لماذا كل هذا الافتتان العربي برامبو؟
د. محمد عبيد اللهلماذا كل هذا الافتتان العربي برامبو؟اسم آرثر رامبو من الأسماء المألوفة عند المثقف العربي، وعند المشتغلين بالشعر وشؤونه، بل إنك تحس أحيانا أن الشعراء العرب يذكرونه بحنو عجيب، كما لو كان واحدا منهم، أو كما لو أنه يرتبط معهم بنسب ..حتي إقامته الغريبة المريبة في عدن المرتبطة بالبحث عن العاج والثراء وامتلاك العالم، شأنه شأن التجار الغربيين المهووسين بثروات الشرق، تكتسب عربيا قراءات أخري، إذ هي من صميم المغامرة الرامبوية العبقرية، فالعالم عند الشاعر العربي قبل رامبو يختلف عما بعده، هناك حقبة ما قبل رامبو وهناك حقبة ما بعد رامبو، أما من لم يصب بلوثة أو مس من رامبو وشيطنته ومغامرته فلا بد أنه يعاني من خلل إبداعي ومن رعونة تراثية تدفعه لرفض الجديد والمختلف.ما علينا إن كان رامبو ابن القرن التاسع عشر حداثيا أم لم يكن، لكن ما نحب التفكير فيه كيفية استقباله في الثقافة العربية، وكيف انشددنا بقوة إلي واحد من أعلام الشعر الفرنسي ونحن لا نعرف الفرنسي، لولا أن أشفق علينا بعض الغيورين فترجموه لنا وقدموا شعره وسيرته ورسائله علي طبق من ورق، وبهذا الشكل تم تداول رامبو إلا من قلة قليلة تعرف الفرنسية، والغريب أن حضوره في المشرق العربي (الذي تشيع فيه الانكليزية كلغة ثانية) يبدو أوسع بكثير من أقطار المغرب العربي المرتبطة بالفرنسية، وهذه عجيبة أخري إذ أن من ترجموه مشارقة وليسوا مغاربة، بل إن رامبو القحطاني يبدو خامل الذكر في شمال إفريقيا لوجود بدائل أخري أو لأسباب علمها عند الله والراسخين في النقد والشعر.لا شك طبعا أن لرامبو أثرا ما في الثقافة الفرنسية والغربية فهو مرتبط عندهم بالحداثة الشعرية وبالتجديد في قصيدة النثر وفي تحطيم الأشكال الشعرية، ولولا ذلك التأثير لما كان هناك جيش من المؤرخين والنقاد ممن تخصصوا فيه وتتبعوا كل صغيرة وكبيرة في حياته، حتي التفاصيل المخجلة حاولوا أن يجمّلوها لتكون جزءا من المغامرة الرامبوية التي لا تتكرر، تم هذا علي الرغم من حياته الإبداعية القصيرة ومغادرته للشعر قرابة منتصف العشرينات من عمره، ثم تحوله إلي عوالم أخري بعيدة عن أي اهتمام ثقافي، ولكننا لا نتساءل عن حضوره الغربي بل نحاول أن نفهم أسرار قحطانيته وكيف أنجزت النسخة العربية منه؟ لاسم رامبو طنين وأي طنين عند المثقف العربي، بل ويبدو من تلك الأسماء التي يتقبل إنتاجها دون نقاش فسواء فهمته أم لم تفهمه ينبغي أن تعترف بأهميته وبتأثيره وإلا فأنت لم تبلغ بعد حدود الثقافة وشروطها، ومع أن رامبو بعيد في شعره عن ثقافة الشرق وميولها الروحية والإنسانية، وهو أقرب إلي خلاعة باريس التي كتب عنها وصورها فقد تم اختلاق ميول صوفية وشرقية له، وقرئت خبرته العدنية التجارية قراءة معكوسة لتغدو دليلا علي ميله الشرقي بل علي كونيته، وما أسهل استخدام هذه الألفاظ عندنا، ما أسهل أن نطلق أحكام الكونية والوجودية علي أية ظاهرة نفهمها أو لا نفهمها. لقد وصلنا شعر رامبو عربيا بترجمة خليل خوري ثم