يجد قارئ الشعر المغربي الحديث مشقة وعنتا في تتبع بدايات حداثته ومنصاتها السجالية، وذلك لتناثر وتفرق المصادر والإحالات بين الصحف والمجلات المغربية وغيرها، التي اهتمتْ بهذا الشعر منذ فترة الحماية إلى ما بعد الاستقلال سنين عددا، وهو ما يُبرر افتقادنا لمُسودات أو «مونوغرافيات» حوارية وسيرذاتية واكبت هذا الخطاب وانتسبت إليه بوعي أو بآخر داخل تعقد سلطة الخطابات المختلفة في تحاورها أو تنافرها، تاريخيا وأيديولوجيا وجماليا.
انفتاح وصراع
في الثلاثينيات من القرن العشرين، ورغم النظام الاستعماري الذي لم يكن يسمح بالعمل الثقافي، بدأ الحديث عن حركة شعرية مغربية مُصاحَبة برؤى وأنظار جديدة أخذت تؤطرها وتلقي الضوء عليها، بل كانت ترتقي بفهمها للفن الشعري ووظيفته إلى مستوى النقاش الثقافي من خلال ثنائية قديم/ جديد على أي نحو من الأنحاء. كان هم الرعيل الأول من النقاد ومؤرخي الأدب المغربي، في أول العهد، هو بعث الأمة المغربية ثقافيا وأدبيا وربط ماضيها بحاضرها، وهو ما جسده ظهور كتاب محمد بلعباس القباج «الأدب العربي في المغرب الأقصى» (1929)، الذي يريد أن يزيح «خمول الذكر ما لا ترضى به أمة تنشد الحياة، وتؤمل أن يكون لها مركز في الوجود»، أو كتاب عبد الله كنون «النبوغ المغربي في الأدب العربي» (1938)، الذي كان له تأثير كبير على هذه الحركة منذ تلك الفترة. ورغم الهم التاريخي- التجميعي الذي وجه الكاتبين لسد «الثغرة الإقليمية»، إلا أنهما سعيا إلى تحصين مكتسبات الراهن وتجسيد الوعي بالذات الثقافية، وهما يعاصران نهضة شعرية متنامية. يقول عباس الجراري: «وفي ظل هذا الوعي وما صاحبه من يقظة وانبعاث غدت الثقافة أداة فاعلة ومؤثرة تسعى إلى الخروج عن تقليديتها التي ربطتها بعلوم فقهية ولسانية مجمدة في قوالب تُكرر وتعاد، وتحرك الأدب نحو النهوض بعد أن كان مقصورا على بعض الفنون كالرسائل والمقامات». ثم تطور الأمر إلى الإصغاء لحداثة شعرية عبر تحرير خطابها الموازي ـ تدريجيا – من «القراءة السلفية» التي كانت تهيمن على المناقشات وتنظر إلى الشعر بوصفه «مجرد ثقافة مكملة لشخصية العالم»، على حد تعبير أحمد الطريسي أعراب، وبعد ذلك من إكراهات «القراءة الوطنية» حيث كان الشعر جزءا من المعركة ضد الاستعمار، وكان رجال الحركة الوطنية بدورهم شعراء وفاعلين ثقافيين؛ مثل أحمد بلافريج وعبد الخالق الطريس وعلال الفاسي وغيرهم، الذين رأوا في «إحياء» الشعر المغربي وربطه بأصوله التراثية ودمجه في محيطه العربي، جزءا من رسالة خطابهم النهضوي، الذي يهدف إلى إثبات هوية هذا الشعر وشخصيته الثقافية وتميزه القومي.
يقول عبد الله كنون: «كنت أقول لمركادر، صاحبة مجلة «المعتمد»، نحن مشغولون بالمعركة الوطنية، والشعر الإنساني سيأتي وقته بعد الاستقلال».
