر اللاشعور لصاحبتها ليديا فليم، وهي تندرج ضمن عدد من الدراسات المعاصرة التي تحاول تصحيح النظر الي مؤسس التحليل النفسي سيغموند فرويد، موضحة أن كتاباته تشهد علي أنه لم يكن مجرد طبيب أو عالم، بل انه كاتب وأديب أيضا. ونشير هنا الي اهتمام جاك دريدا بفرويد في علاقته بمشهد الكتابة، مركزا نظره علي كل ما له في كتابات فرويد علاقة بالكتابة وتم اهماله في السابق.وعلي أي، فقد اخترنا هذه المقالة لتجيب عن سؤال قد لا تستسيغه العقول التي بقيت سجينة صورة بنتها قراءات سابقة عن فرويد: هل يمكن اعتبار فرويد شاعرا؟أما الدراسة الأخيرة، فعنوانها سؤال جريء انقلابي: هل يمكن تطبيق الأدب علي التحليل النفسي؟ وهي للكاتب الفرنسي بيير بيار، وصدرت سنة 2004. فاذا كان المألوف أن يناقش المهتمون مسألة تطبيق التحليل النفسي علي الأدب، فان مؤلف هذا الكتاب يقترح بالكثير من الجرأة قلب الأدوار واعادة بناء العلاقات والسخرية من الأذهان التي تستكين الي مسلماتها.وقبل الانتقال الي تناول كل سؤال/ دراسة علي حدة، بما يضيء العلاقة بين التحليل النفسي والأدب، ويعيد التفكير في اشكالية الأدبي والنفسي، نشير الي أن هناك من يقول ان الأدباء وأهل الأدب ليس لهم من التكوين ما يؤهلهم لاستعمال التحليل النفسي. فان كان القائل من أهل الأدب، نردّ علي ملاحظته بالسؤال عما اذا كان من يقرأ النص الأدبي من منظور أسلوبي أو سيميائي أو تداولي يعرف حقيقة ما هي الرهانات الفلسفية والابيستيمولوجية التي تتحكم في المفاهيم التي يستعملها. واذا كان القائل من أهل التحليل النفسي، فاننا نرد بالقول ان المحللين النفسانيين يتحدثون أيضا في الأدب دون أن يكونوا من أهل الاختصاص، أي من أهل الأدب. ويضاف الي ذلك أن الأمر يتعلق هنا بمشروعية توسيع التحليل النفسي ليعم حقولا معرفية أخري، وهذه مسألة خلافية قديمة، فتارة يعتقد أن التحليل النفسي ينحصر في كونه ممارسة لعلاج العصابيين، وتارة يعتقد أن خطاب المحلل النفساني تمكن ممارسته في مجال آخر غير المجال الطبي، ويكون هدفه ليس العلاج بل الفهم والتفسير. وقد تم قبول مبدأ التوسيع ومناقشته منذ بداية القرن الماضي من طرف فرويد نفسه وتلامذته، فالجمعية النفسانية الدولية المؤسسة سنة 1908 أكدت أن هدفها هو تعميق التحليل النفسي وتطويره باعتباره جوهريا سواء في تطبيقاته الطبية أو سواء في استعمالاته في العلوم الانسانية الأخري.1 ـ هل هناك علاقة بين التحليل النفسي والأدب؟يمكن اختزال مضمون كتاب جان بيلمان ـ نويل ـ التحليل النفسي والأدب ـ في عناصر أساس، من أهمها:ـ كشف المؤلف في مقدمة كتابه أهم ما يميز طرفي الثنائية: التحليل النفسي/ الأدب، فبيّـن أن أهمية التحليل النفسي تكمن في خلخلته بعض المسلمات، وذلك بافتراضه أن الأنا ليست سيدة بيتها ، ومعني هذا أن هناك أشياء تفكر بداخل الأنا وتوجه أفعالها مع أفكارها دون حتي أن تحاط علما بحدوث بعض الظواهر. أما الأدب فعن طريقه نعي انسانيتنا التي تفكر وتتكلم، فيه يمكن للانسان أن يسائل نفسه وقدره الكوني والتاريخي واشتغاله الذهني والاجتماعي. انه لغة أخري لا تقول فقط وبالضبط ما يبدو أنها تقوله، وكما أن النفسي ليس كتلة موحدة، فان الأدبي ليس رسالة تحمل معني واحدا وواضحا، فالكلمات عندما تجمع بطريقة أخري، فهي تكتسب سلطة الايحاء باللامتوقع والمجهول. وبهذا المعني، فــالقصيدة تعرف أكثر مما يعرفه الشاعر.