استفاق لبنان من أتون شهرين من التدمير المنهجي المتواصل، ومن التهجير القسري لمعظم الجنوبيين وسكان الضاحية الجنوبية والبقاع الشمالي، أي لأكثرية مواطنيه من طائفة الشيعة، ولنسبة لا يُستهان بها من المنتمين لغير طوائف. استفاق على جدلٍ معطوب من أساسه بين سرديات فقدت زخمها، ولو أنها لا تعاني كلها من التهافت نفسه، من الضربة القاصمة نفسها.
استفاق لبنان ولم يزل بين حياة وموت. خرج من كابوس الكوابيس ولم يخرج من زمن الكارثة. لا «نشيد أناشيد» ليدندن، ولا قصائد تُرصف إلا معلوكة ومفتعلة ومبتورة. استفاق كما وفي كل مرة، بل أكثر من كل مرة، بذاكرات متباينة، بل متعادية، حول تسلسل الأحداث، بل الويلات، التي لم تنزل بالوقع نفسه على الجميع.
شهران ونيف ولبنان يُصلى بنار إسرائيلية، وبفيلم رعب ليلي متواصل ومتنقل، دُمّرت به آلاف الوحدات السكنية، قُتل فيه آلاف الأبرياء، وظهر فيه ما كان يسمّى النظام الإقليمي الرسمي العربي على حقيقته. صفر على يمين أو على شمال، غائر بين تشفّ وتواطؤ وخمول أبديّ.
كذلك تداعت حيال هذا اللبنان كل سردية «وحدة الساحات» الجهادية، ولم يظهر من المدد الثوري الخلاصي المهدوي المتحرك بتوجيهات الولي الفقيه الإيراني الا محدودية تأثيره، عطالته، ليس فقط من الناحية التقنية، العسكرية، بل لم تظهر حتى تعبئة جماهيرية مساندة لحزب الله في لبنان لا بين شيعة العراق ولا بين شيعة إيران.
اكتشف شيعة لبنان أنهم لوحدهم في هذه الحرب. لقد آثرت الزعامة الأكثر جماهيرية بينهم محاولة إيقاف الحرب الإسرائيلية ذات الطابع الإبادي على قطاع غزة، بحرب مشاغلة بين عاملة والجليل ما لبثت أن تحولت إلى حرب تقاسم لفاتورة الإبادة مع أهل القطاع، دون نجاح في وقف الحرب المتواصلة الإسرائيلية على غزة. والآن تتزايد العدوانية الإسرائيلية وما تروج له من أوضاع في الضفة الغربية، ويظهر في الوقت نفسه شطط الممانعة المتداعية من جهة، بعد أن كبّلت نفسها بشعاراتها وعدم امتلاكها ما يكفي من رصيد ليس فقط لتطبيق هذه الشعارات بل حتى لعيشها.
كذلك يظهر خطل النظم العربية «الأنتي ممانعة». الوهم المستبد بها، من أن نتيجة اختلال موازين القوى في الإقليم إلى هذا الحد لصالح إسرائيل لن تدفع فاتورته سوى إيران وزعانفها في المنطقة، وستبقى السلطوية الأمنية «المعتدلة» بمأمن من تداعياته.
استفاق لبنان بعد الحرب كئيباً، مشوّشاً، يتملّى في اتفاق وقف العمليات العدائية الذي لا تعرف في الواقع هو اتفاق بين من ومن في نهاية المطاف، بين إسرائيل ومن في لبنان، وبينها وبين أيّ لبنان، لبنان حزب الله الذي أراد الاتفاق لوقف حربها عليه، أو لبنان حزب الله الذي أراد حرب المشاغلة لإيقاف حربها على غزة، أو مع لبنان الرسمي الحليف للحزب، ممثلاً بالرئيس نبيه بري، أو مع لبنان الرسمي الذي سيكون مكلفاً بنزع الترسانة الصاروخية لحزب الله. مع أي لبنان رسمي أصلاً في ظل استمرار تغلب الحزب في الداخل، بشكل أو بآخر، حتى ظهور ما بالفعل يناقض ذلك؟ والذي يستفحل فيه الشغور الرئاسي، وحكومته مستقيلة منذ عامين، وبرلمانه معطّل، وأحزابه مجوّفة، ومجتمع المدني مضعضع؟
استفاق لبنان بعد الحرب غير مصدّق بأن برنامج التعذيب الإسرائيلي الدموي لأبنائه قد توقّف، أو عُلّق، أو تراجع، لا يدري جدياً على أي أساس، وإن كان يهمّ البحث عن أساس، أو كان ثمة أساس هنا. استفاق كأنه لم يستفق تماماً. استفاق كما لو أن الكابوس أخذه معه كفكرة. استفاق على أحاديث حول نصر وهزيمة.
استفاق لبنان بعد الحرب غير مصدّق بأن برنامج التعذيب الإسرائيلي الدموي لأبنائه قد توقّف، أو عُلّق، أو تراجع، لا يدري جدياً على أي أساس
ليس الانتصار أو الهزيمة بمقولتين يُشترط التفاهم من الأساس على مضمونهما بين متحاربين.
الحرب إما أن يكون مناطها إملاء شروط – ممن يصبح إذاك رابحاً – على الخاسر، وإما أن يكون مناطها إلغاء الخاسر، شطبه من الوجود، أو تطويعه ليصبح حليفاً للرابح.
أما أن يكون هدف الحرب توحيد السردية، أو تحرير معجم مصطلحات موحد بين المتنازعين، فهذه من النوادر في تاريخ الشرور المتبادلة بين البشر. حبل تأويل الهزائم واسع. هناك من بإمكانه أن يعتبر أن عدم إجهازه بالكامل على عدوه بمثابة انهزام.
