كنتُ قد لاحظت في القسم الأول من عرضي لخطاب النصيحة ونقده لدى الغربيين أن الشعراء الحديثين يخففون عبء النصح، ولا يرون فيه جدوى حقيقية مادام الأمر يتصل بالموهبة. ويسري ذلك على ما قرأتُ لشعراء التحديث في الكتابة الشعرية العربية. لذا قدم محمود درويش في (رسالة إلى شاعر شاب) ما يمكن تسميته خطاباً مضاداً للنصيحة، وتحريضاً لكل شاعر في مستهل تجربته ألا يستمع لأي نصح. فكما أن الحب لا نصيحة فيه إلا التجربة بقول درويش، فإن الشعر لا نصيحة فيه سوى الموهبة، كما يستكمل في البيت الذي يليه.
وتقديم درويش لنصيحته بألا يتبع الشاعر نصيحة أحد جاءت في نص شعري يتحدث عن كتابة الشعر، ما يعطيها قوة إضافية. حيث يمنح الوجود الميتاشعري لرأي درويش وتحريضه على التمرد الجيلي أثراً قد لا يخلقه النص النثري رغم رهافة الصياغة النصائحية أحياناً. إنه يعمق خط رفض النصح والوصية لشاعر شاب ولا يجد سوى التوصية بألا يتبع أصوات سواه من الناصحين، ويزيد عليها التصريح بتجاوز ما قالوه في شعرهم أيضاً، لا في نصائحهم وحسب. فيكون على الشاعر الشاب تجاوز خطاب النصح من الآخر، وتجربته في الشعر أيضاً. ولكي ينزِّه درويش دعوته تلك من أي ظن باستعداء جيليٍّ مثلاُ، أو رفضٍ لتجربة معاصريه وحداثة كتابتهم، ضرب مثلاً وأسوةً بنفسه فقال :
«لن تخيّبَ ظنّي،
إذا ما ابتعدتَ عن الآخرين، وعنّي:
فما ليس يشبهني أجملُ
الوصيُّ الوحيدُ عليك من الآن: مستقبلٌ مهمل».
إنه يخاطب الشاعر الشاب بصيغة التنكير لا التعريف: شاعر شاب، ما يعطي للمحتوى قيمة عامة غير موجهة لشاعر بعينه. وتجنَّب درويش وصف المخاطب بالناشئ أو المبتدئ، فالشباب صفة ترتبط في الخطاب بإيديولوجيا مسبقة تعقد الأمل على فتوحات الشباب في الكتابة. أما (الناشئ) فتتضمن استصغاراً لمشروع الشاعر وتشعره بتصاغر وتعثر.
(إلى شاعر شاب) هو عنوان نص درويش اللا نصحي. والمحذوف قبل العنوان، والمتصل افتراضاً بـ(إلى) يمكن أن يكون (رسالة). بدليل نصي يختم به درويش قصيدته قائلاً (وعليك السلام)، مذكراً بديباجة الخاتمة في الرسالة وروتين كتابتها التقليدي. فهي رسالة إذاً أرادها درويش شعرية للتمعن في مجازاتها التي تخلق سياقها الخاص.
وهنا تكتمل أركان تناص درويش مع ريلكه الذي لا شك أن مدونته «رسائل إلى شاعر شاب» ذات موقع مهم في الأدبيات المتعلقة بالكتابة الموجهة لشباب الشعراء الذين يفترض الناصحون أنهم بحاجة لمن يقدم لهم ما عليهم فعله في مرحلة البداية. وأرى أن ذلك الأمر ينطوي على مغالطة كبيرة، لأنه لا ينطبق على حالات كثيرة عربياً وعالمياً، يحضر فيها شعراء شبان غيروا مجرى الكتابة في عشرينياتهم التي هي مطلع الشباب والنضج. ليس جون كيتس ولوتريامون ورامبو وسيرغي يسينين وأبو القاسم الشابي والسياب إلا أمثلة فحسب. فقد تجاوزوا مسألة الحاجة لوصي ناصح وقدمت نصوصهم نماذج تثويرية يهتدي إليها الشعراء بأنفسهم.
وقد يرى بعض من قرائهم وناقديهم ودارسيهم أن أولئك وسواهم أقبلوا على استخلاص النصح دون توجيه مباشر، عبر قراءاتهم وتأثراتهم الماثلة في نصوصهم. لكن ذلك في حال حصوله لا يدخل في باب التوصية والأمر بالاتباع مما يتضمنه الخطاب النصحي. إنهم يجدون طريقهم عبر تجاربهم ذاتها. ولعل تلك هي الوصية الوحيدة الجديرة بالذكر. وهي ما لخّصه ريلكه في رسائله إلى شاعر شاب بالقول «ليس بوسع أحد أن ينصحك أو يساعدك. لا أحد إلا بسبر أغوار ذاتك..».