ان الأدب، يقول جان بيلمان ـ نويل، يقدم وجهة نظر حول واقع الانسان ووسطه وحول الكيفية التي يدرك بها الانسان هذا الوسط والروابط التي يقيمها معه. والتحليل النفسي يقدم نفسه بطريقة مماثلة: انه والأدب يشتغلان بالطريقة نفسها، فهما يقرآن الانسان في حياته اليومية وداخل قدره التاريخي، ويسعيان الي بلوغ حقائق بالحديث عن الانسان وهو يتحدث. ـ قدم المؤلف في الفصل الأول الذي يحمل عنوانا دالا: القراءة مع فرويد، حججا كثيرة تكشف ولع فرويد بكل أنواع الأدب، وانتهي الي أن مؤسس التحليل النفسي قد كان قارئا كبيرا ونافذا للأدب، وقراءاته الأدبية هي التي سمحت له بالدخول الي مدرسة العباقرة في الأدب الذين سبقوه دون علم منهم الي طريق الاكتشافات النفسية الكبري.ويضيف المؤلف أن أهم اكتشاف في نظرية اللاشعور هو بيانها أن الفصل بين مختلف أنشطة الانسان قد كان فصلا اصطناعيا، فالحلم واللعب والأسطورة والملحمة والرواية والقصيدة ليست موضوعات منفصلة، لأنها من انجازات نفس اللاشعور (اللاشعور باعتباره نظاما لا تنظيما فرديا). ولأنها كذلك فمن المشروع أن يشتغل عليها نفس المفسر.ومن هذا المنطلق، فالنص الأدبي بلا علم منه ولا قصد كتابة مرموزة يمكن فك سننها، أولا من أجل مساعدة المحلل النفسي علي التحكم في مناهجه والتحقق من مسلماته النظرية بمراجعة قيمتها الكونية، وهذا مكسب حقيقي للمعرفة التي يملكها الانسان عن نفسه. وثانيا من أجل أن يساعد التحليل النفسي القراءة علي تعيين بعد جديد للقطاع الجمالي، واسماع ذلك الكلام الآخر بحيث أن الأدب لا يحدثنا عن الآخرين فقط، بل وعن الآخر فينا.ـ وبيّـن المؤلف في الفصل الثاني من الكتاب، وعنوانه: قراءة اللاشعور، أن فرويد قد أدرك منذ وقت مبكر أن الحلم يمثل الطريق الملكي الي اللاشعور، ولذلك كان كتابه الأساس ـ الذي ألفه بمفرده ـ هو: تفسير الأحلام.الا أن ما يجب أن يلفت الانتباه، يقول جان بيلمان ـ نويل، هو ما يلي: أولا، أن الحلم الذي يعالجه المحلل النفساني هو محكي ينتجه الحالم عندما يسترد وعيه، أي انه، بعبارة اللسانيين، ملفوظ سردي. وثانيا، أن الحلم يقدم نفسه باعتباره نصا تنسجه التمثيلات والانفعالات، لكنه ليس رسالة من أحد ما الي أحد آخر، ذلك لأن الحلم لا يتكلم ولا يفكر، وفرويد يشدد علي أنه عمل، فالرغبة الموجودة فيه تتكلم من أجل ألا تقول شيئا، ومن هنا ينبغي أن نري فيه قوة وشكلا، وأن يكون اهتمام المحلل منصبا علي عمل الحلم الذي يقع بين الرغبة والمحكي. والنص الأدبي، كما يفهم اليوم، يتكون من هذا العمل وبه، فهو نص أصيل يقدم للقراءة خطابا من دون عنوان ولا قصد سابق ولا مستوي محدد.ويخلص المؤلف الي ضرورة استثمار كتابات فرويد عن الحلم في قراءة النص الأدبي، نظرا الي التماثل القوي الموجود بين الاثنين. كما تبدو مهمة، في نظره، الاستفادة من كتابات فرويد الأخري (وخاصة كتاب: سيكوباتولوجية الحياة اليومية، وكتاب: النكتة وعلاقتها باللاشعور)، لأن مؤسس التحليل النفسي ركز فيها علي آثار اللاشعور علي الخطاب، وكرس فيها اهتمامه لتحليل الظواهر التي تهم اللغة وحيلها وألاعيبها. ـ وينطلق المؤلف في الفصل الثالث، وعنوانه: أن يقرأ الانسان نفسه بنفسه، من أن الانسان عندما يقرأ العمل الأدبي فهو يقرأ فيه نفسه، ويحدث من خلال القراءة ما سجله فرويد في كتابه: ماوراء علم النفس، أي تفاعل لاشعور القارئ مع لاشعور آخر.