إن كنت ذاهبا الى مدينة ‘ساليرنو’ ستمرّ بمحاذاة بركان ‘فيزوف’ الشهير الذي ربما تكون قرأت عن ثوراته العارمة في مناهج الدراسة، وكان آخرها، حسب علمي، في منتصف القرن العشرين. لم ينطفىء هذا البركان القديم ولم تخمد الحمم، تماماً، في أحشائه النارية. فقد ترى دخانا وبخارا يتصاعدان من إحدى فوهاته الغامضة.. لكنك مع ذلك ستجد أن الحياة لم تهجره تماما. هذا ما رأيته عندما مررت به برفقة صديقي الفنان والشاعر العراقي فوزي الدليمي، قبل بضع سنين، في طريقنا الى ‘ساليرنو’ في الجنوب الايطالي.
وقفت برهبة تحته. لكن رهبتـــــي زالت وأنا أرى بشـــراً يعيشون بالقرب منه. قال لي فـــــوزي، الذي يقيم منذ السبعينات في ايطاليا، إن البركان لا يزال نشطاً، فهو ‘يتحرك’ بين حين وآخر ولكن ليس إلى حد يشكل فيه خطراً حقيقياً على محيطه.. حتى الآن. رأينا بيوتاً عند كعب الجبل وأناساً وحيوانات ترعى بالقرب من البيوت.. بكل اطمئنان.
قال فوزي إن الأرض في هذه المنطقة مزهود فيها. فمن يرغب في أن يجاور بركاناً نشطاً إلاّ من لا يملك بناء بيتٍ وامتلاك حقلٍ في مكانٍ آخر؟ لقد حاولت الحكومة أن تخرج هؤلاء المواطنين من هذه المنطقة ولكنها لم تستطع.
فكرتُ: كيف يمكن للمرء أن يشاطر بركاناً السكنى وأن ينام، مطمئناً، بجانبه؟
لكن ‘فيزوف’، الذي تراه وأنت ذاهب من ‘نابولي’ إلى ‘ساليرنو’، ليس المكان العلم الوحيد في هذه الجهة من إيطاليا، بل تمكن رؤية أطلال واحدة من أكبر ضحاياه طراً: مدينة ‘بومبي’ الشهيرة التي ضربها زلزال مدمر عام 36 للميلاد، ثم قضت عليها ثورة بركان ‘فيزوف’ عام 79. ويبدو أن فيزوف، حسب إحدى الروايات التاريخية، ظل يقذف رماداً ودخاناً لعدة أيام قبل ثورته الأولى لذلك رحل معظم سكان البلدة عنها، وعندما ثار البركان وحلت الكارثة على المدينة لم يكن هناك الكثير من السكان. بيد أن رواية أخرى تقول إن البركان فاجأ الأهلين في ثورته العارمة ولم يتمكن من الفرار سوى قلة، بل ان من فرَّ خنقته الغازات التي صاحبت ثورة البركان بمن فيهم المؤرخ الروماني ‘بليني الكبير’ الذي هرع الى المكان كي يسجل الواقعة. هناك تضارب أيضاً في عدد سكان المدينة ولكن التقديرات تقول إنهم كانوا في حدود 10 آلاف. ويعتقد أن 2000 شخص قضوا في بيوتهم، أو في شوارع المدينة وهم يحاولون الفرار. البيوت والشوارع طمرت قروناً تحت طبقات من الرماد الصلب. ولم يكشف النقاب عن هذه المدينة المنكوبة سوى في القرن الثامن عشر.
لعل ‘بومبي’ هي المدينة الوحيدة في العالم التي حافظت على لحظة ثابتة من التاريخ. لحظة جمدتها حمم البركان الى الأبد. فهناك بشر صاروا مومياوات حجرية. لم يحدث في التاريخ أن بشرا صاروا، فعلا، حجرا بكل معنى الكلمة. يمكن لك أن ترى كيف حفظ فن التحنيط المصري بشرا ميتين، لكن رماد بركان ‘فيزوف’ وأخلاطه العجيبة حفظا بشرا في حالة حركة. أي رهبة تصيبك وأنت تعرف أن تحت هذا الكائن الجصيّ شخص من لحم ودم ورعب، وها هو مجمد في آخر حركة قام بها: احتماء بزاوية ودفع الساقين كدريئة، استلقاء على الارض وتلوٍ من الألم، تكور في محاولة لحماية الرأس. الى غير ذلك من اوضاع تبدو مسرحية لمن يشاهدها.
كل ما كان في ‘بومبي’، قبل أن تطمر المدينة تحت طبقات من الرماد، ظل محتفظاً بهول الكارثة، حتى ليمكنك أن ترى أماً تحضن طفلها ذا السنين الأربع لتحميه من العصف مجمدة في هيئة الرعب التي رأتها في تلك اللحظة. أحد الناجين من الكارثة يصف اللحظة المريعة التي ثار فيها البركان قائلا في رسالة إلى المؤرخ ‘بليني الصغير’: إن السماء أظلمت، فجأة، كما لو أنها غرفة مغلقة. غرفة بلا نوافذ على الاغلب.
أطلال المدينة تلوح، لمن يراها من كعب الجبل، عالية ومعتصمة بغموض ميتافيزيقي، تشعرك برهبة الواقعة التي أحيلت، في واحد من التفسيرات الأخلاقية المتهالكة، إلى ما عرفته المدينة من تهتك وسهر سادر كان يصل الليل بالنهار!
‘ ‘ ‘
ستة عشر قرنا فقد فيها أثر ‘بومبي’. يرد اسمها في التاريخ ولكن لا وجود لها حتى العام 1748 عندما كشف النقاب عن ‘بومبي’ وشقيقتها الاقل شهرة منها ‘هيركولينوم’ لتصبح بعد ذلك واحدا من أكثر الأمكنة الأثرية استقطابا للزوار في العالم. وها هما ‘بومبي’ و’هيركولينوم’ يحطان الرحال في ‘المتحف البريطاني’ في معرض ضخم يضم قطعا ومقتنيات وصورا من تينك المدينتين الرومانيتين، قد يكون الاكبر من نوعه خارج ايطاليا. (يستمر المعرض حتى نهاية أيلول (سبتمبر) القادم). يعيد معرض ‘المتحف البريطاني’ بناء جوانب من حياة المدينتين ويبعث اشكالا من النشاط الاجتماعي والفني اندثرت، وعادت، من تحت طبقات الرماد البركاني المتجمد. هناك قطع متعددة تعكس الاحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لهاتين المدينتين اللتين كانتا تطلان، بدعة واسترخاء، على الأزرق المديد للمتوسط، غير أن الاكثر إثارة للتأمل والدهشة هو المهد الخشبي لإحدى العائلات الرومانية الذي حفظه الرماد البركاني كما كان عليه عند هبوب ‘التسونامي’ الذي ضرب المدينتين (يقال إن سرعة العصف البركاني تجاوزت مئة كلم في الساعة!) بما في ذلك الطفل في مهده!
فها هو طفل روماني في مهد خشبي لا يختلف كثيرا عما هو عليه اليوم أمام زوار المتحف البريطاني بالقماط الذي قمطته به أمه قبل ألفي عام!