لكن درويش بلغته وصوره وإيقاعات قصيدته وتكنيكه القائم على حوارية استبطانية للآخر، وجد السبيل إلى تغيير خطاب النصيحة، محلقاً عن نثر ريلكه رغم شاعرية عبارته وعمقها أيضاً، ليخلق هذا النص الثر الزاخر بالمعاني المقدمة للآخر بجمل شعرية تتناسل عن بعضها، وتستقل، وتتكيف وتتنوع لتوصل الحكمة الأخيرة والخلاصة، وهي ما ختم به نصه أو رسالته وكأنه يصنع بيت، قصيد أو ذروة لملفوظ النص:
«لا نصيحة في الحب لكنها التجربة
لا نصيحة في الشعر لكنها الموهبة».
يجانب درويش أسلوب النصيحة، ويتجنب تسلط الكبير المكرّس شعرياً على الشاب الذي تحف بوصفه ميزة الحاجة إلى التوجيه والتربية الشعرية، رغم استخدام درويش لمفردات من خطاب النصح؛ كأفعال الأمر والنهي، وصيغ النفي المتضمن معاني الطلب أحياناً:
«وابتدئ من كلامك أنت. كأنك
أوّل من يكتب الشعر،
أو آخر الشعراء!
إن قرأت لنا، فلكي لا تكون امتداداً
لأهوائنا،
بل لتصحيح أخطائنا في كتاب الشقاء».
وبذلك ينتصر درويش للشعر والقصيدة. فهو يريد من الشاعر الشاب أن يكون مستدركاً على سابقيه لا امتداداً لهم. وهذا تأكيد لرفض درويش للآباء الشعريين. لا بأس من قراءتهم، شرط أن يرميهم الشاعر إلى النسيان وهو يكتب. إنه ضربٌ من موت المؤلف. ومن وصايا العرب الموروثة شعرياً:
احفظ كثيراً ثم انسَ ما قرأت وماحفظت.
لقد اختار درويش جملاً ومقاطع شعرية تطل كالبرق وتختفي لتولد أخرى. وهي تخطف بصر الشاعر الذي ينشد درساً يستخلصه بنفسه. واستكمل مروره البرقي في خاطر الشاعر الشاب بالايذان بأنه سيختفي من حياة هذا الشاعر، لا بتوديعه في ختام الرسالة، بل في الانتقال السريع للجمل والمعاني والدلالات في النص وتوزيعها المقطعي، وبما أوصلته بتفعيلة (فاعلن) السريعة، وما خلقه تكرارها الحثيث كحالة من الظل، والتحكم حتى في زمن القول، ومدة الملفوظ إيقاعياً.
***
سنعثر في قصيدة قصيرة كتبها الشاعر أمجد ناصر على رؤيته للنصيحة، عنوانها (لا وصية لشاعر ناشئ). يضع أمجد نفسه راوياً عن شاعر (دسكره الغبار في مدينة يمتحن الغبار صبرَها) التقاه في السبعينات. هو لم يقرأ رسائل ريلكة إلى شاعر شاب، لكنه يوجه نصائحه الضدية لشاعر شاب بشَعر طويل يقابله، لعله أمجد نفسه، تبدو عليه حداثة ذلك العقد الغريب، فينهاه عن قراءة الكتب التي لا يعجبها العجب. نشر أمجد القصيدة في مجلة «الدوحة» عام 2015، ونشر معها قصيدة تستكمل أجواءها وتفاصيلها، وتمهّد لها هي (سلّم الشعر) ملمّحاً إلى قول الحطيئة في قصيدةٍ: الشعر صعبٌ وطويل سلّمُه.
ويقدم للشاعر الشاب مقترحاً: (وأنت تضعُ أوّلَ خطوة لك على سُلّم الشِّعر: تصفَّحْ هذه الكتب، ولكن إياك أن تغرق فيها، فالحياةُ.. هي لُحمة الشعر وسُداته!).. (لكنك لم تتبع نصيحته تماماً. إذ لا وصية لشاعر ناشئ). بل ينهاه عنها: لا تقرأ هذه الكتب.. وبدلاً عن تلك الكتب التي تلقن بملل وعجرفة يوصيه عقب النهي مستخدماً الأمر (أصغِ إلى تكتكة الساعة وهي تقضم الأزمنة… وإلى العندليب وهو يشهق في الهواء..). ثم يفترق الشاعران (فالاثنان رأيا الشعر وربما الحياة في مكان آخر..).
إن رؤية أمجد ناصر للكتابة الشعرية ترفض الوصايا والنصح، وتستبدل بهما الحياة والتأمل في الزمن ودلالاته. وكان في استيعاب قصيدة النثر للسرد تشجيع للشاعر كي يورد الحوار وينقل بالوصف ما بين الشاعرين من هوّة زمنية، ثم يضع لهما مصيراً في الحياة والشعر. لكنه كخلاصة لا يرى في الشعر وصية، وليس لشاعر وصفه بأنه ناشئ أن يبحث عن جدوى فيها.