ويستحضر جان بيلمان ـ نويل مقالة مهمة لفرويد عنوانها: الشاعر والخيال ، وفيها يجيب فرويد عن سؤال أساس: لماذا ينجح الكاتب حيث يفشل الحالم اليقظ الذي يحكي لنا أحلامه؟ ويجيب فرويد بأن الكاتب يقوم بتلطيف ما في الحلم من تمركز علي الذات، ويغرينا بالاستفادة من لذة شكلية خالصة، ويحقق لنفسيتنا متعة تجد معها الخلاص من بعض التوترات.ـ وفي الفصل الرابع، وعنوانه: قراءة الانسان، سجل المؤلف أن فرويد قد شقّ الطريق في مجال التحليل النفسي للأدب في اتجاه كل أنماط المقاربة: من قراءة الانسان الي قراءة العمل الأدبي أو الفني في حد ذاته الي قراءة كاتب ما أو فنان ما. وهو في قراءته الانسان انصب اهتمامه علي تحليل الركائز الأساس التي ما ينفك الكتّـاب والنصوص يستخدمونها ويستثمرونها بطريقة جديدة في كل مرة، وهي ليست وقفا علي عصر أو لغة أو فرد ولا أصل لها لأنها تنتمي الي الرأسمال الرمزي للانسانية، أي أنها تقاليد غارقة في ليل الأزمنة، في ليل اللاشعور: الأساطير، الخرافات، المحكيات النموذجية، الأجناس والأشكال والأنماط والحوافز الأدبية.ـ ووضح المؤلف في الفصل الخامس، وعنوانه: قراءة الكاتب الانسان، أن الخمسين سنة التي تلت نشر الأعمال الكبري لفرويد لم يكن فيها الا محللون نفسانيون ركزوا علي دراسة الأدب، وقد قاموا بذلك وهم يصبون اهتمامهم علي الكتّـاب والشعراء، وتوقف المؤلف عند أهم هؤلاء المحللين: رونيه لافورج، ماري بونابارت، دولاي، لابلانش، موري، فرنانديز…).ـ وفي الفصل السادس والأخير، وهو بعنوان: قراءة النص، انتهي المؤلف الي أن قراءة النص تعني أن نقرأه بعيدا عن مؤلفه. وهناك بهذا الخصوص سابقة عند فرويد في كتابه: الهذيان والأحلام في غراديفا ينسن، كما يمكن أن نستحضر قراءة جاك لاكان لنص ادغار الان بو: الرسالة المسروقة. ونشير في هذا الاطار الي رسالتنا الجامعية التي صدرت في كتاب سنة 2002 تحت عنوان: لاوعي النص في روايات الطيب صالح، وفيها حاولنا قراءة روايات الطيب صالح من منظور نفساني يقرأ النص بعيدا عن مؤلفه.واجمالا، هناك علاقة حميمية بين التحليل النفسي والأدب، وكما بيّـن جان بيلمان ـ نويل هي علاقة أرادها فرويد نفسه الذي كان يتغدي من قراءاته الأدبية، وقد بينت دراسات أخري أن مؤسس التحليل النفسي كان يتغدي من قراءاته الأدبية ويحلم في الوقت نفسه بالشيء الأدبي، وهذا ما يقصده كلود ميار عندما قال: يوجد الفن داخل التحليل النفسي، انه أحد أبعاده وأحد تصوراته ، ويقول جان بيلمان ـ نويل : ان التحليل النفسي ليس علما فقط، بل انه أفضل من العلم، لأنه فنّ تفكيك حقيقة ما في كل القطاعات الملغزة في التجربة الانسانية، كما يعيشها الانسان، أي كما يحكيها لنفسه أو للآخرين.2 ــ هل يمكن اعتبار فرويد شاعرا؟ أقترح علي القارئ الكريم مقالة تدعو الي تغيير نظرتنا الي فرويد:Lydia Flem,Freud poete de l inconscient,Alliage,N37-38,1998فرويد شاعر اللاشعور، هذا عنوان مقالة ليديا فليم وموضوعها، ويمكن اختزال مضمونها في العناصر الآتية: ــ تفتتح المقالة بالتنبيه الي خطورة الفصل بين المعرفة التي يؤسسها فرويد عن اللاشعور والطريقة التي يكتب بها هذه المعرفة، ففي مؤلفاته ليس هناك فصل بين الأكاديمي والأدبي، بل هناك زواج بينهما، ومؤسس التحليل النفسي يعلمنا كيف يمكن للاستيتيقا أن تكون منهجا، لأنه يزاوج بين العلم والفن، بين النظرية والأوتوبيوغرافية، بطريقة ابداعية يمتزج فيها هي الأخري الاندفاع والتعقل، التحقيق والتخييل، فالطريق التي تقود المحلل النفساني الي اللاشعور تمرّ عبر لعبة من الكلمات والترابطات التي تنسج السرد، وتتنقل بشكل مدهش من مجال الي آخر، من المرئي الي المجرد، من اليومي الي النظري، من العلم الي الشعر.وقد وصف فرويد في رسالة الي Sandor Ferenczi عملياته الابداعية بأنها سلسلة متوالية من ألاعيب جريئة صادرة عن المخيلة، ومن نقد قاس باسم الواقع. وفي الواقع، ففرويد يقاسم الأطفال والكتّـاب وكل المبدعين هذه القدرة الابداعية علي استقبال ما يعتبر بعيد الاحتمال، وعدم اهمال ما يبدو غير منسجم أو شاذا أو غير دالّ أو مخجلا. وهو في نهاية حياته، نجده يقارن بين التحليل النفسي والعلوم الدقيقة فيقول: أحسد دائما علماء الفيزياء والرياضيات الذين يمكنهم أن يستندوا الي أسس صلبة، بالنسبة اليّ، لا أستند الي شيء … ان الوقائع النفسية تبدو مستحيلة القياس، وربما ستبقي كذلك دائما. منذ كتابه الأول: دراسات حول الهيستيريا(1895)، يعترف فرويد بأن قصص المرضي لا الأمراض تتم قراءتها كروايات، ويضيف أن لا قيمة للعلاج والصدمات الكهربائية في دراسة الهيستيريا، في وقت يسمح فيه الشعراء بطريقة تقديمهم للسيرورات النفسية باكتساب ذكاء يساعد علي فهم هذه الظاهرة. ـ أعاد فرويد للمعرفة سحرها وفتنتها، وهذا ما يسجله ميشيل دوسيرطو في كتابه (وخاصة في ص ص :104، 127، 132):Histoire et psychanalyse entre science et fiction,Gallimard,1987بالنظر الي كتابات فرويد، نجد التحليل النفسي يستخرج صوره ووجوهه من البلاغة( الاستعارة، الكناية، التحويل، التكثيف …)، ونجد فرويد يهتم دائما بالاعتراف بردة فعله الانفعالية تجاه الشخص أو الوثيقة موضوع التحليل. فعلي عكس العلوم الدقيقة، يعتبر التحليل النفسي أمرا ضروريا أن يعترف الخطاب بذاتيته. وفي كتابه الأساس: تفسير الأحلام (1900) يقول فرويد انه من أجل ابلاغ أحلامه الي القارئ، عليه أن يعرض أمام عينيه الكثير عن حياته، وهو أمر يبدو غير ملائم عندما يتعلق الأمر برجل علم لا بشاعر. ـ اعترف فرويد في رسالة الي Arthur Schnitzler أنه يتحاشي مرافقته ومحادثته، لأنه يتجنب اللقاء بقرينه وشبيهه، فهو يجد في انتاجات هذا المبدع، وخلف مظهرها الشعري، الفرضيات والنتائج التي تخص المحلل النفساني.وبالمقابل، عبّر الكثير من الكتّـاب والمبدعين لفرويد، في السنوات الأخيرة من حياته، عن اعجابهم بأعماله النظرية باعتبارها تنتمي الي الأدب مثل أعمالهم (توماس مان، ألبير كوهن، فيرجينيا وولف رومان، رولان…). ولا يخلو من دلالة أن ألبير انشتاين القادم من مجال آخر قد قال لفرويد في رسالة تعود الي 4 ايار (مايو) 1939 انه معجب بكتاباته من الزاوية الأدبية، فهو لا يعرف معاصرا آخر قدم موضوعه باللغة الألمانية بمثل كفاءة فرويد.