بترجمة كاظم جهاد، وهو بصيغته المعربة لا يدل علي شاعر فيه كونية أو وجودية مما يتحدث المعجبون عنه،بل لا تبدو فيه تلك القلاقل والثورات النفسية العارمة وذلك العبور الحاد إلي مجاهيل الذات الإنسانية كما قرأنا في بعض النقد العربي عنه،وربما لم تعكس الترجمات ذلك،لكن ما تدل عليه قصائده، رغم أن الترجمة دوما صورة مضللة وخائنة، أن هناك مخلوقا مضطربا اضطرابا مرضيا ومهووسا أنتج نصوصا مريضة ليس فيها قيم إنسانية بقدر ما فيها من عداء ومناهضة لما هو إنساني، رامبو أحد كبار المرضي المتفوقين وقد وجد في الشعر الذي كتب أكثره تحت تأثير الخمر والمخدر شكلا من أشكال التعبير عن التفوق أو السعي إليه وعندما فشل في ذلك قصد سبيلا آخر مختلفا عن الشعر ومتطلباته. قد نربط بين اضطراب رامبو والحياة التي عاشها ابتداء من والده العسكري الذي شارك الجيش حروبه وحملاته قبل أن يتقاعد ويختفي أثره من حياة رامبو. ثم هناك الحروب والاحتلال الألماني للمنطقة التي ولد وعاش فيها وتطوعه هو في بعض الجيوش غير الفرنسية. وقد لا يكون شارك في الحروب وقتل أحدا لكن حياته العنيفة لا تمنع أن يكون قاتلا،وشخصيته التي تبدو في سيرته ليست أكثر من شخصية منحرف مستعد للإجرام ولكل الموبقات إلا إذا كان الشعراء يجملون الشر ليغدو للشيطنة بلاغتها حتي بمعناها اللا إنساني كما هو عند شاعرنا رامبو. لا بد أن نذكر أيضا علاقته المثيرة مع صديقه الشاعر المتشرد فيرلين وهي علاقة اهتم بها مؤرخوه وأبرزوا تفاصيلها وحضورها الساطع في شعره وحياته،ومن تفاصيل هذه العلاقة أنهما أقاما معا كعشيقين وحين هجر رامبو صديقه مرض فيرلين حتي اتصلت أسرته برامبو و أعادته من جديد إلي صاحبه الموله به رغم أن فيرلين متزوج لكن للعشق جنونه، وتكاد العلاقة تنتهي بكارثة إذ يطلق فيرلين النار علي رامبو ويصيبه فينتقل أحدهما للمستشفي والآخر للسجن ويحكم عليه مدة سنتين.ومع التسامح الشديد تجاه هذا القسم الشائن من منظورنا كعرب، فمن الصعب قراءة رامبو بعيدا عن شذوذه وخصوصا في مرحلته الشعرية القصيرة إذ هي ذاتها مرحلة اتصاله بفيرلين وحين فارقه غادر الشعر إلي غير رجعة كما لو أنه نزوة طارئة نسيها تماما، بل إنه في حياته وسلوكه لم يكن شاعرا ولا إنسانا حقيقيا لا في المرحلة الشعرية ولا في بقية حياته، ومهما نحاول تأويلها فهي حياة انحراف وإجرام وليست أبدا حياة شعراء ومبدعين. قد يقال إن الأخلاق شيء، والإبداع شيء آخر، وهذا يصح في بعض الأحوال.. لو أن لرامبو هواجس مست بعض ما يرتبط بهواجسنا، أو لو أنه اتصل بنا بسبب آخر، غير أحلام الثراء.. سأعترف مثلا، بأن المثقف العربي، كثيرا ما تعوزه الجرأة، فيزعم لبعض الأسماء مكانة وتأثيرا، وهو غير مقتنع بكثير مما يقول، خشية من اتهامه بالتقليدية أو الجهل مثلا، كأنك حين تعلن رأيك في ظاهرة أو اسم مشهور، وتكشف عن عدم إعجابك به ستفقد شيئا من مظاهر الثقافة، كأن من شروط الثقافة أن يعجبك رامبو، وأن تتوله ببودلير أو إدغار ألان بو.. أما إذا لم يعجبك واحد من هؤلاء، فأنت لا تتمتع بالكفاية