وهناك من بمقدوره أن يجادل في أن مجرد عدم تمام هزيمته بشكل كامل هو بمثابة انتصار له. ليس الانتصار أو الهزيمة مع هذا بمقولتين يمكن تلبيسهما أي مضمون وكان والسلام.
للتأوّل فيهما حدود. اتفاق وقف الأعمال العدائية بين لبنان وإسرائيل الذي أخرجه المبعوث الأمريكي عاموس هوكشتين إلى الضوء يرشّح نفسه لرسم حدود هذا التأويل، تحديد وجهته العامة.
طي صفحة المقاومة العسكرية من جنوب لبنان هي مناط الاتفاق. الاتفاق معدوم التوازن لصالح إسرائيل. في الوقت نفسه البعد الإذعاني في الاتفاق لا يلغي تماما الرغاب التملصي منه.
حزب الله ارتضى بهذا الاتفاق لا كي يطبّقه، بل لأن أي وقف للحرب عليه ولو ليوم واحد فيه مصلحة له. إسرائيل تريد من الاتفاق أن ينفذ لها ما لم تحققه بعد بشكل ناجز. في الوقت نفسه، ما لم تحققه هي بالحرب هل يمكن أن يحقق لها بغير الحرب؟
لو كان غرض الاتفاق تثبيت الوضع، تجميده، على ميزان القوى يوم توقيعه لكان الأمر أسهل.
الاتفاق يعطي في الوقت نفسه للحزب قدرة على التقاط الأنفاس، أقله نظريا، ولإسرائيل تنفيذ هجمات إضافية هذه المرة تحت شعار السهر على تطبيق ما تفهمه هي من هذا الاتفاق.
الاتفاق ما كان ليوقع لولا أن الطرفين الأمريكي والإسرائيلي تقبلا إعطاء الحزب ما يفيد الإيحاء بأنه قادر على التملص منه، ولولا إعطاء الأمريكي إسرائيل حق التصرف السريع، عندما ترى أن حزب الله لم يتقيد بما هو مطلوب منه، أو أن الجانب «الرسمي» اللبناني لم يتكفّل ما عليه التكفّل به من تفكيك لشبكة الحزب الصاروخية والعسكرية الموضوعة قبالة إسرائيل.
مع هذا، الحق «النظري» في التملص، من جانب الحزب، و«الترجمة» العملية للاتفاق باستمرار الضربات المتقطعة من جانب إسرائيل، لا يجعلان الاتفاق يتطاير هباء في يوم أو يومين، بل يحولانه إلى إطار غريب عجيب، إلى تأطير للنزاع اللامتوازن. يتخذ النزاع شكل نزاع على تطبيق الاتفاق.
لم يختف «حزب الله» بعد شهرين من أعمال الاغتيال والتدمير وتفجير عشرات المدن والقرى والمعارك. لكنه لم يبق هو هو. واقع الأتون دفعه أكثر فأكثر إلى ما هو أشد أبوكاليبسية من ناحية، مصطدماً بمشهديات نهاية الأزمان، وإلى ما هو أبعد نقطة براغماتية، ناسوتية، يمكن أن يوغل إليها حزب عقائدي ديني يضع على رأس أولوياته تدمير إسرائيل.
لقد عاش الحزب – بهيكله وأهله – «تجربة دينية» تامة في الشهرين ونصف الماضيين. وعاش في الوقت نفسه تجربة تدميرية تامة أيضاً، بما في ذلك تدمير «سرده السياسي».
الجماعة المهدوية تزداد مهدوية اليوم، لكنها تكتشف شيئاً لم تعد قادرة على نكرانه: أنها لوحدها في نهاية المطاف. هذا يزيدها مهدوية، ويزيد في الوقت نفسه من ضراوة التحدي الوجودي بالنسبة لها.
لا أمة إسلامية من تركستان حتى المغرب هبّت لندائها، ولا أمة شيعية من كارغيل والهندوكوش حتى عيتا الشعب، ولا أمة عربية من المحيط إلى الخليج. فقط شيعة لبنان.
حاول «حزب الله» من بينهم أن يخوض حرب مشاغلة لإسرائيل، محافظاً على «غريزة بقاء» تميزه عن الجماعات الإسلامية المقاتلة «السنية» ولم يكن هذا رأي معظم شيعة لبنان، لكن اختلافهم في الرأي أو في الحماسة لحرب غزة لم يجعلهم في المقابل يخرجون على رأي حزب الله، بالذات في زمن السيد حسن نصر الله.
فكانت أن فرضت إسرائيل بعد عشرة أشهر من المشاغلة، حرب «إفناء» خاضها الحزب، وقادته يُقتّلون كنصر الله وهاشم صفي الدين وقادة فرقة الرضوان، ومعظم شيعة لبنان يُهجّرون، وديارهم تُخرّب، لكن الحزب خاضها دون أن يقطع مع «غريزة البقاء» ولو كانت ضريبة ذلك هو التوفيق المستحيل بين «تجربة دينية خلاصية» كاملة، وبين ارتضاء براغماتي لهدنة لا يظهر إلا أنه يريد التملص منها، أو أقله أن يحتاجه لالتقاط النفس، ومن غير المعروف كيف له أن يتملص الآن من أعبائها ومرتباتها، وكيف يمكن للآخرين في المعادلة اللبنانية أن يطبقوا حياله ما ينص اتفاق الهدنة نفسه على تطبيقه. لبنان لم يستفق بعد. حزب الله لم ينته. لكنه لم يعد حزب الله.
كاتب من لبنان