ـ قدم فرويد مشروعا في الكتابة، أي عمل كاتب، وهو يحيا في الفضاء الحميمي للكلمات، في سحرها وأصواتها وصورها. فهو أولا لا يقدم عملا كاملا وتاما، بل نجده يسمي دراساته: محاولة أو ملاحظات أو مساهمة أو مدخلا… كأنه يفتح ورشا ليبقي دوما مفتوحا. وهو ثانيا يحاول أن يكتب شيئا لا مرئيا ـ اللاشعور ـ ويعلم أن تنزيل ذلك لغويا هو المشكلة العظمي، ومن هنا اهتمامه بالأدب، لأن الروائع الأدبية نجحت في كتابة هذا اللامرئي . وهو ثالثا يحاول أن يفهم كيف ينكتب اللاشعور في مجموعة من الظواهر والخطابات من أهمها الحلم، فتحدث عن النص الظاهر والنص الباطن، وركز انتباهه علي آليات التكثيف والتحويل والتمظهر التي تتحكم في الحلم، فكان بذلك يخوض في مسألة أساس جعلته، في نظر جاك دريدا متقدما علي عصره: انها مسألة استعارية الكتابة، فقد كان فرويد في نصوصه يسائل بنية المشهد النصي للحلم، مركزا نظره علي الجسد التعبيري لا باعتباره مجرد ظاهر حامل لباطن ثابت، بل باعتباره جسدا استعاريا متعدد المعني يستحيل سجنه في مدلول واحد ووحيد. واجمالا، يبدو أن فرويد قد خضع أواخر القرن الماضي لقراءات جديدة (جاك لاكان، جاك دريدا، جان بيلمان ـ نويل …)، وهذا ما يسمح بالقول ان نصوصه مفتوحة ومنفتحة تحتمل قراءات متعددة، وهي بذلك أكثر قربا من النصوص الشعرية والأدبية. وكما قالت ليديا فليم : ان كتابة فرويد الاستعارية تجري بشكل لا نهائي وراء اللاشعور من أجل اعادة كتابة تمظهراته وتحولاته التي تبدو لانهائية، وهي تجري وراء ذلك دون أن تتمكن بشكل تام ونهائي من بلوغ مرادها. انه بين العلم والفن يرسم فرويد طريقا آخر يجمع بين العلم والتخييل، وهي طريق سماها فرويد نفسه: التخييل النظري. ولمزيد من التوضيح، هل نستحضر أهم محلل نفسي بعد فرويد: جاك لاكان؟ ألا يمكن اعتبار هذا المحلل النفسي أحد أهم من استوعب الدرس الفرويدي، ليس لأنه أقام جسورا بين التحليل النفسي واللسانيات والنظريات الشعرية المعاصرة، ولا لأنه يعتبر الشبكة اللاشعورية مفتوحة بامتياز علي كل المعاني، ولا لأنه يعتبر الأهم في نص اللاشعور هو قوة داله وغياب مدلوله، بل لأن كتابه الأساس في التحليل النفسي يحمل عنوانا شديد الدلالة: كتابات Ecrits، وهو كتاب افتتحه بقراءة عمل أدبي: قصة الرسالة المسروقة لادغار الآن بو.3ـ هل يمكن الانتقال من تطبيق التحليل النفسي علي الأدب الي تطبيق الأدب علي التحليل النفسي؟3 ـ 1 ـ أقترح علي القارئ الكريم كتاب بيير بيار:Peut-on aلنخلخل بعض المسلمات فـ الأنا ليست سيدة بيتها !liquer la lierature a la psychanalyse,ed Minuit,2004,Paris هل يمكن تطبيق الأدب علي التحليل النفسي؟ انه عنوان هجومي قوي، ذلك لأن العادة أن الناس تتساءل ان كان ممكنا تطبيق التحليل النفسي علي الأدب، لا العكس.والواقع أن ما يجعل هذا الكتاب قويا أن صاحبه الذي أصدر ثمانية كتب في الخمس عشرة سنة الأخيرة يأتي في كل كتاب بشيء مثير وغير منتظر، وتتميز نصوصه بخصائص لافتة للانتباه وضرورية للتفكير الحي المتجدد، ومن أهم هذه الخصائص:ـ أن بيير بيار يجمع بين خاصتين جوهريتين: هو محلل نفساني Psychanalyste وأستاذ للأدب الفرنسي بجامعة باريس الثامنة.