***
ومع المجددين محدودي أفق الانطلاق بالكتابة إلى مدياتها الممكنة بحرية، سنقرأ تعاليم ونصائح ووصايا يمثلها الفصل الذي كتبته نازك الملائكة في كتابها «سايكولوجية الشعر ومقالات أخرى» بعنوان (رسالة إلى الشاعر العربي الناشئ). وفي عبارة افتتاحية تفصح نازك عن سبب كتابتها لهذه الرسالة فتقول: «إلى الشعراء العرب الناشئين الذين كتبوا إليّ يسألونني كلمةَ توجيه ونصح تعينهم على درب القوافي». وهي ملاحظة استباقية توجه قراءة القراء – لا الشعراء الناشئين فحسب – إلى ستراتيجيتها في الرسالة التي تقوم على ثنائية النصح والتوجيه. لذا كانت وقفتها وقفة الوصي على قاصر ناشئ، وصفتْه في المخاطبة بالشاعر (اليافع). هنا اختلط العمر أو الفترة الزمنية بقصد الشاعرة وهي تزجي نصائحها وتوجيهاتها. فهذا الشاعر ناشئ عمرياً، وليس شعرياً. بمعنى أن حداثة سنّه ترافق وتوافق فتوة تجربته. فهو إذاً بهذا الوصف استحق أن يكون موقعُه في الخطاب متصاغراً عمرياً وشعرياً. كما أنها ربطت الهدف بتقديم ما يعين ذلك الناشئ في ما أسمته (درب القوافي) ترميزاً لوجهة نظرها في الكتابة الشعرية الملتزمة بالقوافي كنغم خارجي، وذلك ما وصلتْ إليه نازك تراجعاً، حين كتبت الرسالة الجوابية لسائلي النصح من الشعراء.
لا غرابة من بعد أن تقدم نازك دروساً تتضمن فوائد علمية، لكنها كلها مستخلصة من تجربتها ورؤيتها في مرحلتها الثانية، حين أعلنت تحفظها على ما كانت قد بشرت به في مقدمة ديوانها «شظايا ورماد» عام 1949، داعية إلى هجر القاعدة في الكتابة (لأن اللاقاعدة هي القاعدة الذهبية) كما تنقل عن برنارد شو.
هنا تزجي النصائح والتوجيهات حول اللحن أو الموسيقى الشعرية، ومزالق الوزن كما تكرر في الوصية، ولغة الشعر التي تصفها بالتيه الجميل. وتؤكد على ضرورة دراسة العروض وعلم الأوزان، وتنبه إلى أن الشعر الحر لا يفرط بالموسيقى وتدعو للانتباه إلى ذلك.
تفترض نازك أن بالشاعر الناشئ حاجةً لتجنب (المزالق). ذلك أنها برِمة وضجِرة مما صارت إليه دعوتها لكتابة (الشعر الحر)، وما جرى من توسيعات وتمددات إيقاعية وخطية ولغوية لم تكن في مخططها.
تحتوي رسالة نازك على نموذج مثالي للوصية التي يكتبها الأعلى للأدنى. وهي تستخدم لغة الخطاب النصحي بإصرار، فتتصدر جملها كلمات مثل (ينبغي ويجب واعلم وانظر واحذر وتذكّر، وما يساويها مثل انبهك وعليك أن..). لكن نازك منشغلة بتفصيل مطول لأهم ما تراه من قضايا فنية وحياتية، أبرزها الإفصاح عن حقيقة رؤيتها للشعر الحر ورفضها للغموض المصطنع وتقليد الآخرين، لاسيما نصوص الشعر الغربي الخالية مما أسمته الخُلق والقيم الروحية. فتنهى الشاعر الناشئ عن نظم المعاني الجريئة والمخلة بالأدب و(الكلام الرخيص)، بدون أن تنسى التحذير من الخروج على قواعد اللغة. وتحث على الاهتمام بالأدب، من دون أن تغفل دوماً عن التذكير بالتمسك بما تتميز به القصيدة العربية بحسب رؤيتها.
وفي رسالة نازك موضوعات فرعية أشبعتها دراساتها، كصلة الشعر بالحياة، ونزع الوهم بسهولة نظم الشعر الحر التفعيلي. وتلتفت ناقدةً إلى شعر(اليافعين) كما تسميهم. وتذكر للمخاطَب أنماطا مما تشخصه كنقص في المواهب، وضعف القراءة، والجنوح إلى التقليد بأنواعه.
لقد كانت وصية نازك للشاعر الناشئ مناسبَة لبسط آرائها والذبّ عنها بحماسة، وتُجْملها كدستور للكتابة يتخفى وراء مقام النصح الذي تعلم هي وبتجربتها أن الشباب لا ينصاعون له ويضجرون من تكراره. فطريقهم كما هو معروف، شخصي وخاص ومهمة ذاتية، كما تخبرنا التجارب عبر تاريخ الكتابة.