والقدرة.. مقابل هذا يمكنك أن تشتم المتنبي، أو المعري، أو درويش أو أدونيس… ليل نهار، فهذا يدل علي أنك حداثي أو ما بعد بعد حداثي.. لا يهيمن عليك التراث ولا الكلاسيكية الجديدة.. قد يكون هذا استطرادا، لكني أراه ضروريا، لأنه يقع في صلب قضية استقبالنا لرامبو.. ومن شابهه.. في العصر الحديث.. قرأت رامبو بالعربية، مما كتبه خليل خوري في كتابه (رامبو ـ حياته وشعره) وهو كتاب صدر في ثلاث طبعات، وقرأت ترجمة كاظم جهاد في الكرمل (عام 1991) وتابعت بعض ملفات مجلاتنا العربية عنه، وللأسف حتي اللحظة لم أجد فيه ما يثير الإعجاب…. ولست أعرف كيف تأثر به من يزعم التأثر، خصوصا وأن أكثر الشعراء العرب لم يقرأه بالفرنسية التي قد تكون القراءة المباشرة منها قادرة علي تبين مكانته والتأثير الذي تركه، أما الترجمات فإنها تحول شعره إلي معان ملتبسة، وإلي مجرد نصوص نثرية غير دقيقة المعني.وقد قارنت بين ترجمة خوري وترجمة جهاد وهما الأكثر شهرة، فوجدت ما يستطيع أي قارئ أن يتبينه من سوء الفهم والاضطراب والاختلاف في فهم النص الأصلي، فأي شعر لرامبو يتبقي بعد هذا؟ وأي تأثير تتركه ترجمات نثرية لشعر يقال إنه غيَر اللغة الفرنسية ذاتها، بعد أن جابه صاحبه اللغة ككل شاعر مجدد، لا بد أن يجدد في لغته بمستويات كثيرة.إذن ما الذي أعجب الشعراء العرب، أو بعضهم في رامبو؟ هل أعجبتهم حياته التي لسنا مسؤولين عنها بحال، بل مسؤوليتها تقع علي أحواله هو وأحوال فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. أتصور أن (رامبو) العرب هو صورة مختلفة، تختلف عن (رامبو) الأصلي، بمعني أن هوسا ما بأسماء عالمية يصيب ثقافتنا ومثقفينا بين حقبة وأخري، فمرة نصاب بهوس رامبو، وفي حقبة أخري بهوس بودلير، وحقبة ثالثة بهوس ماياكوفسكي أو بوشكين، وهكذا.. وهكذا.. ثم يجري الأمر كما لو كانت هذه الأسماء من أسمائنا، وكما لو كنا نعرفها بلغتها.. ولوثة رامبو هي واحدة من هذه البرهات لثقافة تجري إلي غير مستقر، ما أسرع ما يتوافق أصحابها علي اسم ما، فيصبح من العيب نقده، أو الإعلان عن عدم فهمه أو التواصل مع نتاجه..(رامبو) في نسخته وصورته العربية ليس أكثر من موضة، وليس أكثر من تشوه ثقافي، من ضمن إصاباتنا الكثيرة، فما الذي يخدم الثقافة العربية مثلا، لو أخذ الشاعر العربي بمبدأ (تشويش الحواس) وهو مبدأ جري الأخذ به، فتحولت قافلة من الشعراء العرب إلي الهذيان، هل نحن محتاجون إلي نصائح رامبو ليدلنا علي الشذوذ وعلي حبوب المخدر وعلي زجاجات الشمبانيا، لنكتب شعرا يتجاوز حدود الحواس، ويصل حدود المطلق، هل نحن محتاجون لرامبو كي يعلمنا الهذيان علي طريقته، وما هو في ختام الأمر، إلا أحد مرضي الثقافة الغربية، وأحد نتاجاتها المشوشة…هل قرأناه في هذياناته مثلا وهو يحلم : كنت أحلم بحروب صليبية، برحلات اكتشافات لا علاقة لنا بها، بجمهوريات لا تاريخ لها، بحروب دينية مخمدة، بثورات أخلاق، بهجرات سلالات وقارات: كنت أؤمن بكل الرقي (انظر: رامبو: حياته وشعره لخليل خوري: ص 206). أية حروب صليبية يحلم بها، وأية اكتشافات، وهل كانت رحلته التجارية إلي اليمن والحبشة ومصر، ضمن هذه الأحلام، وهل هذه هي صيغتها الشعرية؟