ـ أصدر بيير بيار ثمانية كتب لفتت انتباه القراء والمهتمين والمختصين في التحليل النفسي والأدب، بمفاجئاتها واكتشافاتها ومراجعاتها للأحكام والمسلمات. ففي كتابه: من قتل روجيه أكرود؟ (1998)، وكتابه: هاملت: بحث وتحقيق (2002) كشف أن بعض الكتّاب قد يخطئون بخصوص مرتكبي الجرائم في أعمالهم، وهم بذلك يتركون المجرمين أحرارا! وفي كتابه: كيف نصلح الأعمال الأدبية التي أخطأت هدفها؟ (2000) فتح ورشا لاعادة كتابة الأدب، وحتي الكتّـاب الكبار، في نظره، قد تصيبهم لحظات ضعف، والي الناقد يعود القيام مقامهم. وفي كتابه : الغد مكتوب (2005) يتساءل بيار: هل يستمد الأدب الهامه من الماضي فقط أم من المستقبل أيضا؟ هل كان ممكنا أن تسبح أعمال فرجينيا وولف في متخيل الماء والموت لو لم تستمد ذلك مما سيعلمه اياها انتحارها في المستقبل؟ أكان ممكنا أن يصف موباسان الحمق في بعض أعماله لو لم يقم هو نفسه في المستقبل بتجربة أليمة؟ وتكمن أهمية هذه الأسئلة في أنها، أولا، اعادة النظر في مفاهيمنا التقليدية التي تبقي سجينة مسلمة مفادها أن الأسباب تسبق بالضرورة النتائج، في حين نجد الأدب يقول العكس. وتعلمنا ثانيا أن دراسة بيوغرافية الكتّاب تفترض أن ليست الحياة وحدها هي التي تحدد العمل الأدبي، بل ان العمل الأدبي قد يحدد الحياة أيضا. ــ استطاع بيير بيار أن يؤسس له أسلوبا خاصا، ومن أهم سماته: التفكير في المفارقات والميل الي البحث والتحقيق والسخرية. وهو يقول ان منهجه غير فاعل وغير اجرائي، وهنا خاصية أخري في أسلوبه: الميل الي الفشل واخطاء الهدف والخطأ والافلاس، وهذه خاصية سمحت له بالاشتغال علي النصوص بطرق مختلفة، فقد يكون هذا الاشتغال تعديلا للنصوص كما في بحثه حول هاملت، وقد يكون تصحيحا وتنقيحا كما في كتابه عن بروست، وقد يكون تغييرا كاملا للنصوص كما في كتابه حول الأعمال الأدبية التي أخطأت هدفها. 3 ـ 2 ـ بيير بيار مختص بالذات في علاقة التحليل النفسي والأدب، وهذا ما يفسر لماذا يجمع أسلوبه بين الجد واللعب، كيف يقلب العبارات من أجل لا بناء منهج جديد يدعي الكمال ويطمح الي الهيمنة، بل من أجل فتح آفاق جديدة للتفكير في الأدب بسخرية لاذعة لا تؤمن كثيرا بالأسس التي يقوم عليها النقد أو النظرية.وبغير قليل من السخرية، يقدم بيير بيار نظرية جديدة: تطبيق الأدب علي التحليل النفسي، ويمكن اختزال مضمونها في عناصر أساس، من أهمها: ـ لاحظ بيير بيار بأن النقد الأدبي الذي يطبق التحليل النفسي قد أصابه الافلاس، ويعود السبب في ذلك الي أن تطبيق التحليل النفسي علي الأدب يؤكد النظرية التي تمّ الانطلاق منها، ولا يضيء العمل الأدبي. وبالعكس، اذا تم الاعتماد علي منهج يقلب الأشياء، يكون بامكان الأدب أن يقول أشياء عديدة للتحليل النفسي.وبعبارة أخري، فالفكرة الأساس عند بيير بيار أنه ليس من الملائم تعنيف النصوص واسقاط تأويلات عليها، بل لابد أن نعمل من أجل أن تمتد معانيها فينا، وأن تنطلق منها عناصر معرفة جديدة.