لا ننكر أن انفتاح الحركة الشعرية والنقدية في المغرب على نظيرتها في المشرق، شَكل حافزا وعاملَ عافيةٍ بالنسبة إليها، لأنها أكثر زخما ونَشاطا بفضل السجال القوي بين تياريها الإحيائي (أحمد شوقي) والرومانسي (عباس محمود العقاد)، ضمن عموم الإنتاج الأدبي لأعلام النهضة العربية، والذي كانت تصل أصداؤه إلى المغرب مع الكتب والمجلات والصحف بوتيرة منتظمة، وتتفاعل معه وتحاول النسج على منواله؛ نجد أدباء هذه الفترة، مثل سعيد حجي ومحمد أبا حنيني وعبد الكبير الفاسي، يكتبون مقالات حول أعلام مدرسة النهضة في المشرق، وكان بعضهم مع مدرسة الإحياء والآخر مع مدرسة الديوان الذي يقودها العقاد، وهو ما خلق في حد ذاته نقاشا في صميم العملية الشعرية. كما انفتحت الحركة نفسها على مدارس الشعر الأوروبي من كلاسيكية ورومانسية وبرناسية، وتعاطت معها بوعي أو آخر في أبعادها الجمالية والإنسانية، وكان بعض الشعراء على اتصال مباشر بالغرب، فرنسا وإسبانيا تحديدا، مثل: عبد السلام العلوي، وعبد المجيد بن جلون، وإدريس الجاي، ومحمد الصباغ الذي جسد من خلال مجلة «المعتمد» نموذج الشاعر الإنساني المتفتح، بل عكس من خلال تجربته مع الشعر المنثور روحا أكثر تجديدا وانفتاحا على الشعر الحديث.
في هذا المنظور، كانت الحركة تواجه تداخل الأزمان في زمان واحد، أو بعبارة عبد الله كنون: «التقينا بالشعر دفعة»، ثُم انتهت هذه الحركة في أواسط الخمسينيات إلى ما يشبه تقاطبا شعريا ثنائي الأبعاد؛ رومانسي وواقعي، أطلق العنان لمخيلات الشعراء الشباب، بقدر ما قلص نفوذ نظرائهم الشيوخ ودائرة شعر الإصلاح والمناسبات. فمن جهة أولى، أوجد الرومانسيون من الشباب (محمد الحلوي، عبد السلام العلوي، عبد الكريم بن ثابت، عبد المجيد بن جلون، إدريس الجاي، محمد الطنجاوي، مصطفى المعداوي، إبراهيم السولامي) صُوَرا وقِيَما فنية جديدة هي امتداد للتيار الوجداني في الأدب العربي، لكنها ذات وقع حاد في مجتمع شبه منغلق وتعابير حياة مسكوكة، فيما هم يتغنون بمشاعر الذات الوجدانية والخيال وجمال الطبيعة والمرأة في عالم بديل، ويضفون على أشعارهم روحا إنسانية مطلقة. فكانت هذه الأشعار بمثابة احتجاج على العالم الكائن، بما فيه من قبح وفساد، وعبّرت عن نزعة فردية طافحة جوبهت بالرفض من طرف النقاد المحافظين، ولهذا أحس هؤلاء الشعراء الشباب بغربتهم داخل المجتمع.
وفي المقابل، مال شعراء الاتجاه الواقعي (علال الفاسي، علال بن الهامشي الفيلالي، محمد الحبيب الفرقاني، محمد الوديع الأسفي) إلى التعبير عن هموم الوطن وواقع الإنسان المغربي الذي يرزح تحت قيود الاستعمار، بضمير «نحن» التضامنية بدل «أنا» الفردية، قبل أن يتلون بطابع أيديولوجي وطبقي نتيجة تطورات السياق الاجتماعي بعد الاستقلال. غير أن هذا الصراع بين الفريقين أعطى الأولوية لصالح المضمون الشعري على حساب الشكل أو البناء الفني للقصيدة، ولهذا بدا كأنه صراع أفكار ومبادئ عامة وفلسفية لتعزيزها وتحريرها من التأويل التقليدي – الفقهي الذي كان يغلب المعايير الأخلاقية والوطنية في الحكم، ولم يكن صراع أبنية واستراتيجيات لكتابة جديدة خارج المجمع عليه بحصر العبارة. ولكن يبقى أنه راكم تصورات ومقولات جديدة بالنسبة إلى الوعي النقدي ومفرداته الخاصة بتجسيد شعرية النص في مقوماته الرومانسية (اللغة، الصورة، البناء التوشيحي لإيقاع القصيدة)، مثلما أعاد إنتاج قيم عامة وأخرى ذات مرجعية «هُوياتية»، وهو ما غنمته الحركة الشعرية في الستينيات وتفاعلت معه في بداياتها الأولى، قبل أن تستقل بذاتها كجيل وتجربة حداثية في سياق ما استجد من أفكار وأطروحات وأُتيح لها من نشاط تدريجي على مستوى النشر والتداول. ويجدر بنا ـ هنا- أن نؤكد أن تطور الشعر المغربي لم تنقطع سيرورته قياسا إلى زخمه، وأن حقبة ما بعد الاستقلال لا يمكن فصلها عما كان قبلها، وبالتالي من المهم التنويه بمبدأ الاستمرارية في حركة الشعر العربي الحديث والمعاصر في المغرب، دون أن ينفي ذلك وجود انقطاعات داخل هذه السيرورة بسبب غياب التراكم النصي والتنظير له بشكل يُبنى فيه السابق على اللاحق.