ولنترك كل ما ليس له علاقة بالشعر، ونتساءل عن (فصل في الجحيم) وعن (إشراقات) وبعض النتف الأخري، وعن رسائل رامبو، ماذا خلَفت من تأثير في الشعر العربي؟، في تصوري أنها لم تترك تأثيرا بالغا أو ظاهرا إلا في بعض التجارب المشوشة، خصوصا من شعراء الترجمات، وصيادي الهذيان، ولذلك فلا ذكر لرامبو في المتون الأساسية للشعر الحديث، ويتأكد هذا مع استذكار أنه كتب بالفرنسية غير الحاضرة في المشرق العربي، وليس له ذكر كبير في المغرب العربي، أما السحر الذي أحاط باسمه فليس أكثر من سحر سيرته كشاعر مشَاء، اكتشفه مؤرخو الأدب بعد مغادرته للشعر وللحياة، فتحول أولا إلي أسطورة غربية، ثم تحول إلي نسخة عربية مشوشة. سأعترف بأنني لم أفهم شعره من الترجمات، ولم أتواصل معه، بل لم أتعاطف مع شاعر لوطي، يكتب عن الخلاعة الباريسية، وعن مناخ لا أستطيع أن أتمثله أو أتواصل معه، يكتب عن الأخ المسكين الذي جرعه السهرات الباهظة ، ويقصد (فيرلين) المتشرد معه. حتي قصيدته الشهيرة، ذات العنوان الدال (المركب السكران) لم أستطع ( عبر الترجمة ) أن أحس بها، أو أفهمها، ولو كتبها أو كتب مثلها، أي شاعر عربي، لما التفتنا إلي عمله، وقد تكون بلغتها الأصلية قصيدة جميلة وجيدة، لكنني أتحدث هنا عن استقباله عربيا، لأننا لم نقرأه بالفرنسية، بل عبر الترجمات. في قصيدة معنونة بـ (ليل الجحيم) يبدأها بقوله : لقد ابتلعت جرعة من السم قوية ـ ويشرحها كاظم جهاد، بأنه يقصد جرعة المخدر التي تناولها، في هذه القصيدة، التي يتصاعد فيها هذيان المخدر، يقول: سأكشف النقاب عن كل الأسرار: أسرار الدين والطبيعة، الموت، الولادة، المستقبل، الماضي، نشأة الكون، والعدم، أنا في استحضار الأرواح أستاذ ـ هذا مقطع لا شعر فيه (بالعربية) لأنه مكون من أفكار مجردة، لا تتجاوز ادعاءات إنسان تحت تأثير المخدر، وهي نشوة قوة كالتي تصيب السكاري لكنها لا تلبث أن تتحول إلي ضعف وهشاشة في آخر القصيدة : وهذا السم، هذه القبلة الملعونة ألف مرة، ضعفي، وفظاعة العالم، إلهي رحماك، لتخبئني، إنني لا أتماسك. بهذه الصيغة العربية، ماذا نفهم من هكذا نص؟ هل نخرج منه بأكثر من هذيان إنسان مشوش مضطرب؟ وهل ينبغي للشعر أن يكون كذلك؟ وهل تنقص الشاعر العربي علل أخري للهذيان ؟ وهل حقا أثر رامبو في الشعر العربي؟ أم هو هذيان آخر يعود للثقافة الشفوية في المقاهي؟ أخيرا، فإن هذا الكلام لإنسان حاول أن يفهم رامبو بل لهج بذكره مع الذاكرين في زمن ما ،ولكنه حين عاود قراءته دون أوصياء ودون أحكام مسبقة وجده مما لا ينفع الناس ولا يمكث في الأرض، وكل ما ورد لا يلزم أحدا باتباعه لأنها انطباعات ذاتية لا تلغي ما لرامبو القحطاني من صولات وجولات قد يتبينها الآخرون، أما هو (أعني أنا) فيكفيني أن أجد فسحة لهذا الرأي بين المعجبين برامبو والشادين بفضله. وكفي الله المؤمنين شر القتال.شاعر وناقد من الأردن[email protected]