ـ فسر بيير بيار أن المعرفة الانسانية حول الجهاز النفسي لم تكن مسارا بطيئا عرف انطلاقته القوية في القرن التاسع عشر، وخاصة في أواخره مع فرويد، كما يعتقد البعض. وقد حان الوقت في نظره لاعادة قراءة ما قبل التحليل النفسي، وفي هذا الاطار أصدر بيار كتابا مهما سنة 1994 عنوانه: Maupaant,juste avant Freud,ed Minuit,1994,Paris وفي هذا الكتاب يقرأ المؤلف فرويد بمساعدة موباسان، ويقوم باكتشاف الامكانات النظرية التي يمكن أن توجد في فعل الكتابة نفسه، ويعلمنا في هذا الكتاب وفي كتب أخري كيف نعيد بلذة جديدة اكتشاف هوميروس وسوفوكل وشكسبير وموباسان وهنري جيمس.يهتم بيار في كتاباته باعادة قراءة أعمال أدبية سابقة، ويقوم بفحص بعض المعاصرين لفرويد وهم لافرويديون من مثل بيسوا وبروست، وينتقل الي كتّـاب ما بعد فرويد مثل أندري بروتون وبول فاليري وسارتر وأغاثا كريستي… الخ.وغايته من ذلك أن يوضح أن الأدب، بمنطقه الخاص، لا يكفّ عن الخلق والابداع، ويقدم نظريات أخري قابلة للاكتشاف، ويمكنها أن تكون أكثر تقدما مما يقدمه التحليل النفسي.وهو في هذا السياق يسجل، بسخرية لاذعة، أن التحليل النفسي قد هيمن علي أشكال المعرفة التي تهتم بالجهاز النفسي، وقام بابتلاع الأدب بشكل من الأشكال، وجلس علي عرش كل المعارف الممكنة حول الجهاز النفسي.ويواصل بيار سخريته من التحليل النفسي، فيشبه نظام تفكيره، كما يمارس اليوم، بأنظمة المعلوميات. فالتحليل النفسي هو: Systeme Windows الذي من دونه لا يمكن الدخول الي الجهاز النفسي، والفرويدية قد احتلت، في مقاربة الجهاز النفسي، مكان مايكروسوفت للحواسيب الفردية.بالنسبة الي بيير بيار، اذا أردنا الاستمرار في انتاج الفكر حول الذات أو حول العلاقات بين الكائنات الانسانية، فان سؤالا أساسا يفرض نفسه: كيف الخروج من نظام تفكير التحليل النفسي؟ويذهب بالسؤال بعيدا، فيتساءل: كيف الخروج من التحليل النفسي ليس بالرجوع الي الوراء، بل بالتوجه نحو المستقبل؟ والجواب الذي يقترحه هو: الأدب. بمعني أنه يقترح تطبيق الأدب، علي الأقل في أعماله الكبري، في دراسة الجهاز النفسي. فالأدب، في نظره، ينتج، بطريقته الخاصة، مفاهيم، واذا عدنا الي أعمال باسكال وسرفانتس وفلوبير وبروست وفاليري وبروتون وناتالي ساروت وموباسان وبورخيس وزولا سنجد مفاهيم لقراءة الجهاز النفسي.ويعطي بيار أمثلة مهمة عن المفاهيم التي يمكن استخراجها من الأعمال الأدبية. ويؤكد علي أن قوة النماذج الأدبية تعود الي ضوئها الهارب، واستبدال المفاهيم بالكلمات، وعدم دقتها النظرية، وهي في الواقع لا تحتوي الا علي ممكنات أو مقاطع نظرية تستلزم مشاركة قرّاء قادرين علي ابراز هذه العملية الأولية التي تسبق عملية التنظير، والتي انطلاقا منها يفكر الأدب ويدفع الآخرين الي التفكير.وبمعني آخر، من أجل أن نجعل من النماذج الأدبية نسقا منافسا للنموذج الفرويدي، لا بد من تحويل الكلمات الي مفاهيم، وهو ما يعني استيلاد التحليل النفسي من الأعمال الأدبية نفسها.وختاما، ان اقتراح تطبيق الأدب علي التحليل النفسي اقتراح جريء وخصب، لأنه يعرض مستقبل التفكير الذي تفتحه النصوص الأدبية وأنماطها الخاصة في الابتكار والابداع. وهذا اقتراح من كاتب هو في الوقت ذاته محلل نفساني وأستاذ للأدب بالجامعة الفرنسية، يجمع بين التخييل والتنظير بطريقة مدهشة، ويزاوج بين الشك والاصغاء الحكيم للكلمة، كلمة الآخر.ہكاتب من المغرب0