الحاجة إلى تاريخ جديد
إلى جانب كون المصادر التي وثقت بدايات حداثة الشعر المغربي قد طواها النسيان، ثمةَ في جانب آخر ظواهرُ حاسمة تكون قد ساهمت في التباس هذه الحداثة والتهوين من شأنها تاريخيا؛ مثل: الانقطاع، والتعثر، والارتباط بالظرف الآني، والتغييب، والانتقال المفاجئ بين أنواع التأليف الأدبي؛ وهي الظواهر التي ميزت مجمل وجوه ثقافتنا الحديثة، بقدر ما كانت تعكس في الصميم غياب بنية ثقافية مؤسسة لها حضورها وامتدادها. ولهذا، نفهم ضعف نسبة المجاميع الشعرية المنشورة، إذ لم تصدر على مدار فترة الحماية سوى خمس مجاميع، وهي: «أحلام الفجر» لعبد القادر حسن (1936)، وديوان محمد بن محمد مكوار (1937)، و»باقة شعر» لعبد المالك البلغيثي (1947)، و»لمحات الأمل» لعبد القادر المقدم (1948)، و»شجرة النار» لمحمد الصباغ (1955).
كما كان لكثافة الحجب الذي مارسته المؤسسة الثقافية الرسمية أثره في هذا الالتباس، إذ لم يلْقَ الشعر كبير اهتمام في سنوات حداثته الأولى، وإذا كان الأمر مفهوما من طرف ممثلين «رسميين» ونقاد محافظين، فليس الأمر كذلك بالنسبة إلى مؤرخ ومثقف تنويري مثل عبد الله كنون، وهو يقول: «أما الشعر الحديث فلستُ قادرا على أن أصدر بشأنه حكما، هل أصحابه موجودون أم غير موجودين؟». وبدورها لم تدخل الدراسات الأدبية الحديثة هذا الشعر في اعتبارها أو ضمن إشكالاتها النقدية، نتيجة وقوعها تحت تأثير «المركزية المشرقية». لا نقصد هنا المؤلفات التي أرخت للشعر العربي وحسب (الزيات، جرجي زيدان، الرافعي، حنا فاخوري..)، بل كذلك مجموع الدراسات الأساسية التي واكبت مشاريع الحداثة الشعرية العربية، وبنت عليها مفاهيمها واستراتيجياتها في التحليل والحكم (عز الدين إسماعيل، إحسان عباس، محمد شكري عياد، أدونيس..)، وقس على ذلك المجلات الرائدة مثل (الآداب). قد يكون تأخر الشعر الحديث في المغرب سببا، ولكن ليس كل الأسباب المعقولة. وهذا ما يؤكد سلطة المركز الثقافي على الأطراف من خلال ما توافر له من شروط وعناصر تتعلق بالإنتاج والتداول والانتشار. فلم يكن هذا المركز، كما يقول محمد بنيس، تنحصر سلطة مؤسسته في ذاته، «ولكنها تتسع كعلاقة قوى، بوظائفها وشعائرها، إلى المحيط الثقافي».
إن أي بحث في هذا الموضوع الإشكالي ينبغي أن يجعل مدار انشغالاته قائما على تتبع مختلف القضايا السوسيوثقافية والفكرية والفنية، ومناقشتها في ظل المؤشرات النصية التي كانت القصيدة المغربية الحديثة والمعاصرة، منذ حقبة الستينيات، تعبر عنها، وتنهض من أجل تعزيز سيرورتها التحديثية وهويتها الكتابية الجديدة، تبعا لأوضاعها وأساليب تعبيرها ورؤاها للعالم في منجز مُمثليها الأساسيين. وبالتالي يكون مسعى هذا البحث متوجها إلى الكشف عن أبرز مسارات هذه القصيدة ومُنْعطفاتها الدالة في حوارٍ ممتد ومتواتر بين أجيالها، ثُم بينها وبين التراث الشعري الذي ما زال يشتغل كإطار مرجعي، وبين حركة الشعر الحديث في المشرق العربي من جهة، والشعر الأوروبي، الفرنسي والإسباني تحديدا، من جهة ثانية. مثلما في تدبيرها لأشكال صوغ الذات الشاعرة وحضورها في العالم، بل في صراعها مع الزمن السياسي والثقافي الذي انتمت إليه وما ألقاه من آثار وندوب على فكرها وجسدها وعلاقاتها الملتبسة بالأشياء والعالم.
كاتب مغربي